القطار الذي فات ـ بصمات وخطوات من سيرة ذاتية

القطار الذي فات

 

غلاف القطار

إلى ليلى
شكرا واعتذارا

1 ـ بـئر الكرمة

منذُ عهد قديم كانت الصِّلات مُستمرّةً وثيقة ببن أهالي الجنوب التونسيّ والعاصمة وهي مُوَثّقَةٌ منذ العهد الحفصيّ على الأقل.
أخبرني عمّي الأكبر أنه أدرك دكانَ جدّه قُرب جامع الزّيتونة عند بداية نهج ـ تُربة الباي ـ وكان أوّل مَحط رحاله من غمراسن عندما قَدِم إلى تونس العاصمة مع جدّته طفلا وقد كانت رحلتُه على متن عربة ,وذكر لي عمّي أنّ أربعةً من الخيل كانت تتناوب في كل مدينة فسارت بحثيث السّير يومين وليلةً, وبتطوّر وسائل النّقل أضحت الرحلة العاديةُ تدوم يوما كاملا أو ليلة بتمامها.
كانت العائلة الكبرى تجتمع مع بقيّة الأقارب في الحُوش ليلةَ السّفر لتوديع المسافر قُبيل المغرب فيخيّم حُزن ثقيل يحاولون إخفاءه بالدّعاء ـ بين الحين والحين ـ أن تكون الرّحلةُ سالمة والسّفرةُ ميمونةً والعودة كاسبة غانمة…ويحمل بعضُ المُودّعين السّويق والقديد زادًا للمُسافر والبعض يُسلمه رسالة أو صُرّةً ويُوصيهِ ببعض الأمور فلا بريدٌ ولا هاتفٌ ولا أنترناتٌ في ذلك العهد بباديةِ ـ بئر الكرمة ـ حيث عاش الأهلُ مثل غيرهم من هجرة الرّجال جيلا بعد جيل .
عند عودة أحدهم ـ مرّة أو مرّتين في السّنة ـ يجتمع الأقارب في حُوش العائلة المنحوت غارًا بجانب غار في سَفح هَضبة تُطل على أشجار الزّياتين والتّين المغروسة في جَنبات الوادي حيث بئر الكرمة فيتربّع ذلك العائد مُبتهجا على إهابِ خروف وحصير ويجلس إلى جانبه أكبرُ رجال العائلة الواحد بجانب الآخر بحسب الأعمار وقد تتصدّر المجلسَ الجدّةُ أو العمّةُ العجوز إذا كانت أكبر الحاضرين فهي التي تُشرف على توزيع كؤوس الشّاي الأخضر المُنَعنع وهي التي تقوم بفتح الحقائب والأكياس وهي التي تُوزّع الهدايا وتُقسّم بالقِسط الحُمص المقليّ حفنةً حفنة على الحاضرين والغائبين مع حلوى الشاميّة, ويتنازل عادةً الرّجال عن نصيبهم لفائدتنا ـ نحن الصّبيان ـ فترانا نُبادر إلى الحلوى فنجعل من قراطيسِها أوراقا نقديةً نطويها بعناية ثم ندسّها في جيوبنا .
ما أجملَ ذلك الزّمن ـ رغم شَظف عيشه ـ حيثُ عاشت فيه عائلتُنا الكبرى حول بئر الكرمة على الوئام والمحبّة في ما بينها وبعزّة وكرامة مع غيرها…ولكن هيهاتَ فقد توالت سنواتُ الجفاف وشحّت ينابيع البئر وتزاحمت فيه الحبال والدّلاء وطال حول حوضه الاِنتظار إلى أن يبست أغصان التّين والزّيتون ووحده النّخل ظل أخضر شامخا فنزحنا إلى العاصمة عائلةً تِلوَ عائلة وتشتّتنا في شوارعها وأحيائها وضواحيها وعندما رحل الكبارُ اِنقطعت العلاقات والمَودّات بيننا شيئا فشيئا حتّى أمسَى البعضُ لا يعرف الآخر بل ونسي أو تناسَى بئرَ الكرمة فَما عادَ يُذكَرُ على الألسنة إلا نادرًا…وَاحَسْرَتَاه !

2 ـ الغار

غارُ حُوشِنا القديمِ
مَثَله مَثَلُ رَحِمِ الأرضِ
دافئ في ظلامِهِ
أليفٌ في صَخْرهِ
لا وحيَ فيهِ
إلاّ… هَمْسُ الأرض !
في حُوشنا القديم
مائدةُ الشّايِ كانتْ تجلسُ القُرفُصاء
في الظلّ .. بيننا
مرّةً في الصّباح مرةً في البُكاء
حينمَا
خرَجتْ جدّتِي في بيَاضِ البيَاض
اِنتظرتُ
اِنتظرتُ
لمْ تعُدْ!
في حُوشِنا القَديم
أبِي .. مُتربّع على حَصيرهِ
حبّةٌ إثرَ حَبّةٍ … في سُبحتِهِ
صحراءُ في صمتهِ
أسمرُ في جُبّتهِ
البيضاءِ !
أمّي
عروسٌ دائمًا
ما أحلى بَسمتَها في سِواكهَا
بين الجَمر والفِنجانِ يدُها
لمّاعةٌ فِضّتُها في سِوارها

فِي حُوشنا القديمِ
الشّمسُ
تَرْتقِي… تَتدَحرَجُ أمامي
ثمّ تَغرَقُ في الرّمل
النجومُ
أقربُ إليَّ من السُّوق
كمْ مرّةٍ اِشترتْ عيناي
تصاويرَ بالألوان
مِن الأقمار
كم مرّةٍ رَكِبتُ الهلال أُرجُوحةً
وغسَلتُ له يديهِ
في إناءِ الفَخّار
في حُوشنا القديم
الشّوْكُ والحَصى
أقدامِي كانتِ الأرضُ
على مَدى البَصرْ
بلا حذاء .. بلا حُدود
وبلاَ جَواز سفرْ !

3 ـ ليلة السّفر

ليلةُ السّفر…ما أطولها من ليلةٍ تلك التي بِتُّ فيها إلى جانب أمّي في غار حُوشنا ببئر الكرمة مُنتظرًا الفجرَ وأزيز مُحرّك سيّارة الأجرة التي ستحملني إلى تونس للدّراسة حيث سأقيم لدى عائلة عمّي عبد الرحمان التي لم أكن أعرف منها أحدا إلا جدّتي فقد ذهبتُ إلى تونس في الرّابعة من عُمري للعلاج من رَمدٍ كاد يُتلف بصري لولا حرص والدي الذي عالجني لدى أمهر طبيب في تونس حيث أقمت بضعة أشهر لدى عائلة عمّه سيدي سالم بالقرب من حي باب الجديد .
رحماك يا أُميمة !
لكأنّ فراقك مكتوب على جبيني منذ صغري فنشأتُ على تجذّر الحنين إليك… حنينٌ ضرب عروقه عميقا في كياني باكرا…باكرًا في ذلك الفجر من خريف عام 1958 ركبت سيّارة الأجرة التي وقفت أمّي بعيدا عنها على اِستحياء مُلتفّةً في مُلاءتها وبُخنقها وأذكر أنها دفعتني بشيء من الشدّة قائلة بهمس وقد لاحظت تعلقّي بها
ـ اِذهبْ…لا تبكِ…الرّجال لا يبكون
ـ بل الرجال يبكون يا أمّي
وما أحرّ بكاءهم
يبكون في حُرقة وصمت
يبكون يا أمّي … في كبرياء
رحماك يا أمي!

لماذا لم تتركيني أضمّك عند ذلك الفجر وأزيز محرّك السيّارة يُفرقع صمت المدى مع نباح الكلاب…لا شكّ أنك أردتِ أن لا أبدو أمام أعيُن الركاب طفلا مُدلّلا بل أحببتِ أن يروني رجلا شديد المِراس فقد أطعمتِنِي في  عشاء تلك الليلة من كبدِ جَمل وقلب ذئب…لذلك ربّما وقتها، لم أبك وإليكِ لم ألتفت،لكنّي حملت مُحيّاك حيثُما حللتُ…
رحماك يا أمّي !

ليلةَ سَفره
كان في السّادسةِ
في العَشاء
نَاولتْهُ أمُّهُ شِواءً مِنْ كبِدِ جَمَل
ومنْ قلبِ ذئبٍ
كيْ يَكونَ جَلَدًا صَبُورًا
فَطِنًا ذكيًّا
لمْ يبكِ عندَ الوداع في ذلكَ الفَجر
لمْ تَجرِ لهُ دَمعةٌ أبَدًا
جَرى ما جرى
رأى ما رأى
فَتحمّل الجَملُ ولا يومًا اِشتكى
إنّما لم تبدُ للذّئب مخالبُ
ولا أنيابٌ
تعلّم الصّبيُّ من الألف إلى الياء
غير أنّه يامّا
كانَ دائمًا
!
أوّلَ الأغْبياءْ

4 ـ سيدي رزيق

لا أتذكّر الوقائعَ والمشاهد التي قطعتْ فيها سيّارةُ الأجرة المسافةَ من غُمراسن في أقصى الجنوب إلى ضاحية ــ سيدي رزيق ـ فقد اِستغرقتُ في نوم عميق وعندما فتحتُ عيني رأيتُ فيلاتٍ ذاتَ حدائقَ غَنّاءٍ على جانبيْ طريق خالية من الحركة وكانت السيّارة تنعطف حينا وتتمهّل أحيانا ليسأل السّائق أحد المارّين فشعرت أنّني قاربت على الوصول .
مازلتُ أتذكّر لحظة حيرتي وذهولي حينما نزلت أمام حديقة رأيت فيها أنواعا شتّى من الزهور والأشجار أبصرتُها لأول مرة فعرفت بعدئذ أنها الموز والإجاص والياسمين والبنفسج… فأين أنا من جنوب  الجفاف الذي يُخيّم على القِفار حيثما جال البصر في مداه لولا بعض شجيرات التّين والزيتون والنخل هنا وهناك أو في بطون الأودية ، شُجيرات تضرب جذورها عميقا وبعيدا بين مفاصل الصخور تتلمّس الثّرى فتستسقي بعروقها ما يتسنّى لها من رَشْح بقايا الغُدران التي تجود بها قطرات السّحب مرّة أو مرتين طيلة أعوام عِجاف ليس لها من رَواء إلا الصّبرُ والاِنتظار .
أصابني ساعتَها ، وأنا أتابع الاِخضرار من زجاج النافذة ، ذهولٌ واِندهاش فقد اِنتقلتُ بين فجر وغروبه من شَظف البداوة إلى تَرقّي الحضارة إذْ عندما نزلتُ وحطّت رجلي على الإسفلت اللامع النّظيف كِدت أخلع حذائي لأمشي حافيا كعادتنا في ربوع غُمراسن عندما نجلس على حصير أو زربية…وسِرتُ في ممشى مُعشّب بين صَفّين من بديع  ألوان الزهور …مَن أوصلني ؟ مَن اِستقبلني ؟ كيف نِمتُ ؟  لا أتذكّر من كل ذلك شيئا.
أتذكّر فقط أنه من الغدِ وجدت نفسي أقف في الصفّ أنتظر الدخول إلى قسم السنة الأولى مع أطفال على غاية من حُسن الهندام وتبدو على وجوههم النّعمة والرفاهة ونظراتُهم ترشقني في اِستغراب وبشيء من الاِزدراء أيضا فلا شكّ أنهم تساءلوا عمّن يكون هذا الولد ذو البَشَرة التي لفحتها الشّمسُ وظل مُنزويا باهتا في كل ما حوله ؟
جلستُ على مقعد إلى الطاولة قبل الأخيرة في الصفّ الذي أمام مكتب المُعلّم ومازلت أتذكّر مشاكسة تلميذ مشاغب جلس إلى جانبي إذْ مرةً يجذبني من كُمّي ومرة تتسلل يدُه إلى جيبي فكنتُ على مدى الحصّة أدفعُه عنّي من دون أن يشعر المعلم الذي بدا على غاية من اللطف والأناقة في كسوته السّوداء وقميصه الأبيض وربطةِ عُنقه المتناسقة الألوان بين الأحمر والأسود والأبيض وكان يتنقّل بين الصفوف بخطاه الوئيدة فيئزّ حذاؤه الأسود اللمّاع حتى إذا دنا منّي سألني عن اِسمي ليسجّلني في دفتر المناداة فتردّدتُ ثم تَمْتمتُ ولم أستطع نطقه إلا بعد تلعثم فاِنفجر التلاميذ ضاحكين ومتعجّبين من اِسمي الغريب فلم أكد أُفصحُ عنه إلا بعد جُهد جهيد فقد اِنسدّ النّفَسُ وثَقُلت الحروفُ على لساني لكأنها من الصّخر وتكوّرت وتكرّرت مرّاتٍ عديدةً بين حلقي وشفتي وزادَ من اِرتباكي ضحكُ التلاميذ وتهكّمُهم بالرغم من تصدّي ـ سِي المنّوبي ـ لهم !
لم تُجدِ نفعًا يا أمّي تلك الألسِنةُ السّبعةُ التي أكلتُها في عيد الأضحى لتُطلق عُقدةَ لساني !
لقيتُ ـ سيّدي ـ ذاك بعد سنوات عديدة في النّادي الثقافي بضاحية ـ الزهراء ـ بمناسبة أمسية ثقافية حيث كان من بين الحاضرين أيضا المُمثّلُ القدير محمد بن علي والشّاعر عبدالرحمان الكبلوطي فَحَيّيتُ سِي المنّوبي بما يستحقّ من اِحترام وتقدير وشُكر ووفاء وكم كنتُ سعيدا بلقائه خاصّة وقد رأيته في صحّة وعافية.
أذكر بكل إكبار المعلمبن الذين كان لهم الفضلُ في فتح طرقات المعرفة أمامي فسِرتُ فيها بشّغف ومُتعة فأولئك المعلمون هم الذين شجّعوني وصَبروا عليَّ وتحملوا حُمقي ونزَقي أحيانا ولئن لقِيتُ من بعضهم بعضَ شدّة فإنّما هي صادرةٌ عن حرص ومحبّة !
في المرحلة الاِبتدائية درّسني العربيّة السيّد ـ شَعَار ـ في مدرسة نهج المغرب بتونس العاصمة وكان يتميّز بلباسه التقليديّ التونسيّ من الشّاشية إلى الجُبة والبُرنس وكان حريصًا على دروس النّحو ورسم الهمزة ودرّسني مسيو ـ بُوليلو ـ الفرنسية وقد كان حريصا على حُسن هندامنا ودرّسني مسيُو ـ سعادة ـ الحساب وبفضل هؤلاء المعلّمين الأفذاذ وغيرهم اِكتسبتُ أسُسًا متينةً في مواد العربية والفرنسية والحساب .

قلمُ واللّســــانُ ذَهــــــبْ * ذكرياتِي بتِبْرٍ كَتَــــــــبْ
أينُ منهُ يَراعُ الصِّـبـــــَا * كمْ بَريْتُ دَقيقَ القَــــصبْ
و رَسَمتُ الحُروفَ على * لوحةٍ مِنْ صَقِيلِ الخَشـَبْ
و دواةٍ كَلَيْلٍ سَجَــــــــى * لونُها البحرُ فِيهِا اِنْسَــكبْ
و مِنَ الطّينِ قَوَّرتُـــهَا * حِبْرُهَا سَاطعٌ كالشُّــــهُـــبْ
تَحتَ قِنديل زَيتٍ بَــدَا * راقصًا فِي ضِياءِ الــــلّهــبْ
و دُخانُ الشَّذى عَبِـــقٌ * مَائِسٌ طيفُهُ كاَلْخَـبَــــــبْ
فِي الشّتاءِ أنيسٌ لنَــــا * بِخَيالِ حَكايَا العَــجَـــــــبْ
سَنَواتٌ مَضَى عَهدُهَا * مَا ألذَّ دِثَارَ الكُـتُــــــــــــــبْ
لمْ نَجِدْ فِي الصِّبَا غيرَهُ * فَلــبِسْــــــــنَـا ردَاءَ الأدَبْ
و بِرغْمِ البِلَى لا نُبَدِّلهُ * لوْ بِأعْلَى الـــرُّتــــَـــــــــبْ
و مَدَى العُمرِ نَذْكُرُهُ * فَلقَدْ كانَ أوَّلَ حُـــــــــــــبْ

5 ـ صلاة العيد

كنتُ في العاشرةِ عندما دَعاني أبي ليلةً أن أرافقَه في الصّباح الباكر إلى جامع الزّيتونةِ لأحضُر معهُ صلاة عيد الفطر فعلّمني الطّهارةَ والوُضوء وكيفيّة أداء الصّلاة وُقوفًا ورُكوعًا وسُجودا وجُلوسا وكم بِتُّ سعيدا ليلتَها لأنّي أحْسَستُ بشدّة قُربي من والدي عند معاملتِه لي معاملةَ الصّديق والرّفيق، يومَذاك نَهضنا باكرًا وحَرَصت أمّي على أناقتِنا بعنايةٍ فائقة ،أبي في جُبّته البيضاءِ وشَاشِيته الحمراء وأنا في كسْوتي الإفرنجية الجديدة أحاول السّير على نَسَق خُطاهُ فمَضينا نشُقّ أنهُج مدينةِ تونسَ العتيقةِ الخافتةِ الأنوار في غَبَش الفجر، سَعَينا باكرًا حِرصًا على صلاة الصّبح في الجامع ،ومازلتُ أذكر شَذى العِطر الفائح ونحنُ نرتقي درجاتِ الباب الكبير من ناحية سُوق العطّارين ،وما كدتُ أخطُو خُطواتٍ في صَحْن الجامع حتّى بَهرتني أضواءُ الثّريات المُتناسقةِ التي قابلتني من الأبواب وسُرعان ما اِنتبهتُ على صوت أبي ونحنُ نَدلُف إلى قاعة الصّلاة يطلُب منّي بِرفق قبل خُطوتين من العَتَبة الخشبية أن آخذ حذائي بِيَساري وأن أقابل بينَ أسْفليْ فَرْدَتَيْهِ ثمّ يُبادر بمُساعدتي في نَزعه وأدخُل ـ مثلمَا أوصاني ـ برجلي اليُمنى أوّلا ، وتلكَ من آداب المسجد الرمزية واللطيفة فَوَطأتُ على وَجَلٍ حَصير المسجد وأنا مُنبهرٌ جَذلانُ .
رحماكَ يا أبي !
مازلتُ أذكُر كيفَ أجلستَني بقُربك بعدَ ركعتَيْ تَحيّةِ المَسجدِ ، فها أنا اليوَم وبعد أكثرَ من خَمسين عامًا أعُودُ إلى نَفس المكان بالقُرب من السّاريةِ نَفسِها في جامع الزّيتونة الفَسيح البَهيّ فأشعُر كأنّكَ مازلتَ إلى جانبي بقُربي فتغمُرني السّكينةُ والمَسرّةُ وينتشِرُ مِن حَولي الأنسُ والطمأنينة .
رحماكَ يا أبي !
أنتَ الذي رأيتُ فيك الإسلام بصَفائهِ في بساطته وسَماحتهِ وأنتَ الذي رأيتُ فيكَ العَفافَ واللطفَ والكَدحَ والبَذل طول حياتِك ، لقَد كنتَ تُردّدُ دائمًا – اُدعُ إلى سبيل ربّك بالحكمةِ والموعظةِ الحَسنة – و – اِدفعْ بالتي هيَ أحسنُ – و – لا يُؤمن أحدُكم حتّى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه – و ـ المُسلم مَنْ سَلِم النّاس مِن لسانِهِ ويدِهِ ـ
رحماكَ يا أبي !
ما كدنا نَفرُغُ من صلاة الصّبح حتّىَ اِنبثَق صوتٌ لطيفٌ وديعٌ يُرتّل آياتِ القرآن الكريم في أناةٍ ووُضوح ، إنّه صوتُ الشّيخ عليّ البَرّاق ولمّا شعُر أبي بعدم راحتي في جِلستي على الحصير ساعدَني في كيْفيّة التَربّع ثمّ أسندني إليه فأخذتْني إغفاءةٌ خفيفةٌ لم يَقطعْ حلاوتَها إلا اِرتفاعُ الأصواتِ وهيَ تُسبّح وتُحَمدِل وتُكبّر في تناغُم واِنسجام حتّى فُتِح البابُ المُحَاذي للمِحراب على مصراعيْهِ وخَرج منه الإمامُ مَحفوفا بالشّيوخ وهُمْ في تَمام اللّباس التّقليديّ التّونسي بعِماماتِهم الكبيرةِ وقد جعلوا فوقَها تَواشيحَ تَنسدِل على أكتافِهم حمراءَ خضراءَ وصفراءَ فبدَا أولئِكَ الشّيوخُ مَوكبًا مُهيبًا في وَقار وخُشوع وفي بَهرجة لم ترُقني ، ثمّ سكتَ الجَمعُ عن الإنشادِ بعد جِدّهم وحَماسِهم حينمَا وقفُ الإمامُ فِي المِحراب فقُمنا صفًّا صفًّا لصلاةِ العيد .
بعدَ التّسليم رأيتُه يقفُ ويُسَوّي مِن هِندامِه ثُمّ يَخطو في أناةٍ مُتّجِهًا إلى المنْبر ذِي النّقائش الهندسِيّة البديعةِ الأشكال ويأخُذُ عَصًا على يَمينه بجانب المِنبر ويركُزُها عَلى دَرجتِهِ الأولى ثُمّ يَصعَد مُتَمهّلا في بُرنسِهِ الأبيض الخفيفِ ، تلك العصا ـ زعمُوا ـ أنّها نفسُ عَصا الإمام اِبن عرْفة الذي قال عندمَا تولّى إمامة الجامع

يَرفعُ الدّهـــــرُ أنـــــاسًــــا  بعد أن كانُوا سُـــفالــــــــهْ
مَن لهُ في الغَيبِ شــيءٌ  *  لمْ يَمُتْ حتّى ينالــــــــــهْ

مازلتُ أذكُرُ ـ ونحنُ في طريق الإيّاب وقد خالفْنا به طريقَ الذّهاب ـ حديث أبي بشغَف عن اِبن عرْفة وإخلاصِه في طلب العلم والتّدريس كامل حياتِه مع تواضُعه، لم أكن وقتَها أعلمُ يا أبتاهُ أنّك تُوصيني من حيثُ لمْ أدرِ باِتّباع سِيرتِهِ

عند سَحور أوّل يوم في رمضان
يخرج أبي من بيتنا
يقف عند العَتبة
تمامًا كما يستقبل الضّيف يقول
ــ أهلا وسهلا
مرحبا و بالبركة

عند آخر مَغربٍ في رمضان
يخرج أيضا أبي
كما يودّع أعزّ الضّيوف :
ــ بالسّلامة و إلى اللّقاء

منذ عام
ودّع أبي رمضان
من عادته يسير معه بعد الباب
خطوتين
أو ثلاثا

هذه السّنة
سار خَطواتٍ أكثرَ
إلى ما بعد الزّقاق
فوقفت عند العتبة…أنتظر

رمضانُ عاد
أبي … لم يعُدْ

6 ـ المليحةُ العذراء

عندما اِخترتُ شُعبة الآداب في المرحلة الثانية من التّعليم الثّانوي اِنتقلت من معهد الصّادقية إلى معهد اِبن شرف فدرّسني الأستاذ الشيخ سيّدي محمد سلاّم المعلّقات وشِعرَ جميل بثينة وبشّار وأبي نواس .
كان شيخنا يجلس على كرسيّ مكتبه فيُسَوّي من هيئته ويُخرج حُقّة النّشُوق ثم ينطلق في الدّرس كالمحاضرة فيشرح الكلمات بالعودة إلى أصلها واشتقاقِها ويُبيّن مختلف معانيها مُستشهدا بالشّعر والقرآن فأطلعنا على ثراء اللغة العربية ودقائقها, وصادف أن درّسنا أبا نواس في شهر رمضان فكان يُبدي تبرّمه من شرح قصائده وكثيًرا ما يستغفر اللّه عند بداية قراءتها لكنّه عند آخر الدّرس يدعو له بالمغفرة
صادف أيضا أن جاءت إلى تونس في تلك السنة الفنانة ـ هُيام يونس ـ التي غنّت قصيدة – رَمَت الفؤاد مليحة عذراء –وقد بثّها التلفزيون التونسيّ فجاء شيخنا من الغد وهو يَلهج بالقصيدة المغنّاة ويُثني على صاحبتها بالفصاحة فقال شيخنا إنها أحسنت نُطق الحروف من مخارجها الصّحيحة وأبلغت معاني القصيدة البديعة, وعندما لاحظنا شدّة إعجابه بالأغنية سألناه في مَكر عن رأيه في تلك المغنية ؟
تنهّد شيخُنا ودَقّ من نَشُوقه في أنفه وقال :
– 
هي الغادةُ حقّا وكأنّ القصيدة قيلت في وصفها !
كان شيخُنا كثير الاِستشهاد بالزّمخشري والأصفهاني وهو لا يعترف بالأدباء والشّعراء المعاصرين ويعتبر لغتهم غير فصيحة حتّى طه حسين يرى في أسلوبه تكرارا ثقيلا …أمّا أبو القاسم الشّابي فيعتبر شعره الرّومنطيقيَّ لا يرقى إلى وصف الطبيعة وغيرها في شعر اِبن الرّومي واِبن خَفاجة !.
رحمَ الله شيخي ! كان مُخلصا لثقافته التقليدية المتينة ووفيّا لذوقه القديم وكان مُحافظا على الزَيّ التونسيّ الأصيل صيفا وشتاءً مثل أستاذي الشّيخ سيّدي محمد علي السّهيلي وأستاذي الشّيخ سيّدي محمد الأخوة الذي درّسَنا مادّة التّربية الإسلامية بروح الرّفقة والمحبّة فغرس في نفوسنا القِيم الإسلامية السّمحةَ وقد زاد إجلالا وإكبارًا لدينا عندما كان يَهُمُّ يومًا بدخول القاعة إذْ أصابت وجهَهُ فَردةُ حذاءِ أحدِ التّلاميذ وقد رمى بها زميلا له فلم يغضبْ شيخُنا وإنّما أخذها وقال له بلطف :
ـ لا تَمش حافيًا يا ولدي !
ودرَسْنا الجغرافيا لدى الأستاذ سيّدي عبد الحميد الجربي ومازلت أذكر كيف كان يُبدي اِستغرابه من سياسة الدّولة الاِقتصادية القائمة على الاِشتراكية بالاِعتماد على القروض الرأسمالية ودرّسنا الأستاذ سيدي أحمد قاسم التاريخ المعاصر بداية من الثورة الفرنسية إلى حرب فلسطين سنة 1948 فكانت دروسه تفتح في أذهاننا مجال الوعي بالقضايا العربية, والأستاذان عبد الحميد الجربي وأحمد قاسم قد أتمّا دراستهما العالية في المشرق العربي مثل سيّدي عبد الكريم المرّاق أستاذ الفلسفة.
لذلك أعتبر أنّه من حُسن حظّي أنّني تتلمذت في تعليمي الثانوي إلى أساتذة جهابذة في اللغة العربية وأدبها إذ أنّ أغلبهم من خرّيجي جامع الزيتونة المتضّلعين، أما في اللغة الفرنسية فقد درّسني أساتذة فرنسيون كانوا حريصين ـ والحق يُقال ـ على تعليمنا بإخلاص ونزاهة بعيدا عن كل الشّوائب الاِستعمارية بل كانوا يصرّحون لنا بحبهم لتونس ولحضارتها العريقة ومساندتهم للقضية الفلسطينية ،ودرّسني اللغة الإنقليزية أساتذة شُبّان من الولايات المتّحدة الأمريكية وقد عبّروا لنا مرّاتٍ عديدةً عن رفضهم لحرب بلادهم في الفتنام، ودرّسني الموسيقى الأستاذ سيّدي العنّابي الذي كان يعزف لنا على كمنجته ونغنّي معه بعض الموشّحات والأناشيد ، وفي الرسم درّسني الأستاذ ـ مَسيُو سَرفَاتي ـ وهو من أشهر الرسّامين التونسيين في الأكَوَرال ، فأنا من جيل تلقّى تكوينا ثقافيّا عميقا ومتنوّعا لذلك نشأنا على الاِعتزاز بتجذّرنا في وطننا وحضارتنا وعلى الاِنفتاح على بقيّة الحضارات والأمم ضمن القيم الإنسانيّة الخالدة .
كيف أنسى السيّد ـ أحمد ـ بوّابَ المعهد الذي كثيرا ما أنشدَنا قصائد المتنبّي والمعرّي والشّابي وغيرهم فكنا نَعجَب من قوّة ذاكرته ومن عدم تناسُب مستواه الثقافيّ مع مهنته فكنّا نُجلّه ونُفاخر به تلاميذ المعاهد الأخرى الذين نلتقي بهم في ـ مقهى سيدي بوسعيد ـ عند باب العُلوج حيث كنا نجلس فيه كلما سمح لنا جدول أوقات الدّراسة فالمقهى لدى البعض قاعة للمراجعة والمطالعة وهو للعب الورق لدى البعض الآخر وهو لدى آخرين مكان اِستراتيجيّ حيث يراقبون منه الرائحات والغاديات من آنسات معهد نهج الباشا وقد عُرف ذلك المقهى أيضا ببثّه لأغاني أمّ كلثوم من المُسجّل القديم صباحا مساءً…
هيهاتَ… قد غزا التلفزيون والفضائيات الدّيار والمقاهي فما عُدت أسمع عندما أمرّ من ذلك المقهى ـ رباعيات الخيام ـ أو ـ أنا في اِنتظارك ـ أو ـ سيرة الحبّ ـ
إنّ الاِستماع إلى أمّ كلثوم في ذلك المقهى له رونقٌ باذخ ومُتعةٌ عجيبة .
ولكن…هيهات…هيهات…!!

7 ـ الرّصاصةُ الطائشة

بعدما تخرّجتُ من كلية الآداب بتونس في جوان 1976 تقدّمتُ مع بعض الأصدقاء إلى الخدمة العسكرية بثكنة التّجنيد قرب باب سَعدون ومنها اِنتقلنا في عَربة الجيش إلى الأكاديمية العسكرية بجهة ـ فندق الجديد ـ حيث تدرّبنا مدّة أربعة أشهر وتخرّجنا ضباطا برتبة مُلازم… لقد اِنسجمتُ بسهولة مع ضرورات الحياة العسكرية باِعتبارها فترة لن تستمّر طويلا .
كانت تجربة مفيدة وثريّة من خلال تدريبنا على مختلف الأسلحة وتعرّفنا على فنيّات القيادة وبفضل الدّروس النظرية والتطبيقية التي قدّمها لنا المختصّون فقد كنّا محلّ رعاية مركّزة, ومن حفظ الله ولطفه بي أنّني نجوت من رصاصة طائشة كادت تصيبني في صدري عندما كنّا واقفين في الصفّ أمام الأهداف نتدرّب على الرّمي بالمسدّس إذ بصديقي الواقف إلى جانبي يُوجّه مسدّسه نحوي بَدل أن يُنزله عموديّا في اِتجاه الهدف وليس يدري كيف اِنطلقت الرصاصة فأصابت ـ والحمد لله ـ مُقدّمَةَ حذائي فحسب، حينها قال لي الضّابط المباشر :لا تَخفْ فالرّصاصة التي تقتُل تُصيب قبل أن تُسمع !
في أوائل سنة 1977 وبعد التّدريب المُركّز والسّريع نِلت نجمة ضابطٍ ملازم وتوجّهتُ إلى القاعدة الجويّة ببنزرت حيث اِستقبلني آمرُ جيش الطيران بترحاب لم أكن أتوقّعه فقد تقدّم نحوي من مكتبه بعد ما حيّيته تحية اِنضباط واِحترام ودعاني إلى الجلوس في الصالون مُبديا اِستبشاره بتعزيز سلك ضبّاطه بمتخرّج من كلية الآداب ليكلفه بتدريس المواد الثقافيّة في المدارس العسكريّة المختصّة في جيش الطيران وبمساعدة بقيّة الضبّاط عند الحاجة .
في مساء ذلك اليوم الشتائيّ خرجتُ من القاعدة الجويّة بزيّ الضبّاط الرسميّ والنّجمتان تلمعان على كتفيّ وقَصدت وسط مدينة بنزرت التي زرتُها من قبلُ برفقة والدي بمناسبة الاِحتفال بذكرى الجلاء الأولى لعل ذلك سنة 1963 فجالت في خاطري بعض ذكريات ذلك اليوم المشهود عندما رفعني أبي على كتفيه بين الحشود لأشاهد من قريب موكب الزعماء بورقيبة وعبد الناصر وأحمد بن بَلّة ومعهم وليّ العهد حسن الرضا الليبيّ, إنّها مناسبة فريدة عبّرت عن الوشائج العميقة بين بلدان المغرب من ناحية وبينها وبين بلدان المشرق من ناحية أخرى ولكنّها مناسبة تاريخية سُرعان ما جرفتها الِاختلافات التي ظلت متواصلة حتّى إن هدأت حينا سُرعان ما تَشُبّ من جديد لتُهدَرَ الطاقاتُ العربية الكبيرة وتُداسَ الشّعوب تحت أحذية المستبدّين بالحكم الفرديّ في هذا البلد العربيّ أو ذاك .
كانت فترةُ الجنديّة التي قضيتها في بنزرت مُهمّة وثريّة بالتجارب خاصة من الناحية الإنسانية فقد وقفتُ على كثير من النماذج النفسية والسلوكية التي شاءت الأقدار أن تجتمع في تلك القاعدة وقد ضمّت عسكريين من مختلف الرّتب والاِختصاصات والأعمار والمستويات الاِجتماعية ومن شتّى المدن والأرياف والجهات التونسية .
من طرائف الوقائع التي عشتُها أنّه بمناسبة ذكرى الجلاء عن بنزرت اِنتظمتْ مسابقات رياضية بين مختلف الجيوش وبما أنّي كنتُ أصغر الضبّاط فقد أجمعُوا على أن أتقدّم إلى مباراة الملاكمة على أن يشارك مَن يريد مِن الضبّاط الآخرين في بقية الألعاب فما كان من ذلك الملازم إلا الموافقةُ رغم علمه بما ينتظره من منافسه القدير ولكنْ ـ مُكرهٌ أخاك ولا بطل ـ فلا تَسل عمّا ناله من خصمه الذي كان من مفتولي عضلات جيش البحر إذِ اِنهال عليه بلكمات كأنّها المطارق عازمًا على إسقاطه بالضّربة القاضية من الجولة الأولى لكنّ ملازمنا عَرف كيف يتصدّى له ويصمد مرّة بمراوغة رأسه يمنةً ويسرة ومرّة بسرعة تنقّله ممّا جعل خصمه يَفقُد تركيزه في تسديد لكماته فبدَا عليه الغضبُ خاصّة عندما يُحالف الحظُّ الملازمَ في النّيل منهُ, وكان الاِنتصار من نصيب الملاكم البحريّ طبعا !
المهمُّ… أنّ الملازمَ نجا بأخفّ الأضرار ومن الضّربة القاضية على كل حال !

8 ـ مجالسُ الأنس

سلامًا على تلك المجالس
سلاما على تلك المقاهي
سلاما سلامًا

عديدةٌ هي المقاهي التي جلستُ فيها للقراءة والكتابة حينا ولمحادثة الأصدقاء حينا آخر من بينها مقهى المغربالذي كان بشارع فرنسا فقد كان يرتاده كثير من الأدباء الذين أدركتهم من بينهم ـ البشير خريف ـ وأبو زيّان السّعدي ـ حسن نصر ـ والتّابعي الأخضر ـ وقد جلست فيه لأوّل مرة مع الأديب علي دَبْسنة 1972 فصرت أستأنس بالجلوس فيه كلما وجدت الوقت المناسب خاصّة عندما أقتني الصّحف والمجلات من الكُشك المقابل له على الرصيف فأسارع بتصفحّها وقراءة بعض الصفحات منها حيث يطيب الاِنزواء هناك في عشيّات الصّيف على زقزقات أسراب عصافير أشجار باب البحر ، لكنّ مقهى المغرب تحوّل منذ سنوات عديدة إلى دُكانيْن لبيع الملابس الجاهزة فكم جلس الأدباء هناك وكم وقفوا أمامه في أحاديث لا تنتهي وكم من كتاب وكم من مجلّة وصحيفة تبادلوها وكم من قصيدة وقصّة ومقالة قرؤوها وكم من فكرة تطارحوها !
سلاما على ذلك المجلس
سلاما على ذلك المقهى

سلاما سلاما على مقهى – الكونبشارع الحبيب بورقيبة فقد جلستُ فيه سنوات عديدة مع أصدقائي الشّعراء محمد رضا الكافي وعبد الحميد خريف وخالد النجار ومختار اللغماني وعزوز الجملي ومحمد أحمد القابسي والتهامي الهاني ومع عديد الشّعراء والأدباء الآخرين بالإضافة إلى بعض أصدقائي من طلبة كلية الآداب بتونس من بينهم علي عبيد ومحمد علي بالعابد وأحمد الدبّابي والبزّازي العيّاري الذين كانوا من رفقاء الجنديّة أيضا, كنت أجلس في مقهى ـ الكون ـ عند الصّباح فبعد الظهر يمتلئ بفئة أخرى من الروّاد الذين يتحلّقون صاخبين وشاءت الظروف أن أغيب عن ذلك المقهى سنوات متوالية بعد أن تفرّق الشّمل ثم جلستُ فيه مرة بعد ذلك فإذا النادل قد عرفني وتذكّرني ولم يشأ أن يقبل مني ثمن القهوة حتّى بعد إلحاحي، أحسست حينذاك بعمق المشاعر الإنسانية التي تُفاجئنا من لَدُن أشخاص بسطاء نلتقيهم في خضمّ الحياة اليومية فيشحذون نفوسنا بقيم المروءة والشهامة .

وتعودُ
خُطايَ إلى المقهَى القديمِ
كان المَشربُ على اليسارِ
ذكرى لأصحابِي
فصارتِ الكأسُ اليمينَ مَجراهَا
والجالسونَ على اِنتظارِ
قد وقفُوا
ثمّ رحلوا بالأعوامِ على عَجلٍ
أرى…لاأرى
وحدَها المَرايا
لمّاعةٌ
هُنّ سبعٌ وسبعونَ من بياضِ الثّلج
على هامتِي
غير أنّ الشّمسَ في الشّارع
زقزقاتٌ و لوحاتٌ
فتونسُ العصافيرُ ما بَرِحتْ
وما بَحّتْ
وإن قطعُوا شجرَ باب البحر قالت
سأبني أعشاشِي في السُّطوح
وفي زوايا الجُدْران
وعلى الأسلاك قالتْ
وإن هدّمُوا… وإن ردَمُوا قالتْ
أجيءُ بين الحُلم و الحُلم
أسرابًا أسرابًا… فوقَ الجُفون
مُزقزقةً في طيّاتِ المعاطفِ
وإن طال الشّتاءُ
سأنسابُ
وأبني أعشاشِي في القلوبِ
قالت
الخضراءُ خضراءُ
في كل الفُصول
كلُّ نافذةٍ… نافذتِي
كلُّ بابٍ… مَفتوحٌ
لأحبابِي
عندما أدخلتُ يدي في جيبِي
مُنصرفًا
كدتُ ألامِسُ ريشَها
فأسرعَ النّادلُ وتَلقّانِي
ثمّ هَشَّ وبَشَّ وقال
هو أنتَ…وبالأحضان
قهوتُكَ يا سيّدِي
على حسابِي

سلاما سلاما
سلاما على مقهى ـ الرّوتوندة ـ ببناية الكُوليزي بشارع بورقيبة فقد جلستُ فيه سنواتٍ عديدةً خاصة عند صُبحيات أيّام الأحد حيث تلتئم في رُكن من الطابق العلويّ منه جماعةُ ـ نادي القصّة ـ ومن بين المواظبين على ذلك المجلس الأدباء : رضوان الكوني وأحمد مَمُّو ومحمد الهادي بن صالح والتّابعي الأخضر ويوسف عبد العاطي والناصر التّومي ومصباح بوحبيل وغيرهم ويِحُلُّ بينهم من حين إلى آخر أدباء وصحفيّون آخرون فهذا المجلس الأدبيّ ظل سنوات مستمرّا حتّى أضحى مُلتقًى وعنوانا معروفا بين الأدباء التونسيين وحّتى لدى كثير من الأدباء المشارقة وهو أقرب إلى أحاديث الأنس وتبادل الأخبار والكتب والتعارف منه إلى الخوض في المسائل الجديّة العميقة وقد جلستُ في هذا المقهى عند الصباح في غير أيام الأحد أيضا فأنتحِي طاولة جانبا وأنكبّ على القراءة أو الكتابة ساعة أو ساعتين ثمّ أنصرف وقد جلستُ في رحاب ذلك المقهى مع أصدقاء كثيرين من الأدباء والشّعراء والصحفيين من بينهم محمد المَيْ ومحمد بالرجب ونور الدين بالطيّب وسالم اللبّان وغيرهم… فساحتُه الداخليّة هادئة وقليلة الروّاد في الصّباح لكنها بعد الظهر تُمسي حلقات حلقات تعُجّ بالدخان و القوارير الأخرى .

سلاما على ذلك المجلس
سلاما على ذلك المقهى
سلاما سلاما على مقهى – فلُورنس – في أوّل شارع قرطاج فقد عرفت فيه عن قُرب صديقي الشاعر محمد بن صالح الذي بادرني بالتحيّة بعدما تملّى ملامحي فصرنا نتواعد فيه كلما أتى إلى العاصمة من المنستير وقد ضمّ هذا المقهى مجلسا صباحيا يوميّا متنوع الروّاد وكنت أجلس فيه من حين إلى آخر لمعرفة آخر أخبار الأنشطة الثقافية وقد كان من روّاده المواظبين المُمثّل محمد بن علي والسينمائي عُمَار الخليفي والموسيقي محمد القرفي والفنّان الفوتوغرافي محمد العايب والأدباء محمود بلعيد وسمير العيادي ومحمد بن رجب ومحمد الفريقي وعبد الحميد خريف ونور الدين بالطيّب وآخرون يجلسون قليلا أو يمرّون وقد ألقوا التحيّة عابرين من بينهم الرسّام بوعبانة الذي كان يجلس وحده.
ولا أنسى السيّد حسن بوزريبة المسؤول عن مهرجان قرطاج في بعض دوراته والذي اِستجاب لاِقتراحي في تنظيم سهرة الشّعر بمسرح قرطاج سنة 1992 .
كانت سهرة ممتعة متنوّعة الأصوات وبإخراج مسرحي للبشير الدّريسي الذي اِقترح أن يسير الشّاعر في ممشى بين الشّموع ثم ينزل إلى الركح على مدارج فُرشت بساطا أحمرَ إلى أن يقفَ أمام المنصّة فيُلقي ما أراد من شعره ـ بدون رقابة مُسبقة ـ في مُدة عشرين دقيقة
تسلّم كل شاعر في تلك السّهرة مكافأة مالية لعلّها كانت أكبر مكافأة في تونس بالنّسبة للشّعر !
وقد أقام الشّعراء الوافدون من خارج العاصمة في فندق أربعة نجوم وقدّم هؤلاء الشّعراءَ تِباعا في السّهرة الأديبان محمد البدوي وعلياء رحيم…
سلامًا على تلك السهرة
سلاما على تلك المقاهي
سلاما على ذلك الزّمن…

سلاما على شارع الرشيد ببغداد هو قلبها النابض إذْ تنطلق منه الحياة بطيئة هادئة وتعود إليه صاخبة هادرة على ضفّتيْ نهر دجلة…
من شارع الرشيد يمكن أن ترى الحضارة التي اِنبثقت في بلاد الرّافدين قبل آلاف الأعوام وذلك عندما تلاحظ البناء بقوالب الطوب ومن خلال خطوط المباني وزواياها, ويتسنّى لك أن تُلامس بصمات الحضارة العربيّة عندما تشاهد خشب النّوافذ والشّرفات وقد نُقشت بدقّة وفنّ ضمن ثنائية الأنوار والظلال طبقا لمتطلبات المناخ ولعادات الشّرق في حُرمة البيت، وما أروع المآذن الأسطوانية المُسَجّات بالخَزف الأخضر والأزرق والأصفر في هندسة تُثير التأمّل وتُشيع الجلال وتبعث الجمال نحو عوالم المحبّة والصّفاء !
تلك هي بغداد : أخذتْ من كل الحضارات وصهرتها وبتوالي العصور اِستطاعت أن تجعل لنفسها طابعا خاصّا يلوح في شاعريّة الحياة وفي الذّوق المرهَف وفي حركة الناس وهم يَسْعَوْنَ بجدّ رغم المِحن ورغم تحديّات الزّمن.
بالقُرب من شارع المتنبّي الذي يبدأ من شارع الرّشيد ثمّة مقهى أمّ كلثوم…إنّه مقهى طريف أوصلني إليه صديقي الشّاعر إبراهيم زيدان الذي تعرفت إليه سنة 1984 أثناء زيارتي الأولى لبغداد ومن تلك المناسبة صرنا أصدقاء…
كل شيء عتيق في هذا المقهى : من البلاط إلى الأرائك إلى المراوح المتدليّة من السّقف ومن الأغاني المسجّلة على الأسطوانات إلى الأغاني الأخيرة في السّبعينات لأمّ كلثوم, تلك الأغاني التي تستمرّ من السّاعة السابعة صباحا إلى الحادية عشرة ليلا دون اِنقطاع.
أنشِئ هذا المقهى في سنوات الستّينات من القرن العشرين وظلّ محافظا على نمطه وعلى تقاليده من أب إلى اِبن بدون أي تغيير لأن صاحبه الأوّل كان من عشّاق أم كلثوم وثمّة روّاد محافظون على اِرتيادهم هذا المقهى سنوات طويلة للاِستماع وتراهم ينتظرون أغنيتهم المفضّلة السّاعات الطوال حتى أنّهم صاروا يُعرَفُون لدى عريف المقهى بأغنية من أغاني كوكب الشرق فتراهم وهُم منصتون شاردين بين صَوتها وصُورها في مختلف المناسبات عبر السّنوات وهي تُزيّن جُدران المقهى التي ما كادت تلوح بينها… إنّهم روّاد أوفياء لأمّ كلثوم ـ السِتّ ـ ولأمّ كلثوم المقهى… إنّهم من أعمار متفاوتة ومن فئات متنوّعة تراهم يترشّفون الشّايَ وكأنّي بهم يترشّفون الفنّ الأصيل والذّوق الرّفيع, فما أروعها من ساعةٍ في ذلك المقهى !

9 ـ الهوى الأوّل

في العاشرة من عُمري اِصطحبتُ سِي الحبيب، وكان شابا من أبناء عمّ الوالد ،إلى المكتبة العمومية بنهج يوغسلافيا، نهج راضية الحدّاد اليوم، وسِي الحبيب كان على قدر كبير من اللطف والأدب وله بعض الرسائل مع ميخائيل نعيمة فقد اِلتقى به في تونس بمناسبة زيارته ويَعتبر تلك الرسائل أثمن ما لديه وينبغي أن أصرح أنه صاحب الفضل الكبير عليّ فقد بذر في مُهجتي محبّة الأدب ومطالعة الكتب وأذكر أن سِي الحبيب عبيد كان يراسل برنامج هواة الأدب بالإذاعة التونسية الذي كان يشرف عليه وقتذاك الشّاعر أحمد اللغماني وقد نال جائزة على إحدى قصصه, الجائزة كانت كتاب أحمد أمين – فيض الخاطر – بأجزائه العشرة ولكن سي الحبيب اِنقطع عن الدّراسة والكتابة مع الأسف فقد أقعده المرض المزمن وفَلّ من عزيمته لكنه ظل متابعا للحركة الأدبية والثقافية ومشّجعا لي دائما وهو الذي أهداني ديوان الشّابي فكان أوّل ديوان شعري في مكتبتي.

عندما دلفتُ إلى تلك المكتبة العمومية الكائنة في قلب تونس العاصمة غمرني شعور البهجة والاِنشراح والوَجل أيضا فلأوّل مرة أرى ذلك العدد الهائل من الكتب على الرفوف في نظام وانسجام وأرى القُرّاء منكبّين جالسين حول المناضد كأنّ على رؤوسهم الطّير فأحسست أنّ هذا المكان هو المقام الأليف الذي وقع هواه في مهجتي من أول نطرة ومن أول خطوة فلم أغادر المكتبة إلا بعد أن أتممت قصة –جزيرة الكنز – من سلسلة – أولادنا – ومازلت إلى اليوم بعد أكثر من نصف قرن أجلس في رحاب تلك المكتبة من حين إلى آخر فينتابني نفس ذلك الشعور الممتع كيف لا وبعض مؤلفاتي تصادفني أحيانا عند أحد الرفوف فأتذكر ذلك الفتى اليافع الذي تمنّى ذات يوم أن يكون له كتاب بين الكتب في تلك المكتبة التي طالع فيها جبران ونعيمة والمنفلوطي وطه حسين وغيرهم والتي قرأ فيها كثيرا من الروايات الفرنسية المنشورة في سلسلة– كتاب الجيب – ومن الكتب التونسية الأولى التي طالعها كتاب – معركة الجلاز – للأديبين محمد المرزوقي و الجيلاني بالحاج يحي الذي صار من أصدقائه وأهداه بعض كتبه التي ساهم بقصيدة قصيرة في أحدها فكم كان سعيدا عندما رأى اِسمه منشورا في كتاب ألّفه أحد الأدباء الذين قرأ لهم وهو فتى.
المكتبة الثانية التي أحببتها وأَلِفتُها سنواتٍ طِوالا من عمري هي المكتبة الوطنية بسوق العطارين وقد دخلتها أول مرّة عند دراستي في معهد الصادقية فقد لمحتها في طريقي جيئة وذهابا فتهيّبت الدخول إليها إذ كنت في السنة الأولى من التعليم الثانوي لكني لا أذكر كيف تشجّعت ودخلت فإذا بي أجد نفسي في عالم لا حدود له ولا أبعاد خاصة وأن القواميس والموسوعات ألفيتها في متناول يدي مباشرة على الرفوف فأبحرت فيها وما أمتعه من إبحار !…مازلت أذكر كيف أنّي وجدت صعوبة كبيرة لدى القراءة في قاموس ـ لسان العرب ـ فالطبعة الأصليّة الأولى التي وجدتها وقتذاك كانت الكلمات فيها مرتّبة بحسب أصل حروفها الأخيرة ولم أتفطن إلى ذلك إلا بعد عناء !

مكتبة العطارين

ما أروع سنوات العمر التي قضيتها بين رفوفكِ وعلى كراسيك الخشبيّة يا مكتبة العطارين !…
تحيّةُ شكر خاصّةٌ إلى عَمْ سالم الذي كان رفيقا بنا وحريصا على إحضار ما نطلبه من الكتب في لمح البصر ونَعجب من ذاكرته الدّقيقة التي تعرف الرّفوف والخزائن كتابا كتابا من دون الرجوع إلى الفهارس…وتحيّةُ شكر أيضا إلى سِي أحمد جليد الذي كان مسؤولا عن الدّوريات من صُحف ومجلات فكان لا يدّخر جُهدا في إحضارها إلينا…
أوّل ما طالعتُ في مكتبة العطارين روايات جُرجي زيدان و كتاب البخلاء وكتاب ألف ليلة وليلة وسيرة عنترة والفضل يعود إلى أستاذي سيّدي البشير العريبي الذي كان يحدثنا عن تلك الكتب فكنت أسعى إليها بلهفة وأقضي العطل في فضاء تلك المكتبة ذات الهندسة العتيقة فهي دافئةٌ شتاءً باردةٌ صيفا ثم قرأت فيها كتاب الأغاني وروايات نجيب محفوظ وكتب العقاد في السنة الثانية وتوالت سنوات الشبيبة بين قاعاتها وردهاتها أستنشق شذى الكتب والمخطوطات حتى اِنتقلت المكتبة الوطنية إلى بنايتها الجديدة في شارع أفريل.
كانت المكتبة الوطنية في سوق العطارين مُحاطة بعديد الكُتبيّات الخاصة التي تبيع الكتب العربية القادمة من القاهرة وبيروت ,من بين تلك المكتبات مكتبة علي المطوي القريبة من جامع الزيتونة وقد اِشتريت منها كتاب السدّ للمسعدي سنة1967 وأنا لم أتجاوز الخامسة عشرة من عمري واِشتريت منها أيضا دواوين نزار قباني وكتاب البيان والتبيين وغيرها من الكتب ومازالت هذه الكتبيّة موجودة ـ سنة 2016 ـ يقوم على أمرها ابنُه وإلى اليوم مازلت عندما أمرّ أمامها وأرى الكتب منضّدة أعودُ ذلك الفتى الذي كان يقف طويلا يتصفحّها ويقرأ الكثير من صفحاتها دون أن ينهره صاحبُها رحمه الله .
بالقرب من تلك المكتبة الخاصّة ـ مكتبة السيّد علي الطرابلسي ـ حيث كان يجلس فيها ثلّة من الأدباء والأساتذة تشرفت بمعرفتهم بعد سنوات عديدة من بينهم الجيلاني بن الحاج يحي ومحمد المرزوقي ومحمد اليعلاوي الذي درسني في كلية الآداب
للمكتبة الوطنية بسوق العطارين ذكريات في وجداني عبقة بما كان فيها من شوق عارم للكتب في سنوات الدراسة والطلب…كنت في كثير من المرات أوّل الداخلين وآخر المُغادرين…
اليومَ… عندما أمرّ أمامها أدرك معنى الوقوف على الأطلال.
لقد اِندثرت أغلب الكتبيات التي كانت محيطة بجامع الزيتونة وتلك التي كانت في شوارع تونس وتحوّلت إلى محلات للأكلات السّريعة أو دكاكين للملابس الجاهزة…فشتّان بين هذا العهد وذاك الزمن…ذاك زمنٌ نشأنا فيه على المطالعة فنهلنا من شتّى الأفكار المختلفة التي أخذناها من مصادرها الأصلية ومن معلّمين وأساتذة أفذاذ كانوا مخلصين لرسالة العلم والمعرفة وحضرنا في مختلف نوادي الثقافة ودُورها تلك التي كانت مثل خلايا النّحل تعُجّ بالروّاد والأفكار ومختلف الفنون مثل دار الثقافة اِبن خلدون ودار الثقافة اِبن رشيق والنادي الثقافي أبو القاسم الشّابي والنادي الثقافي الطاهر الحداد وجمعية قدماء الصادقية وغيرها… حيث أنصتنا إلى عديد الأدباء والشعراء والمثقفين تونسيين وعرب وغيرهم…ثمّ تراجعت الحياة الثقافية عامة في أواخر القرن العشرين حتى تدهورت خلال هذه السّنوات من – الربيع العربي– فأمست إلى السّطحية وإلى ضيق الأفق المعرفي تميل….وَاحسرتاه…فقد صار حالنا كقول الشّاعر القديم

رُبَّ يومٍ بكيتُ منهُ فلمّا صرتُ في غيره بكيتُ عليه

10 ـ الهوى الثّاني

ما أجملُ من الهوى الأوّل إلا الهوى الثّاني  !
فقد نشأ عن الهوى الأول وظل ملازما له دائما فسكن معه مهجتي بلا بغضاء ولا منافسة ولا حسد بل تعاشرا بالألفة والمعروف إلى اليوم حتى لكأن الواحد منهما أصبح توأما للآخر أو كجذع الشّجرة الذي تفرّع إلى فرعين .
عندما كنت أتردّد على مكتبة العطارين كنتُ أمرّ أمام مقهى الأندلس  القريب من جامع الزيتونة أيضا وهو مقهى من الطراز العتيق بطاولاته الرخامية الصقيلة وبكراسيه الخشبية الظريفة والمتناسقة مع اللوح الجميل المُخرّم الذي يغطي الجدران وصاحب هذا المقهى حريص عليه كحرصه على أناقة لباسه التونسي بالجبّة والبرنس والشاشية وكحرصه على ضبط وقته وهو يُخرج ساعةَ جيبه ذات السلسلة الذهبية من حين إلى آخر فكنت أراه جالسا على يمين مدخل المقهى وهو المركز الاِستراتيجي الذي يراقب منه الداخل والخارج ويرى منه جمبع الطاولات ومن حولها وما عليها فكنت أتهيب الدخول إليه فالمقهى كان يُعتبر في تربيتي مكانا للكبار فقط وهو فضاء مريب لأن الجلوس فيه مضيعة للوقت في الكلام ولعب الورق والقمار …غير أنّي علمتُ أن الشّاعر أبا القاسم الشابي كان يجلس مع أصدقائه في هذا المقهى فوجدت الذريعة لنفسي وتقدّمت إلى إحدى الطاولات وطلبت فنجان شكلاطة بالحليب كما فعل الذي كان جالسا بجانب الطاولة المجاورة وظل ذلك طلبي دائما.
يومها كان اللقاء الأول مع الهوى الثاني…هوى المقاهي
في مقهى الأندلس كنت أجلس أقرأ الجرائد والمجلات وبعض الصفحات من الكتب التي كنت أشتريها فأجلس في ناحية على عجل أكتشف سطورها بنهم على رشفات فنجان الشكلاطة بالحليب الذي من النادر جدا أن تجد نكهة مذاقه في المقاهي الأخرى.
في مقهى الأندلس جلست مع كثير من أصدقائي الأدباء والشعراء مثل خالد النجار وعبد الحميد خريف ومصطفى المدائني ومختار اللغماني ومحمد الطاهر الضيفاوي والحبيب السالمي ومحمد أحمد القابسي ومحمد البدوي وعزوز الجملي وغيرهم من زملاء كلية الآداب بتونس فقد كان ذلك المقهى ملتقى لرواد المكتبة الوطنية وقتذاك من طلبة وأساتذة وباحثين…
ومن رواد المقهى المواظبين الذين لا يجب أن أنسى ذِكرَهم – أستاذ التعاسة – هكذا عُرف بين الأدباء فقد كان يجلس بينهم من مقهى إلى مقهى ومن نادي  إلى نادي, هو رجلٌ لطيفٌ فصيحُ العبارة يلبس السّواد دائما ويخُوض في المسائل الفكرية والأدبية والسياسية ويُفيد ببعض التفاصيل أحيانا ومن خلال سياق أحاديثه يعلمك أنه اِنقطع عن تعليمه العالي بسبب دخوله السّجن ضمن بعض المحاكمات السياسية ثم بعدما غادره سافر إلى القاهرة وبغداد وبيروت فتعرف على كثير من الأدباء والشعراء والصحافيين والسياسيين, وهم أصدقاؤه جميعا وقد اِستنبط – حسب زعمه – نظرية خاصة به من خلال مسيرته وقراءاته أطلق عليها نظرية التعاسة وتقوم على أساس العيش الهامشي إن  – أستاذ التعاسة – شخصية عرفها أغلب أدباء سنوات السّبعين والثمانين في تونس وكانوا يلاطفونه ويحسنون إليه بما يتيسّر لهم غير أن بعض الشعراء الشباب الذين وفدوا على العاصمة وقتذاك اِنبهروا به فجعلوه مثالا لسلوكهم حتى جنحوا إلى الحياة الهامشية فظلوا مع الأسف على هامش الحركة الأدبية ولم يعمّقوا تجربتهم الإبداعية ثمّ حَدث ما لم يخطر على بال أحد فقد تحوّل المقهى في منتصف سنوات الثمانين إلى مقرّ بنك وقد اِنبرى حينذاك  عديد الأدباء والصحفيين داعين للمحافظة على المقهى لأنه يرمز إلى الذاكرة الثقافية فهو مَعلم من معالمها النابضة ولكن خاب المسعى فقد اِنتصر الدّينار والدولار على الأدب والأشعار وقد تحولت أيضا الكُتبيّة التي كانت بجانب مقهى الأندلس إلى دكان بضائع سياحية ولم يَبق من هاتيك المعالم إلا مطعم –المهداوي –المختصّ في الأكلات التونسية التي كان يطهيها على الفحم وفي قُدور من نحاس كبيرة .
منذ سنوات تبدّل كل شيء… فلا مكتبة عطارين ولا مقهى ولا شذى هاتيك العطور التي تنفحك وردا وياسمينا ومسكا وعنبرا وأنت تمرّ أمام الدكاكين الصغيرة المنضّدةِ قواريرُها بحُسن تنسيق وكثيرا ما يدعُوك أربابُها بلطف وظرافة إلى طيبهم و قَرنفلهم بل ويرشّونك بماء الورد والزّهر أحيانا .

11ـ السّردين والشّكلاطة

بينما نحن في درس العربية مع الأستاذ سيدي البشير العريبي بمعهد الصّادقية إذ تناهت إلى سَمعنا أصوات جَلبة فأغلق الأستاذ الباب ولكن سرعان ما اِقتحمت جماعة من التلاميذ مع شّبان آخرين القسم صارخين ـ فلسطين !! فلسطين !! ـ وطلبوا منّا المغادرة والخروج معهم للتّنديد بإسرائيل ، كان ذلك يوم أو جوان سنة 1967عندما اِنطلقت الهَبّةُ مع تلاميذ المعاهد المجاورة بقيادة طلبة كلية الآداب فسلكنا مُستنفِرين الناس أسواقَ المدينة العتيقة المحيطة بجامع الزيتونة حتى اِلتقت الجموع عند باب البحر حيث ـ وقتذاك ـ مقرّات بعض السّفارات الأوروبية والمركز الثقافي الأمريكي فهشّمت الجموع ما هشّمت وأحرقت ما أحرقت ولم يصدّها في آخر المساء إلا نفر قليل من الحرس الوطني المعزّز ببعض عمّال الميناء والشركات العامة حاملين هراوات يهشّون به علينا في الهواء ولكن نلنا منها بعد ذلك في التحرّكات الجامعية المختلفة ما ناله طبل العيد ، ثم بعد يوم أو يومين من تلك الأحداث كنتُ مع الواقفين على جنبات الطرقات نُودّع فِرق الجيش التونسي بالهتافات وبعُلب الأجبان والسّردين والشكلاطة أيضا وكان في ظننا أنه سيشارك في الحرب لتحرير فلسطين غير أنه ما كاد يصل إلى الحدود حتى قُضي الأمر وحلّت الهزيمة النكراء فلم يصدّقها حينذاك أغلب الناس الذين كانوا يستمعون إلى بعض الإذاعات ذات الحماسة الجوفاء والبلاغات الكاذبة.
في ظروف تلك الأحداث العربية الأليمة وفي خضمّ اِحتجاجات الشباب في العالم ضدّ حرب الفتنام وضدّ الميز العنصري في جنوب إفريقيا ومع بروز الحركات التحررية في شتّى أنحاء العالم تنامى لديّ الاِقتناع بضرورة تجاوز السائد من الأنظمة والأحزاب والنظريات الجاهزة فقد أثبت الواقع فشلها وخواءها من خلال عديد التجارب التي لم تخلّف في بلدانها شرقا وغربا إلا الاِستبداد والقهر والفقر وراح ضحيتها عديد الشعوب فاِنبريتُ أبحث عن الجديد المنشود وقد طلبته في الشّعر  لذلك كنت من الفاعلين في ظهور جماعة ـ شعراء الرّيح الإبداعية ـ التي خالفت جماعة شعراء القيروان ذات الأبعاد التراثية والقومية العربية وجماعة المنحى الواقعي ذات المنطلقات الاِشتراكية وذلك بمناسبة ملتقى الشعر التونسي الذي اِنعقد بالمركز الثقافي بالحمامات سنة 1983 وقد عبّر شعراء ـ الرّيح الإبداعية ـ عن رفضهم للقوالب الإديولوجية في تلك السنوات التي شهدت بعدئذ اِنهيار الأنظمة القائمة فيها على الأحزاب المستبدّة…لقد كان اِستشرافنا صحيحا…
لم تمض إلا سنوات قليلة بعد ملتقى الحمامات للشّعر حتّى تمّ إبعاد بورقيبة عن الحكم وتولّي بن على مقاليد البلاد فعشنا على إثر ذلك فترة وردية من حرية التعبير والتنظيم إذ اِزدهرت الحركة الثقافية في مختلف الجمعيات ودور الثقافة والمهرجانات وفي شتّى الجهات حتى النائية منها وفي تلك الطفرة من الأنشطة ترشّحتُ لعضوية الهيئة المديرة لاتحاد الكتّاب التونسيين باِقتراح من الأديب محمد العروسي المطوي فتحصّلت على أكثر الأصوات ونلت بالانتخاب أيضا مسؤولية الأمين العام وكانت تلك الهيئة تضمّ الأدباء محمد العروسي المطوي رئيسا والميداني بن صالح نائبا له والهاشمي بلوزة أمين المال وضمّت أيضا الأدباء أبا زيان السعدي وجلول عزونة وسمير العيادي وعبد الحميد خريف ونور الدين بن بلقاسم والتابعي الأخضر والطيب الفقيه وقد عملت تلك الهيئة خاصة على تنشيط النوادي في مقر الاِتحاد وعلى اِنتظام إصدار مجلة ـ المسار ـ وعلى فتح الفروع في الجهات التي يتوفّر فيها الحدّ الأدنى من الأعضاء وعلى المشاركة في اللجان الخاصة بالكتاب والسّينما والمسرح ضمن وزارة الثقافة وقد جعلنا هدفنا الأكبر هو اِستضافة مؤتمر الاِتحاد العام للأدباء العرب ومهرجان الشعر العربي بتونس وقد ضمّ اِتحاد الكتّاب التونسيين وقتذاك أغلبية الأدباء والشعراء على اِختلاف مراجعهم الفكرية والأدبية وعلى تنوّع ألوانهم السياسية وتوالي أجيالهم ممّا أتاح لي التعرّف على الأدباء التونسيين وربط صداقات مع الكثير منهم وفي ذلك السّياق من النّشاط الزّاخر ومن بينه اِنعقاد مؤتمر الأدباء العرب ونيل تونس رئاسته في شخص الأديب محمد العروسي المطوي ثمّ تنظيم الملتقى الأوّل للشعراء العرب جاءتني دعوة من رئاسة الجمهورية لحضور موكب اليوم الوطني للثقافة الذي اِعتبرناه حينذاك مكسبا للثقافة والمثقّفين ونحن نعيش غمرة حركة النشر واللقاءات الأدبية بعد سنوات عديدة من الكبت والتهميش التي لم يستفد منها إلا الأدباء والمثقّفون المُوالون للنّظام ولكن لم أكن أدري وأنا أدخل قصر قرطاج ثمّ وأنا أغادره بعد أن صافح بن علي الجميع ـ أنّ حليمة ستعود بعد سنوات إلى عادتها القديمة فقد أضحى حول نظام ـ العهد الجديد ـ زمرةٌ كبيرة من المثقفين والأدباء والفنانين الموالين هي التي اِستفادت من مجالات وزارة الثقافة ودعمها واِحتكرت مواردها وأنشطتها فلم تُبق لنا إلا النّزر القليل الذي لا يفي بتحقيق برامجنا ضمن بعض الجمعيات والنوادي الثقافية تلك التي سَنة بعد سنة بدأت تنغلق على عدد قليل من المنتسبين والروّاد وصارت برامجها تسير على إيقاع الجوقة الرّسمية شأن جميع الأنشطة الثقافية وغيرها في بقية البلدان العربية التي زرت الكثير منها فاِستنتجتُ أن مسألة اِستقلالية المثقف العربي عن السلطة هي أمر نسبيّ جدا وحتى بعض المثقفين والأدباء الذين تمكنوا من الإقامة في البلدان الغربية نجدهم موالين لهذه الجهة أو تلك سواء كانت منظمات وجمعيات أو لوبيّات وغيرها فليس من باب الخير المحض والمحبّة الصّافية للثقافة تحتضنهم تلك الدول وتدعمهم وتمنحهم الاِمتيازات والجوائز.
كانت مرحلة اِنتسابي إلى الهيئة المديرة لاِتحاد الكتّاب التونسيين في مناسبتين الأولى في فترة رئاسة الأديب محمد العروسي المطوي والثانية في فترة رئاسة الشاعر الميداني بن صالح قد أتاحت لي الفرصة لمعرفة أحوال الأدباء والمثقفين التونسيين والعرب من غير نصوصهم أيضا فوقفتُ على أمزجتهم وعلى بعض تفاصيل سلوكياتهم لذلك اِستنتجتُ أنّه من الأحسن بالنسبة للكثير منهم أن نقرأ لهم ولا نعرفهم عن كثب فعدد هائل من الأدباء والشّعراء والمثقّفين يكتبون ويصرّحون بعكس ما يفعلون لأن غايتهم تتمثّل في كسب المال و الشّهرة أونيل الحظوة والمنافع أمّا القِيمُ والمبادئ فإنهّا لا تبدو لديهم إلا في نصوصهم …كلام…..كلام !…
الزّمن كفيل وحده بوضع كل أديب و شاعر في مقامه الجدير به .

12 ـ البحر سماء

مازلتُ أتذكّر موكب الزعيم الحبيب بورقيبة مع زوجته الفرنسية ـ ماتلد ـ في شارع باب الجديد بتونس العاصمة ، كان ذلك في السنة الأولى أو الثانية بعد الاِستقلال ورأيته مباشرة مرّات عديدة عند ذهابي أو عودتي من معهد الصادقية حيث كنت أمرّ أمام قصر الحكومة بالقصبة فأصادفه صباحا أو عند منتصف النهار داخلا أو خارجا…
مهما اِختلفت الآراء حول بورقيبة فإنّي أعتبره مرحلة مهمة من تاريخ تونس المعاصر يجب أخذ العبرة منها فنُطوّر مكتسباتها ونتجنّب سلبياتها فلا النظر إليه نظرة التقديس ولا النظر إليه نظرة الاِزدراء بمفيد .
نشأتْ هوايتي للشّعر في سنوات أوج شخصية بورقيبة التي اِنخرط كثير من الشعراء التونسيين وغيرهم من الشّعراء العرب في مدحها تحت عنوان الشّعر الوطني لكني كنت مع بعض شعراء جيلي رافضين لذلك النوع من القصائد التي اِعتبرناها أقرب إلى التزلّف والمدح الرّخيص منها إلى الوجدان الصّادق فكانت قصائدنا تعبيرا عن هموم الناس وطموحاتهم ورصد لتفاصيل الحياة الصغيرة مع اِنحياز واضح لقيم الحريّة والعدل ولعل ذلك ما جعل السلطة تمنع ديواني – نوارة الملح – وغيره من الكتب من التوزيع في تلك السّنوات التي شهدت وقائع دامية مثل واقعة إضراب جانفي1978 وواقعة الخبز في جانفي 1984 إذْ نشرتُ بعض القصائد والمقالات الثقافية في المجلات والجرائد التي كانت محسوبة على ـ المعارضة ـ التي حضرتُ بعض اِجتماعاتها
لم أكن أنتمي لأي حزب منها فأنا أحبّذ أن أكون مستقلا عن الأحزاب التي لئن نشرتُ في بعض صحفها ومجلاتها أو حضرت بعض ندواتها فذلك من خلال اِنخراطي في العمل الثقافي الذي أعتبره عطاء بلا حدود بينما الاِلتزام الحزبيّ اِنضباط في المواقف وحدٌّ من الآفاق الفكرية وتقييد للحركة وقد أدركت ذلك باكرا فعندما اِنتقلت إلى التعليم الثانوي بمعهد الصّادقية سنة 1964 كانت منظمة – الشبيبة المدرسية – القريبة من الحزب السائد وقتها تحاول جلب التلاميذ إلى أنشطتها التي ولئن كانت تبدو ثقافية فإنها تَستغلّ المناسبات الرسمية لحشد التلاميذ إلى الاِجتماعات في الساحة أو في قاعة الرياضة كي يستمعوا إلى الخطب وكنت من التلاميذ الذين حضروا بعض تلك المناسبات فوجدت فيها كثيرا من المبالغة عند الحديث عن بورقيبة في سياق تاريخ الحركة الوطنية وذلك ما جعلني أشعر أن تلك المناسبات هي أقرب إلى التزلف والوصولية منها إلى محاضرات في التاريخ وكانت الشبيبة المدرسية وقتذاك تعرض الأفلام مساء الجمعة بالمعهد وصباح الأحد بقاعة البالمريوم الكبيرة بشارع قرطاج فكنت من المواظبين على تلك الأفلام ومن طرائف هواياتي في ذلك العهد، إلى جانب المطالعة ،شغفي بالمراكب الشراعية التي كان يدربنا على الإبحار فيها أستاذ الرياضة الفرنسي فكان يحرص على مرافقتنا على متن حافلة خاصة من الصّادقية إلى النادي البحري في بُحيرة حلق الوادي التي رُدمت منذ سنوات عديدة
كنتُ أقضي سُويعاتٍ ممتعةً وأنا أغالب الرّيح بينما الزّورق يمضي مائلا يشقّ عباب الماء قاب قوسين أو أدنى من أن تلامس حافّتُه صفحة البحيرة فكنت أدلي بجسمي خارج الحافة المقابلة كي أحافظ على التوازن وأعجب من نفسي إلى اليوم كيف تَسنّى لذلك الصبيّ الذي عاش سنواته الأولى في أقاصي الجنوب على بوّابة الصحراء أن يتولى قيادة زورق شراعيّ فحكايته مع البحر حكاية عجيبة فلقد كان في فيافي الجنوب يتخيل البحر صحراء من الماء الأزرق المالح ولم يَدر كيف تخيّله سماء مقلوبة وقد عرف البحر لأول مرة من خلال جرعة تناولها من جَرّة صغيرة مُلئت بماء البحر جاءت بها إحدى العائلات من أقاربه كتُحفة أو كهدية عندما عادت من شاطئ جرجيس على متن عربة يجرّها بغل قضت يومين وليلة في الذهاب ومثلها في الإياب ، وشاع لدى القوم وقتذاك أن ماء البحر يُشفي من عدة أمراض بل وهو مُضاد حتى للسعة العقارب ولدغ الأفاعي وما أكثر العقارب والأفاعي في أصياف ذلك الجنوب !
أوّل ما شاهد البحر عند مدينة ـ المحرس ـ قرب صفاقس حيث توقّفت سيّارة الأجرة أثناء رحلته إلى العاصمة فلاحت الشّمسُ حمراء من وراء الأفق الأزرق…تماما مثلما تخيّل البحرَ سماءً معكوسةً …

13 ـ لا ملائكة… ولا شياطين

هذه المرّة أسافر إلى مدينة النّور ـ أو مدينة الجنّ والملائكة ـ مثلما وصفها طه حسين بدعوة أثيلة من اِبني المقيم في ضاحية جنوب باريس غير بعيد عن نهر السّان حيث يقيم أيضا صديقي الشاعرـ حمدي الشّريف ـ الطيّب الرّفقة والذي ألتقي به يوميّا لنتجوّل حينا ونجلس حينا آخر خائضين غمار الذكريات والشّعر والتاريخ والأحداث وملاحظين المشاهد العمرانية المتنوعة بما فيها من إتقان ونظام في مختلف نواحي المنطقة وقد اِزّيّنت في أزهى طبيعتها كيف لا ؟ وهي ترفل في أوج أيام الربيع فأينما نظرتَ وسرحتَ ببصرك ألفيتَ الاِخضرار والأزهار
عرفتُ صديقي ـ حَمدي ـ منذ أكثر من ثلاثين عاما طالبًا جادًّا في معهد فرحات حشاد برادس فكان من وقتذاك مُحبّا للأدب وللثقافة رغم اِختصاصه التّقني وشاءت الأقدار أن يتجدّد الاِتصال بيننا بفضل الأنترنات حتّى اِلتقينا منذ ثلاث سنوات في هذه الضاحية فإذا ذلك الشاب ـ بفضل عزمه وصبره ونباهته ـ قد تمكن من الهجرة ثمّ الاِستقرار في بلاد الإفرنج هو وعائلته في كنف عيشة رغدة لكنه وهو الذي تمكن من التأقلم في البيئة الفرنسية قد ظل مرتبطا بتونس ومنتميا إلى تراثه في جوانبه المُنيرة والإنسانية ممّا جعله في نصوصه الشعرية التي يكتبها بالعربية مُعبّرا بعفوية وصدق عن حنينه لموطنه ومتمسّكا بجذوره فاللغة العربية بالنّسبة إليه هي الخيط السّحري الذي يشدّه إلى ذاته وهو حريص أيضا على أن يظل أبناؤه وبناته منتمين إلى تونس الخضراء…ولكن !
ولكن عندما رافقتُه مع نَجليْه إلى القُنصلية ليستخرج لهما بطاقة الهويّة التونسية رأيتُ صفّا طويلا وقد وقف فيه الصّغير والشاب والشّيخ من الجنسين بل وفيه الرّضيع وحتّى الذي يجلس في كرسيّ العجلات
يا سبحان الله هل مكتوب على التونسيّ أن يقف مُنتظرا السّاعات الطّوال في الحرّ والقَرّ سواءً في تونس للحصول على تأشيرة الدخول إلى فرنسا أو في فرنسا أمام القنصلية التونسية لاِستخراج مختلف أوراقه الوطنية فلا عزاء للتونسي لأنه غريب مرتين
غريب في وطنه
وغريب خارج وطنه …
عندما نُصبح لا نرى تونسيا واحدا يقف منتظرا أمام السّفارات الأجنبية في تونس
وعندما نُُمسي لا نرى تونسيا واحدا يقف منتظرا أمام سفارة أو قنصلية تونسية في بقية بلدان العالم
يوم ذاك يمكن أن نتحدّث عن الكرامة الوطنية.

14 ـ في بلاد الإفرنج

في يوم ربيعيّ باذخ كنت أتفسّح في مدينة – إفري – من ضواحي باريس الجنوبية وقد شدّ اِنتباهي النظام والنظافة والإتقان فقد لاحظت ذلك في جميع ما رأيته ومررت به… ناهيك عن الزهور المنسقة أحسن تنسيق في الساحات والمماشي وحتى في وسط الطرقات وفي النوافذ والشّرفات وما كدت أرفع بصري حتى قابلتني صومعة شاهقة مربعة الشكل على نمط أغلب صوامع بلاد المغرب تبدو حديثة البناء فقطعت الشارع إليها من الممرّ المخصص للمترجّلين بعد أن ضغطت على زرّ العمود فما كانت إلا لحظات حتى اِشتعل الضوء الأخضر وتوقف سيل السيارات فاسحا لي المجال…يا الله ماهذا الاِحترام وهذا الاِنضباط!..
هو كذلك هذا المجتمع الذي نشأ منذ أجيال على قيم الحرية وتعادلية الحقّ والواجب فالقانون فوق الجميع والذي لا يطبّقه راضيا ينطبق عليه صاغرا… هنا حرية العقيدة والفكر والمذهب والتعبير والهواية ونمط الحياة يمارسها الجميع بدون اِستثناء فحقّ الاِختلاف وضرورة قبول الآخر واقع معاش بمعنى – لكم دينكم ولي دين – فقد مررت بعديد الكنائس ذات المذاهب المختلفة ورأيت بالقرب منها معبدا بوذيا كبيرا وشاهدت معلقات كثيرة فيها دعوات إلى اِجتماعات واِحتفالات متنوعة الملل والنّحل ومن بين تلك المعلقات واحدة لفتت اِنتباهي حقا عندما قرأت فيها أنّ رئيس البلدية يدعو مواطنيه للاِتصال به – عند الحاجة – في مكتبه مرة في الأسبوع مساء كل يوم جمعة من الخامسة إلى السادسة والنصف وقد نشر رقم هاتفه ليكون عند الطلب في خدمة الجميع !
أين نحن من هذه المدنية ؟شتّان ما بيننا وبين ذويها لكَم كتَب السّابقون قبلي عنهم من عهد الطهطاوي واِبن أبي الضياف إلى عهد طه حسين وبيرم التونسي وغيرهم ولكن مازالت مجتمعاتنا المغاربية والعرببة بعيدة عما نصبو إليه من حياة كريمة ورقيّ شامل.

ثمّةَ ملاحظة اِسترعت اِنتباهي فقد شعرت في كثير من المناسبات بشيء من الرّيبة لدى عامة القوم عند مخالطتهم للعرب والمسلمين أو الحديث عنهم في البرامج التلفزيونية وقد أصبح ذلك واضحا ومباشرا بعد العمليات الإرهابية المتوالية  في بلدانهم على مدى السنوات الأخيرة تلك العمليات التي لا نعرف حقيقة الواقفين وراءها والخيوط المخفية التي تحركها ولمصلحة أي جهة تقوم بمثل تلك الأعمال الإرهابية التي كان الأبرياء والذين يناصرون القضايا العادلة من ضحاياها فلقد خرجت الملايين أفواجا أفواجا في عواصم عديد البلدان الغربية ومدنها مرات كثيرة مناصرين نضالات الشعوب المستضعَفة ومناهضين لسياسة حكومات تلك البلدان الغربية حيث تمتّع الكثير من العرب والمسلمين المضطهدين في بلدانهم بالحصانة وبكرم الضيافة في حرية واِحترام ولكن لست أدري بأي مقابل وبأيّ ثمن…؟
التاريخ يحدثنا أنّ الحضارة العربية الإسلامية قد سادت وترسّخت في كثير من المناطق بفضل نشر ألوية السلام والإخاء والعدل والصدق والوفاء مع قيم العلم والعمل بين تلك الشّعوب والأمم فلو أنّ الجاليات الوافدة على بلاد الإفرنج جيلا بعد جيل عملت بتلك المبادئ وسخّرت تلك الأموال الطائلة في نشر اللغة والثقافة العربية وكانت مثالا للعمل والنّزاهة والمحبّة والتسامح في تلك المجتمعات الغرببة لتغيّرت نظرتها إلينا ولصرنا قُدوة لها ونموذجا يُحتذى…
تعيش تلك المجتمعات أزمات حضارية متداخلة ممّا جعل بعضَ القوم فيها يبحثون عن الخلاص في الحضارات الشّرقية الأخرى…ولكن مع الأسف نحن لم ننجح في التأثير فيهم من ناحية ولم نُوفّق في الاِستفادة من إنجازاتهم إلا بقدر قليل ثم إننا لم نُفلح إلا في النّسج على منوال الفاسد في تاريخنا والأخذ من الرّديء في حضارتهم لكأنَّ حَوَلا أصاب عُيوننا !

صباحُ الخير باريس
وبِغُنّةٍ خَفيفةٍ مَع الرّاءِ
ـ بُونْجُورْ ـ
خريفٌ قادمٌ مع أوراق شَجر الطرقاتِ
صفراءَ حمراءَ وفي لون البُرُنْزِ
مَرحَى للأرصفةِ
أعوانُ البلدية يُمَشِّطونَها كلّ صباح
ثُمّ يَرُشّونها بالخُزامَى

صباحُ الخير باريس
وبغُنّةٍ خفيفةٍ مع الرّاء
ـ بُونْجُور ـ
أهلُ مَكّةَ أدرى بشعابها
وأهلُ باريسَ بأنفاقِها أدرَى
أنفاقٌ
في أنفاق
تحتَ أنفاق
ومِنْ مِيترُو إلى مِيترُو
ومن صِراطٍ على صراط
أسيرُ حثيثا على الصّراط يسيرُ
وصلتُ إلى محطة ـ نُتُرْدَامْ ـ
هُنا
الحيُّ اللاتينيُّ
نهرُ السّانِ والصُّوربُونُ
جَان بُول سارتر وسِيمُونْ دِي بُوفوارْ
إلْزَا ولويس أراغُونْ
هُنا
مَدامْ دِي بُوفاري وأحدبُ الكنيسةِ
بُودْلير وجاكْ بْريفارْ
شارلْ أزنافُور وميرَايْ
هُنا
الرسّامُون / النحّاتون / العازفُون / المسارح / الأفلامُ / المتاحفُ / المعارضُ
هنا
النّاسُ الغادون والعائدون
السائحُونَ
المُشرَّدون والأثرياء
هُنا
الكتُبُ على الأرصفةِ
حَولها النّاسُ يتكدّسون
يتصفّجون ويشترُون
هُنا
على ضَفّة النّهر
المكتباتُ مكتبة ٌ بجانب مكتبةٍ أمامَ مكتبة
اِقرأ….اِقرأ
يقرؤون…
في المحطات يقرؤون
في المِترُو يقرؤون
في الباصِ
في المقهَى
في المطعم
في الحدائق
في الطائرة
يجلسُون يقرؤون
يمشُون يقرؤون
ينامُون يقرؤون
حتّى المتسوّلُ ـ واللّهِ ـ رأيتُه يقرأ
وأمّةُ ـ اِقرأ ـ لا تقرأ
فقط
تتفرّجُ في المُسلسلاتِ
وشُيوخِ التلفزيون
صباحُ الخير باريس
وبغُنّةٍ خفيفةٍ مَع الرّاء
ـ بُونْجُورْ ـ
الأبيضُ الأسمر ُ الأصفرُ
إفرنجٌ جَرمانُ عجمٌ زنجٌ بربرٌ عربٌ
أرمَنُ غجر حبشٌ صَقلبٌ أمريكانٌ
هاوايْ صينٌ يابانُ
مِللٌ نِحلٌ مذاهبُ وأديانُ
خلاصةُ الزّمان والمكان
الذي بِربطةِ عُنق الذي بجينز الذي بلحية
الذي بقميص الذي بشعر طويل الذي يَعقُصُهُ
الذي يُرسلُه والأشعثُ والأصلعُ
الذي بقُبّعة الذي بعِمامة
والتي بِفُستانٍ التي بسروال التي بلباسِ طويل
التي بلباسِ قصير التي بشُورْتٍ التي بِشال
التي بخِمار التي بجلبابٍ
والتي كأنّها بلا ثيابِ
صباحُ الخير باريس
وبغُنّةٍ خَفيفةٍ مع الرّاء
ـ بُونْجُور ـ
أسيرُ ونَهْرَ السّانِ الهُوينَى
وئيدًا والنّهرُ يجري
مع ـ الأيّام ـ وطهَ حسين ـ أسيرُ
مع ـ توفيق الحكيم ـ و ـ عصفُور ٌمن الشّرق ـ
طارَ ولم يَطر
حتّى إذا خرجَ ذات يوم منَ القفصْ
وقُلنا هذه آخرُ الفُرصْ
نتّفوا ريشَه
ثمّ أجهزُوا عليه
بالسّيوف
بالسّكاكين والمِقصْ
أسيرُ
عكسَ جريان النّهر
والشمسُ على جبيني
يُقابلني ـ معهدُ العالم العربيّ ـ
أسيرُ
في كل شِبر من بلاد العَربِ حربٌ
أو فتنةٌ
أو شِقاقْ
بين إخوةِ ورفاقْ
صباحُ الخير باريس
وبغُنّةٍ خفيفةٍ مع الرّاء
ـ بُونْجُورْ ـ
قُلتُها وأنا أدخلُ المقهَى المُقابلَ
وهَل أحدٌ رَدّ التحيّةَ
بِمثلِها
ولا بِأحسنَ منهاولا حتّى…أقل !

15ـ الكُسكسي

ما كدتُ أخطو بضعَ خطوات على العُشب اليانع لأصِلَ إلى ضفاف البحيرة الصّغيرة في المنتزه حتى صاح بي حفيدي الذي بلغ منتصف سنته الخامسة وفي لهجة العتاب الشّديد بلغة فرنسية سلسة قائلا ـ لا ندوس الأعشاب أبدا فقد نقتل الأزهار !
وأشار إلى المَمرّ المخصّص الذي يُوصل إلى البحيرة غير بعيد منا فأسلمت له يدي ليقودني وسرعان ما زجره أبوه قائلا ـ ما هكذا تخاطب جدّك فقلت له دَعهُ يعبّر كما يريد ومعه الحقّ فلقد تعلّم في روضة الأطفال هذه التوصيات في المحافظة على الطبيعة وأنا سعيد بملاحظته لي وحماسه في الذّود عنها
شتّان بين تربيتنا وتربية بلاد الإفرنج والبَونُ أكبر وأكبر بين تربيتنا وتربية اليابان أو الصّين فهناك وهنالك يُنشِئون أطفالهم ـ بدرجة أولى ـ على قيم الاِنضباط والعمل والمبادرة والتعاون والاِبتكار أمّا رياض الأطفال لدينا فهي مُحتشدات كي يحبس الأولياء فيها أطفالهم ليستريحوا من شَغبهم وهي محلات تجاريّة لأربابها الذين همُّهم الوحيدُ هو الرّبح السّريع والوفير بلا رقيب ولا نظير وبلا برامج مدروسة لتحقيق ما نصبو إليه من اِعتزاز بشخصيتنا المتأصّلة في القيم الإنسانية والثريّة بأبعادها كي يتسنّى لها التفاعل الإيجابي مع بقية الأمم والشّعوب فلقد أضحى العالم قريةً فالمُتجوّل في باريس وضواحيها يلاحظ مختلف الأجناس والألسنة والأزياء والمعتقدات وقد أدرك الفرنسيون أن هذا الاِختلاف والتنوّع لا يزيد بلادهم إلا قوّة بالاِستفادة من خبرات الوافدين إليهم ومن طاقاتهم ولا يزيد الثقافة الفرنسية إلا اِنتشارا في بقية البلدان فينتج عن ذلك الاِنتشار سُؤدُدُ فرنسا ويتّسع تأثيرُها ويزيد في العالم الذي تتنافس الأمم فيه بجميع الطرق على كسب خيراته الظاهرة والباطنة والحاضرة والآجلة ومنها الطاقات البديلة ومن أهمّها الطاقة الشمسية المتوفّرة طيلة كامل شهور السّنة في منطقة شمال إفريقيا القريبة جدّا من أوروبا.
أوروبا…هذه القارة التي يجب أن تكون علاقتنا بها متوازنة متعادلة ولكن لن تكون كذلك إلا إذا نحن اِرتقينا بأنفسنا في جميع المجالات وأصلحنا من أمرنا واِنسجمنا في ما بيننا ـ شعوبًا وبلدانا ـ فهي جارتنا وأولى البوّابات التي نُطل منها على العالم والعلم والحضارة وهي تُعتبر اِمتدادا لنا عبر التاريخ دائما فَصِلتُنا بها ظلت قائمةً منذ قديم الدّهور وسابق العصور فمنذ الفينيقيين والقرطاجنّيين الذين وصلوا حتّى إلى ضفافها الشمالية ومنذ الرّومان الذين كان بعض أهمّ قياصرتها وفلاسفتها وأدبائها من شمال إفريقيا ومنذ الاِمتداد العربي المغربيّ الإسلامي الذي اِستوطن الأندلس وصقليّة وجنوب أوروبا ومنذ المدّ العثماني الذي وصل إلى وسط أوروبا ومنذ الحقبة الاِستعمارية الأخيرة التي هيمنت فيها أوروبا على أغلب بلداننا ظلت العلاقات بين هذه القارة وبيننا دائمة الأواصر بين جَزر ومدّ وبين تأثير وتأثّر بحسب قوّة هذا أو ذاك فحتّى بعض أنواع المأكولات صارت مشتركة بيننا ومن خصائص الموائد لدينا ولديهم .
لقد تناولت طبقا شهيّا من الكسكسي في مطعم بسترازبورغ سنة 1991بمناسبة مشاركتي ضمن وفد من الأدباء التونسيين وبدعوة من جمعية ـ بين الضفّتين ـ وقد اِخترتُ حينذاك الكسكسي لسببين أوّلا أردت اِكتشاف الكسكسي في بلاد الإفرنج وقد فوجئت بقراءته في قائمة هذا المطعم وثانيا ولعله الأهمّ وهو أنّني كنت يومئذ ذا مَسغبة شديدة فقد تأخّرنا بالغداء ولم نتناول فطور الصّباح فأقبلت إقبالا على ذلك الكسكسي وقد أُحضر لي في قِدر صغير من الفخار فما ألذّ طعمه وقد طُهي بغلال البحر وأين منه قول الأديب صالح القرمادي في إحدى قصائده وقد جعله الشاعر نورالدين صمّود في بيت على بحر المتقارب ,كان ذلك آخر عهدنا بأستاذي صالح القرمادي رحمه الله عند الملتقى الثالث للشّعر التونسي بالمركز الثقافي بالحمامات سنة 1983 ـ
أحبّك حبًّا شَهيّا طريّا  *  كلحم الخَروف على الكُسكسي

16 ـ الصّندوق العجيب

ذات صيف عاد عمّي من تونس العاصمة فتحلّقنا حوله مبتهجين بقدومه وفرحين خاصة بالحلوى ذات القراطيس الملونة التي سندّخرها في جيوبنا باِعتبارها أوراقا نقدية نافذة المفعول بيننا وبعد السّلامات والأسئلة وفتح الحقائب وتوزيع الهدايا  على الجميع اِجتمعت النّظرات على صندوق صغير من خشب صقيل له واجهةٌ لمّاعة كالمرآة وبها أربع أو خمس عجلات صغيرة وظلت العيون متسائلة في حيرة ووُجوم عن سرّ هذا الصندوق العجيب إلى أن مدّ عمُّنا يده وأدناه  إليه قائلا – هذا هو الرّاديو –
لم أتجاوز حينذاك الخامسة من عمري عندما اِكتشفت المذياع لأوّل مرّة وعندما أدار عمّي بعض أزراره أضيئت واجهتُه وطفِقتْ أصواتٌ تنطلق منه فسمعتُ لها هَسهسة ونَغنغة سرعان ما أفصحت عن صوت رجل يتحدّث بأناة وثبات بكلام عربي مُبين وبعده اِستمعت إلى موسيقى ليست من الطبل أو المزمار أو النّاي في شيء ، تلك هي نشرة الأخبار ، بعد سنوات عرفت أن ذلك الصّوت هو صوت إذاعة القاهرة أو لندن ،وكنت أحسب أن أناسًا صغارا في حجم النّمل هم الذين يتكلمون ويعيشون في عالم خاص بهم داخل ذلك الصندوق العجيب كيف لا ؟ فقد كنا ننام على غرائب مخلوقات الخرافات وقدراتهم الخارقة .
من وقتئذ صار المذياعُ هو القطب الذي تجتمع حوله العائلة الكبرى مع كؤوس الشّاي من بعد العصر إلى ما بعد المغرب غير أنّه بعد أيام قليلة صرنا نستقبل أقرباء لم نعهدهم ورجالا آخرين لا نعرفهم أَمْسَوْا  يجلسون في ناحية حوشنا الكبير مع عمّي ليُنصتوا إلى المذياع حينا ثم يخوضُون في حديث لم أكن أعي منه شيئا غير أنّي سمعت كلمات تتكرّر على ألسنتهم كثيرا من بينها – الجزائر ـ فرنسا ـ بورقيبة ـ بن يوسف ـ عبد الناصر ـ وبريطانيا التي لم أدرك معناها وقتذاك واِجتهدت أن تكون شيئا بين الطين والبطن ،ليس غريبا عن  إبداعات السّريالية إذن !
بعد سنوات قليلة قصدت  الإذاعة التونسية وأنا لم أتجاوز الرابعة عشرة وسلّمت ظرفا إلى برنامج – جنّة الأطفال – فيه قصيدة أو كالقصيدة وكم سُررتُ عندما قرأ أحد الأطفال المشاركين في البرنامج مقطعا منها وشجّعتني السيّدة– علياء – التي اِحتضنت براعم واعدةً في مجالات عديدة خاصة في الأدب والمسرح والموسيقى
مضت بعد ذلك سنواتٌ تِلوَ سنوات ودخلتُ أستُديو الإذاعة فقلتُ في نفسي إنّه لابدّ أن يصغُر حجمي كثيرا كي أتمكّن من النّفاذ إلى ذلك الصّندوق العجيب لأكتشف أسرار عالم  النّمل !

هَــــــلْ لِــمَا فـَــاتَ مَــــــآبُ؟ عَـبَـثَـَــــا يُـرْجَــــــى اَلسَّــــرَابُ
هَـــذِهِ اَلْخَمْــسُونَ تُــطْــــــوَى مِـثـْــلَـمَا يُـــطْـــوَى الكتــــــَـابُ
صَـفـَـــحَـاتُ…ذِكْرَيـَــــــــــاتٌ قـَـــدْ تـَــوَالَــتْ وَ اِنْـسِيَــــــــاب
قَـدْ حَسِـبْـــتُ اَلْعُمْــرَ عَــــــدَا فَــاِنْتَــهَى صِــفْـرََا حِسَـــــــــابُ
أَيْــــنَ مِــنْ سَــبْقٍ خُـيُـــولِـي إِذْ تَـهَــــادَتْ وَاَلـــرِّكـَــــــــــابُ
عِـــنْـدَ أَعْـــرَاسِ اَلْــبَـــوَادِي وَقَــــدِ اِخْضَرّتْ هِضَــــــــــــــابُ
تـِــلْــكَ أُمِّــي تَـــتَــجَـــــلَّــى حـُــــوشُــــنَا ذَاكَ رِحـَــــــــــابُ
جَــــــــدّتِي كَــانَتْ هـُــنَــاك وَ حـِــــكَايـَـــاتٌ عِــــــــــــــذَابُ
وَ أَبِـــي عِنـْــدَ المُـــصَــلـَّى وَدُعـَــــــاءٌ مـُــسْتَـــــــــــــجَابُ !
كَــــمْ بِصْــــيْدٍ قَــدْ ظَفِرْنَـــا وَيَـــمَـــامَـــاتُ كـِــــعَــــــــــابُ
خـُـــذْ سـِــلَاحِـي يَــا بُـنــيَّ ثـُـمّ يَــمْضِي…وَاِغْـتِــــــــــــــرَابُ
زَمَــــــنٌ ذاكَ تَـــــوَلـَّــــــى إنـّــــمَا اَلْآتِـــــي ضَــبَـــــــــــابُ
فـَـمَشَــيْتُ اَلْعُمـرَ وَحْــــدِي فِــي الْمَدَى حُلْمِي شِهَـــــــــــابُ
لَـــدْغَةُ اَلْأَفْـــعَى بِــلَـيْـــــلٍ وَبِــلَيْــلٍ كَـــــمْ كـِـــــــــــــــلَابُ
قَـــدْ أَحَاطَتْ بِاَلْـفَـتَـى..يـــا مِــــزَقـَـَــــا صَــارَتْ ثـِـيــــــَـابُ
آهِ مِــنْ دَرْسٍ لِـــجَــبْـــــــرٍ كَــيْـف يَـأْتِـيـنِـي اَلْـجَــــــــــوَابُ
أَحْـــمَدُ الـــلَّـــه نَـجَـحْــــتُ وَنــجَـا ذَاكَ اَلْـــمُـــصَـــــــــــابُ
إِنَّـــــمَا خَـــــطِّـــــي رَدِيءٌ عَــــبَـــثًا كَــانَ اِجْــتِــنَــــــــــابُ
كَـــــمْ أَكُــفًّا قَــدْ مـــدَدْنــا لِـــلْعَـــصَـــا، ذَاكَ اَلْـعِقَـــــــــابُ
يـَــا عَــصـَـا رُدِّي صِبَــــانــا أَيْــــنَــهُم رَاحُــــوا تِــــــــــــرَابُ
يـَــا صَدِيـقِي لَا تَــلُمْــنِــــي إِنَّــمَا اَلـــذِّكْـرَى اِكْـتِـئَـــــــــــابُ
رُبَّ ذِئْــــبٍ قَــــدْ دَعَــــــاهُ اِنْـــــتِـــزَاحٌ أَوْ خَـــــــــــــرَابُ
صَـــــارَ أُنْــــسًا أَوْ رَفـِــيقًا لَـيْـــسَ مِنْــــهُ اَلْمُسْــــــــتَرَابُ
لَا كَـمَنْ قـُـلْتُ صَـــــــدِيقِي وَهْـــوَ فِي اَلظَّهْرِ حِـــــــــرَابُ
سـَـلَّـهَا لِلـطَّـعْـنِ يَـــوْمَـَــــا وَاِنْـزَوَى عَنِّي اَلصِّــحَـــــــابُ!
كَــاَلنَّـعَامَـاتِ وَ دَسَّـــــــتْ رَأْسَـــهَا أَخْــفَتتى اَلــــــــتُّرَابُ
كـَــــمْ زَرَعْتُ اَلْوَرْدَ فِيهِـمْ فَــــإِذَا اَلشَّـــــوْكُ ثَـــــــــوَابُ
مِـــنْ لَــئِيــمِِ أَوْ حَــسُــودٍ ذَاكَ نَــــــمَّـــامٌ وَ نَــــــــــــابُ
أَوْ طَــــوَاوِيـــسُ وَ شَالَـتْ فَـهْيَ زَيْــــفٌ أَوْ سِـبَـــــــــابُ
فـَــاِنْــبِطَـــاحٌ وَ اِرْتِــــمَاءٌ وَالتواءٌ واِنقِــــــــــــــــــــلابٌ
هَــمُّــهَا لَحْسُ اَلصُّــحُـونِ قـَـــدْ سَــرَى مِنْهَا اَلْلُّعَـــــــابُ
تَـمْـــسَحُ اَلْأَعْتَـابَ لَحْسًـا! تـَــنْحَنِــي، هـَـانَــتْ رِقـــــابُ
قـَــلَبَتْ لَــوْنَ اَلْـقَـــمِيـصِ فَـبِــفِـلـسٍ تـُــسْــتَـطَـــــابُ
عُــمْلَــةُ اَلـزَّيْـفِ وَ عَمَّـتْ فَــــعَــــــلَا اَلْـحـــَـقَّ اَلْحُبَــابُ
بـِــيعَـــتِ اَلْأَوْطَــانُ بَخْسًا وَيْــحَنَا…!حَتـّــى اَلْإِهَـــــــــابُ
كَمْ شُـعُـوبٍ قَـــدْ أُبِـــيـدَتْ رُبَّـــــمَا نَــــحْنُ نُــصَــــــابُ !
لَا… هُـمُ اَلْأَحْرَارُ هَــبُّـوا وَبِـــهِـــمْ سَــالَتْ شِعـــــــــــابُ
مِـــنْ شَـــمَالٍ وَ جَـنُــوبٍ مَـــــــــدَدٌ ذَاكَ رِحَـــــــــــابُ
قَــــــدْ تَــصَـــدُّوا لِــلْعُـدَاةِ وَبِــــعَـــزْمٍ قَــــدْ أَجَـــــابُـوا
صَــوْتُــهُمْ صَـوْتٌ يُــدَوِّي فَـــــإِذَا شَــــــدُّوا أَصـــــــَابُـوا
مِــــــنْ قَـــــدِيمٍ يَـا بِـلَادِي حـُــــبُّــنَا فِـــيــكِ اَلْمُـــــذَابُ
وَكَـــزَيْــتُــونٍ وَ نَــخْـــــلٍ أَخْـــــضَرٌ دَوْمًــــا عُــبَــــــابُ
مَا اِنْـــحَــنَــى يَـوْمًا لـِريحٍ إِنْ رُعُــــودٌ أَوْ سَـــــــــــحَـابُ
شَــــامِخٌ اَلـــرَّأْسِ أَبِـــــيٌّ، لَا بِـكِبْـــــرٍ ، بـَــلْ مُـــهَـابُ
ثَــــابِـــتُ اَلْأَصْـــلِ وَفِـــيٌّ مُـــــزْهِرُ اَلْقَــلْبِ شَـبَـــابُ
لَا جِــــرَاحٌ أَوْ رِمَـــــــــــاحٌ طَاعِـنـَـــــاتٌ أَوْ صِعَـــــابُ
مَــــا نَــــفَتْ عَنْهُ اَلْعَــطَاءَ وَ لَئِـــــنْ سَــادَ اَلْـيَــبَـــــابُ
فـَـــهْـــوَ لِلْأَحْبَابَ رِفْـــــدٌ لَـيْـسَ يُــبْــقِـيـهِ اِحْتِـســــَابُ
إِنَّـــمَا اَلْــــحُبُّ سَجَايـَـــــا لَا عَــــطَايَا وَ اِكْتِسَـــــــابُ!

17العزيزُ اِبنُ الأعزّ

أكتب إليكَ يا حفيدي هذه الكلمات عسى أن تقرأها بعد سنوات ذات يوم فتستوعبَ معانيَها وأبعادَها، ورغم أنّك الآن في سَنتك الخامسةِ من عُمرك وأنا في الثالثة والستّين، فإنّني أجدُ رغبةً واِنشراحًا بل مُتعةً في الكتابة إليك،وكم أشعُر بالمسرّة عندما أستمع إليك وأنت تُعبّر طَلْقَ اللسان في نبرات عذبة بلُغة بُودلير وبنبرات شارل أزنفُور لذلك أتمنّى أن أسمعك كذلك فصيحا بلغة المتنبّي ونبرات طهَ حسين وبلغات العالم الأخرى أيضا لأنَ العالم أصبح قرية لابدّ أن يفهم الناس في مختلف نواحيها بعضهم بعضا ليَسُود بينهم السّلام والوئام.
في مثل سِنّك هذا يا عزيزي كنتُ أجدُ صعوبة في الكلام خاصة عند حديثي مع الناس الذين من غير عائلتي ومعارفي فقد كنتُ أتلعثم في نطق الحروف التي أكاد أختنق بها فأشعر بالضّيق والحرج لذلك كنتُ إلى الصّمت أميل ولم أتخلّص من هذه العاهة إلا عند آخر سنوات تعليمي الثانوي فأنا اليوم عندما أستمع إليك وأنت تُزقزق وتُوَرْوِرُ بالكلمات في طلاقة واِنسياب أشعر بسعادة كبرى إذ أنك لم تَرث تلك العاهة من جدّك والحمدُ لله !
ما أسعدني بك وأنتَ تذهب في مَرح وحُبور إلى روضة الأطفال القريبة من منزلك بإحدى الضواحي الجميلة الجنوبية لباريس حيث تمرّ على الحدائق الغَنّاء فترى العُشب اليانع والعصافير وأصناف الأشجار والنّاس يسيرون في نظام واِحترام فلقد كنتُ يا عزيزي في مثل سنّك أخرج من الغار إلى فضاء البادية الطّلق مع أبناء عمومتي لنقضي اليوم في اللعب مرة بالطين نصنع منه ـ بعد الحفر والتنقية والعَجْن ـ خيولا وعرباتٍ وسيّارات وجرّارات ومرّة نَضفِر من سعف الجريد ساعات نضعُها على مَعاصمنا ونصنع من سعف النخيل أيضا مراوح نجعلها على إبر النّخل كالمغزل فتدور بالهواء عندما نجري بها فنحسب أنفسنا طائرات تُحلق في السّماء… ومرّة نجعل من جريد النخل بعد شدّها بخيط كاللّجام أحصنةً نمتطيها فنركض حُفاةً غير عابئين بالحجر يتطاير من تحت أقدامنا فنجُوب الأودية والتلال والوهاد كأننا على سرج سابح في كوكبة من عِتاق الخيل الجامحة في البراري.
سأظل أذكر دائما لقائي بك أوّل مرّة والذي كان بمطار ـ تونس قرطاج ـ في أوائل صيف سنة 2011 وعُمْرُك وقتذاك حوالي تسعةَ أشهر عندما اِصطحَبَتْكَ أمُّك من باريس وأتذكر ـ وما أجملَها من ذكرى ـ أنّك رغم عناء السّفر وأزيز الطائرة كنتَ مُبتسما جَذلان تُرفرفُ في أحضانها, ومن الوهلة الأولى إِذْ أشرتُ إليك ـ هيّا إليَّ ـ ألقيتَ بنفسك في صدري فضمَمتُك بشوق وحنان لكأنّي أضُمّ فيكَ زيادًا وأبِي وأمّي ومكثتَ  مُطمئنا جَذلانَ تُعابثُ لحيتي ونظارتي بأناملك اللطيفة فما أروعَكَ من حفيدٍ وما أسعدني بك !
جالتْ وقتَها في خاطري لقطاتٌ سريعةٌ من الذكريات منها حين ودّعتُ فيها أمّي وأنا في السّادسة فقد سافرتُ من ـ بئر الكرمة ـ في رُبوع غمراسن إلى ضاحية سيدي رزيق بتونس العاصمة فكنت أذهب إلى والدي في دكان الفطائر بشارع الحرية قُرب الإذاعة صباح كل يوم أحَد بمعيّة عمّي الأصغر لألقاهُ بعض السُويعات وهو يعمل بجِدّ ثم يُودّعني بعد أن يشتريَ لي الشكلاطة والجُبن ويدُسّ في جيبي بعض القطع النقدية ثمّ أعود حزينا وحيدا في قطار المساء…
تذَكرتُ أيضا عِناقَ اِبني ـ وحيدي ـ وأنا أودّعُه عند سَفره للدّراسة في فرنسا حيث الآفاق الرّحبةُ والمجالات العديدةُ تلك التي ضاقت بها البلاد فكأنّك يا عزيزي قد عوّضتَ لي في تلك اللحظات أشواقي إليهم جميعا عندما طِرتَ إليَّ كحمام رَفرف ثمّ حطّ على أيْكِهِ على ساعدي وقد ضمّنتُ ذلك اللقاء في قصيد كتبته بعد سنة من التأمّل في كلماته .
بهذه المناسبة لابدّ ان أذكر لكَ أوّل لقاء بيني وبين أمّك التي حدّثني عنها أبوك ذات يوم أنه اِختار زميلةً له لتكون رفيقته في إنجاز بحث السنة الأخيرة من دراسة الهندسة الإعلامية بتونس ومن وقتِها جعل دائمَ الحديث عنها ويلهَجُ بذِكرها في كل مناسبة ويُثني على صفاتها بالإعجاب وكان يحادثها من غرفته باِستمرار للتّشاور في ذلك البحث وكان أحيانا يدعوني لردّ تحيّاتها إليّ فاِكتشفتُ أنها على قدر كبير من اللطف والذكاء والعزيمة ولا أنسى مساء السبت فيفري2008 فهو يوم اِفتتاح معرض ـ ألوان على كلمات ـ لصديقي الرسّام عثمان البَبّة ـ بنادي الطاهر الحداد ـ وقد اِستلهم لوحاتِهِ من بعض قصائدي وترجمَها وعلّقها إلى جانبها، وبالمُصادفة أعلنت الكليّةُ عصرَ ذلك اليوم نتائج الاِمتحان النّهائي فنجحا معًا باِمتياز وأقبلا معًا مُسرعيْن إلى المعرض ففرحتُ بهما كثيرا…إنّه يومٌ سعيد حقّا من أبهج أّيام حياتي ففيه نجح اِبني وفيه رأيت قصائدي مُترجمَةً ومَرسومَةً وفي ذلك اليوم أيضا رزقني الله فيه باِبنةٍ رائعة… هي أمّك !
سأحدثك عن يومك الأوّل الذي دخلتَ فيه روضة الأطفال عندما رافقتك إليها, فسِرتُ سعيدا بك وقد تخطيتَ مرحلة الرّضاعة وأصبحتَ تستطيع القيام بشؤونك الصّغيرة وحدك وكنتَ تسبقني فرحا حاملا حقيبتك على ظهرك في فخر وعزم فتذكّرتُ الصّباح الذي أودعتُ فيه أباك روضة الأطفال برادس وهو في نفس سنّك تقريبا فكم كان مبتهجا وهو يسير على رصيف الشارع الطويل بجانب الأشجار في اِتجاه البحر…كان ذلك الشارع الكبير في رادس وقتها خاليا من المقاهي والدكاكين والسيارات والعمارات فكنا نستمتع بالسّير فيه ذهابا وإيابا بجانب حدائق الفيلات ذات المعمار الأوروبي فنرى قرميد السّطوح يلوح أحمر بين اِخضرار الأشجار المثمرة وبياض الياسمين المُنداح على الأسيجة مع مختلف الأزهار وننتشي بالهواء النقيّ وبسنفونية الألوان والعصافير في الصّباح والمساء.
لا أذكر أبدا أن أباك أبدى كسلا أو رفضًا للذهاب إلى روضة الأطفال الجميلة وسط حديقة كبيرة فكان يسعى إليها رغم الأمطار والرياح والبرد الشديد فيشدّ على يدي قائلا –هيّا بنا – وهي العبارة التي ما زلنا نردّدها إلى اليوم كتعبير عن العزم والأمل وكنا نقطع المسافة بسَرد الحكايات كحكاية الملك والصيّاد وحكاية الأسد والأرنب وغيرهما من الحكايات العجيبة والمشوّقة ممّا طالعته وأضيف إليها من خيالي فنجد المتعة معا هو بالإنصات بشغف وأنا بمعايشتي لتلك الشخصيات والوقائع كما تعلّمنا ترتيب الأرقام بحساب الأشجار… فما أشبهَ اليوم بالأمس عندما أراك أنتَ أيضا تُحبّ الذهاب إلى روضتك وتُصرّ على جذب حقيبتك بنفسك بل وتُسابقني أيضا…كم أنا سعيد بك إذ أرى فيك عزم أبيك وطموح أمّك .

على شَوكةِ الاِنتظـار وَقفـــــتُ  *  مَـع الواقفينَ وبيـنَ الوُفــــودِ
وفِي قَلق أشْرئِبُّ بعَــيــنـِــــــي  *  تُرى هل سَألقاهُ حَقّا حفيـدي
تُرى هل كمِثل التّصاوير حُسْنًا  أبِي قَدْ رأيتُ، وفيهِ جُـــــدودي
وفــيهِ بَهــاءُ زيــــــادٍ صَبيّــــا  *  ببسمتِه تلكَ، تُحْـيِــي عهــودي
فيا طائرًا في أعَالي الجِـــــواء  تَمهّلْ وحاذرْ ففِيكَ وليـــــدي
ورَفْرفْ بلطفٍ وحُثُّ الجنــاحَ  على عجَل رغمَ ريش الـحَديــد
وبعـــد اِنتظار أطلّ حفيـــــدي  فهَشَّ وبَـشَّ بوجه سَـــعيــــدِ
إليَّ حبيبيأشــرْتُ إليـــــــه  فَهَبّ لِحِضْني كطيـــر غَريـــدِ
وحَطَّ على ساعدي مِثْلَ بَـــاز  على أيْكهِ قـــادمٍ مِن بعـــيــدِ
فكم مِنْ جبالٍ وبحرٍ تَخطّـــى  * وكم مِن رياحٍ ، وكمْ مِن رُعـود
وعانقتُهُ، كدْتُ أقسُــو عليـــهِ  *  بِضَمٍّ ولثْمٍ وطــوْقٍ شَـــديــــد
بشوق أقبّلهُ من يَــــديْــــــــه  *  تجُولان في لحيتي كـالـــوُرودِ
يُعابثُ نظّارتي في سُــرور  فِداهُ بعيني، وهَــل مِنْ مَــزيـــدِ
يُكفْكِفُ لي دَمعتي ما دَراهُ  بأشجانِها أبحَرتْ في القَـــصيـد
فباركْ ليَ اللهُ فيه وأسْعِـــدْ  وحَمدًا إلاهِي فَذا يَــومُ عِـيـدي !

18ـ الشّمس والقمر

رغم أن والدي رحمه الله لم يدرس إلا أربع سنوات في التعليم الاِبتدائي إلا أنه كان على قدر كبير من الثقافة بفضل شغفه الشّديد بالمطالعة وكان كثير الاِستشهاد بشعر المتنبّي وعنترة وحاتم الطائيّ والرّصافي وشوقي وذِكر أخبارهم وطرائفهم ناهيك عن الاِستشهاد بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية والسّيرة وأخبار الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين والوقائع التي دارت بين الثوّار التونسيين والجيش الفرنسي في الجنوب بالإضافة إلى أخبار بلدة غمراسن عبر التاريخ وكان كثير الإعجاب بالإمام اِبن عرفة الذي يعتبره مثالا في طلب العلم والاِجتهاد وقد واظب أبي رحمه الله سنوات عديدة على دروس الشيخ الزغواني التي كان يلقيها مساء كل يوم أحد بمسجد حيّ الحجّامين بتونس المدينة ,وقد رافقتُه أحيانا ,وبذلك أدركتُ آخر شيوخ الزيتونة الأفذاذ ونهلت من علمه فهو يقرأ الآية ويذكر موضعها وسبب نزولها ويفسرها على منهج القدامى لكنه يستخلص منها العبرة لإصلاح أحوال المجتمع في الختام.
كان والدي رحمه الله مثال المسلم في إيمانه وصَلاته وصيامه وفي أخلاقه وفي عمله ومعاملاته فكان متسامحا كريما باسما حنونا حريصا على صلة أقربائه ومعارفه وكان صبورا متنازلا عن حقّه يسعى للخير والصلاح وعمِل طول حياته على الرّفع من شأن العائلة بالتشجيع على العلم وعلى إصلاح ذات البين وعلى مكارم الأخلاق.
رحم اللّه والدي
كان من أنصار فريق الترجّي الرياضي ولكنّه ما كان يُعلن ذلك لطفا منه لأنّي كنت من أنصار فريق النادي الإفريقي المنافس اللّدود لفريقه فإذا دارت المقابلة بينهما تراه يذكر محاسن الفريقين ولا يُبدي فرحه إذا اِنتصر فريقه بحضوري.
ومن حُبّه الكبير لي وحرصه الشّديد على صحّتي أنه اِستقدمني إلى العاصمة وأنا في الثالثة من عمري على إثر إصابتي بالرّمد فمكثتُ شهورا طويلة للمعالجة لدى عائلة عمّي في أحد أحياء تونس العتيقة التي أحببتها منذ ذلك العهد فمازالتْ ملامحها عالقة في خيالي إلى اليوم من بائعي الغلال على عربات كانوا يدفعونها أمامهم وهم ينادون على غلال كل فصل بأغانيهم الجميلة , إلى شوارع تونس وأنهجها وأزقتّها النظيفة… وكم كان صوت الأذان الشجيّ عذبا وهو يسري بلا مكبّر صوت طبعا…
مهما تحدّثت عن أبي فلن أحيط بخصاله التي تميّزهُ ويُقِرُّ بها كلُّ مَن عرفه عن قُرب أو بُعدٍ فالفضل له في جميع ما اِكتسبتُهُ في حياتي فلقد اِنتشلني من شَظف العيش البدائيّ في أقاصي الجنوب إلى نِعمة الحياة في العاصمة كأنّه أراد أن يُجنّبني الصّعاب والآلام التي لقِيَهَا في طفولته فقد عاش لدى جدّه لأمّه بعيدا عن أبيه المُغترب في تونس العاصمةِ ولمّا بلغ الخامسة أو السّادسة عاش كاليتيم لدى عمّه الذي كفله وكان من الأطفال الأوائل الذين دخلوا المدرسة الابتدائية بغُمراسن فدرس فيها أربع سنواتٍ لكنّه لم يستطع مُواصلة تعليمه بسبب قساوة الظروف إذ أنّه لم يجد أحدا يستخرج له بطاقة الولادة من مدينة تَطَاوين المجاورة حيثُ مركز الإدارة فقصد العاصمة وهو يافعٌ للعمل في دكاكين الفطائر والحلويات التقليدية حتى أضحى بعد سنوات قليلة من أمهر الصنائعيين فيها وكان المُعلّم الأوّل في أكبر محلاتها بباب البحر وبشارع الحريّة حيثُ تتطلب تلك المحلاتُ الإتقانَ والكياسة والنظافة لأنها في الأحياء الأوروبية ولأن مُعظم زبائنها من الجاليات الفرنسية والإيطالية وحتّى الألمانية والأمريكية في فترة الحرب العالمية الثانية وهذا ما جعله يقرأ ويكتب بالفرنسية والإيطالية ويفهم بعض الكلمات العبرية وكان يهوى في شبابه الدرّاجات والأفلام وكرة القدم بالإضافة إلى الفروسية والصّيد وهما من بقايا هوايات الجنوب وكان أبي أيضا يطرب عند سماعه الطبل والمزمار.
رحم الله أبي
كان عَطوفا رفيقًا بأخويه الأصغَريْن وسَعى إلى أن يُواصلا دراستَهما وظلّ حَفيّا بهما فكانا سَندا له في مَرضه الأخير وعند الشدائد من بعده وكان كثير الاِحترام لأخيه الأكبر يُجلّه ويستشيره في أبسط الأمور وكان بارّا بأختيه اللتين تَرمّلتا بخمسة أطفال لكل منهما فظل لهما نِعمَ الأخ وبمثابة الأب لأبنائهما وكان منزلنا دائم الحركة عامرا بالأقارب وحتّى بالأباعد ليلا نهارا وفي جميع الفصول وعلى مدى السّنين الطّوال فما كان يتبرّمُ أبي ولا يَتجهّمُ بل نراه مُستبشِرًا دائمًا ومُرحّبًا بالجميع…
واحسرتاهُ على تلك الأعوام التي كان الشّمل يجتمع حول أبي !
هنا لابدّ أن أشيد بفضل أمّي التي كان يأخذ منها التّعبُ مأخذا شديدا أحيانا فإذا ما أحسّ منها ذلك شَدّ مِنْ صَبرها وعزمها ببعض الآيات والأحاديث والأشعار وفي الواقع ماكان أبي ليستمرّ على سيرته تلك لولا وقوفُ أمّي إلى جانبه وتحمّلها أعباء المنزل فرحماك يا أمّي
رَحمَاكِ يا أمّي
هيفاءُ باسمةٌ رشيقةٌ أنيقةٌ سواء أنتِ في لباس بادية الجنوب أوفي الأزياء التقليدية لنساء العاصمة فحيثما حَللتِ حَل معك الجمال والأنسُ والسّرور …
دائمةُ الاِبتسام والبهجة أنتِ
ما أعظمَك يا أمّي في حنانك على الجميع صِغارا وكبارا سواءً من أسرتك أو من أسرة أبي وحتّى على غيرهم من الأحباب والمعارف.
رحماكِ يا أمَيمةُ
ما تزال أغانيك على الرّحى وفي الأعراس تبعثُ في وجداني شُجونَ الحنينِ إليكِ
ما يزال شذاكِ الطيّبُ يُنعشُ رُوحي
ما يزال مَذاقُ أناملكِ في عَجين الرّغيف والكُسكسي أشهى ما في الدّنيا
وماذا بقيَ لي من الدّنيا بعد رحيلك يا أميمةُ…يا مَّا…. !!

19 ـ في الكنيسة

ذلك الصبيّ الذي قَدِم من أقاصي الجنوب ليدخل إلى المدرسة في  غُرّة أكتوبر من سنة1958 بضاحية مِقْرين جنوب العاصمة تونس كان قد مرّ يومَذاك ببناية جليلة شاهقة قيل له إنها الكنيسة فلم يدر وقتها ما الكنيسة…ذلك الصبيّ هاهو اليوم ـ يوم السّبت جانفي 2014  ـ يرتقي درجاتها ويدلف إليها لتكريمه فيها مع ثُلة من الأدباء الأجلاء فيجلس بينهم وَجِلا ويتابع بعينيه الحفل غير أنّه ظل طيلة الوقت يسترجع ذكرياته فإذا هي ورقات يقرأها مُتهجّيا ـ بل مُتلعثما كما كان ـ بين حروف حوادثها وسطورها ما بين آلام وآمال !
ما أروع التّسامح والمحبّة بين الأديان والشّعوب وبين النّاس جميعا فالكنيسة أضحت مركزا ثقافيا زاخرا بالنشاط وقد اِنتصب أمامها في الساحة مسجد كبير بمئذنته ذات الهندسة التونسية الأصيلة ترتفع بالأذان شجيّا عذبا بعدما كان ذلك الصبيّ قد سمع الناقوس يدقّ في المكان نفسه منذ سنين عددا في هذه الضاحية التي كانت مُنتجعَ فيلات جميلة ذات حدائق غنّاء تسكنها الطبقة الميسورة من الجاليات الأوروبية زمن الاِستعمار الفرنسيّ وقد أدرك الصبيُّ الكثير منهم وهم يسيرون في هندامهم الأنيق بل إن بعضهم كان يبادره ـ بالبانجُور ـ وما زال يذكر أنه رأى الموز والإجّاص لأول مرة وهي ثمار دانية تتدلى على سياج المنازل مع الورود وشتّى الزهور فكان المَسيرُ ذهابا إلى المدرسة وإيّابا رحلةً ممتعة بالنسبة إلى ذلك الصبيّ الذي فتح عينيه ـ رغم الرّمد ـ على قِفار الجنوب الذي ألِفَ شَظف العيش فيه…
شكرًا لأبيه الذي طار به كالّنسر من هناك
شكرا لأمّه التي تحمّلت فراقه
شكرا لعمّه الذي أواه
شكرا لزوجة عمّه التي هذّبته
شكرا لجدّته التي رعته
شكرا للمُعلم الأول الذي علمه الحروف
شكرا لجميع مُعلميه وأساتذته
شكرا لجميع الذين قرأ لهم وسمع منهم
شكرا لجميع الذين لهم فضل عليه
شكرا لجميع الذين فتحوا له المجال وشجعوه
ما أكثر ما أخذ وما أقلّ ما أعطى !

20 ـ ذاتَ عصر…ذاتَ ربيع

ذاتَ عَصر من يوم ربيعيّ منْ تلك الأيّام العاصفة التي تَستثني نسائمَه اللطيفةَ، هو يوم في بعض أيّام الرّبيع كأنّه من بقايا عنفوان الشّتاء،اِلتقينا نحن الثلاثةَ ـ عبد المجيد يوسف والحبيب الزنّاد وأنا ـ أمام المسرح بشارع الحبيب بورقيبة بتونس العاصمة على أمل أن نجدَ خيمة منتصبةً هناك خاصةً بمعرض الكتاب وعلى أمل أن تنتظم فيها أمسيّة شعريّة فكم كنّا مبتهجين بتلك المبادرة التي هبّ إليها الشّاعر الحبيب الزناد من المنستير بمجرّد دعوة عبر الهاتف وجاء يسعى إليها الأديب عبد المجيد يوسف من سوسة أما أنا فقد ركبت القطار من ضاحية رادس واِخترت اللّقاء بهما وببقيّة الشّعراء بَدل أن أحضر بُروتُوكلات الاِفتتاح في قصر المعرض.
اِلتقينا أمام المسرح واِبتهجنا عندما قابلتنا الخيمةُ البيضاء الكبيرة ولكن ما لبثنا برهة حتى وصلت إلينا مع صَولات الرّياح العاتية أصوات الموسيقى الصّاخبة فقلنا لعل ذلك من دواعي الاِحتفال واِستجلاب الذين يريدون متابعة الأمسية الشعرية ثمّ اِقتربنا من الخيمة فلمْ نر أحدا من المثقّفينْ ولا أحدا من الوزارة أو الإداريينْ فبقينا واجمينْ حتّى جاءنا الخبر اليقينْ عبر الهاتف أنّ الخيمة قد ضُربتْ أوتادُها ورُفعتْ أطنابُها عند آخر الشّارع بعد السّاحةِ الكبرى والسّاعةِ المُنتصبة في وسطها فاِتّجهنا نَمرُق الرّيح بعزم حاثّين الخُطى كي لا نصل عن موعد اِنطلاق الأمسية متأخّرين،خاصّة وأنّ الصّديق عبد المجيد يوسف هو الذي أوكِل إليه تقديمُ الشّعراء وقد اِستبشرنا عندما لاحت لنا الخيمة البيضاء مُنتصبة ولكن أصِبنا بشيء من التعجّب عندما لم نرَ أيّ شخص أو أيّ حركة من حولها فقُلنا لعل الأمسية قد بدأت وحضرت الجماعة ودخلت قبلنا والجميع فيها ما بين مُنشِدين للشّعر ومُستمعين فدلفنا إلى الخيمة وَجِلينَ، ويا خيبةَ المَسعى عندما قابلتنا الآلاتُ والتّجهيزات المُوسيقية في أحد الأركان كأعجاز نخل هاوية !
عديد المكالمات قد جرت حينذاك بين الحبيب الزنّاد وعبدِ المجيد يوسف من جهة وبين المسؤلين والمنسّقين في معرض الكتاب وقد نَقلاها لي وتتلخّص في أنّه علينا أن نلتحق بمعرض الكتاب في ضاحية ـ الكرم ـ بوسائلنا الخاصّة فعَقدنا إذن ـ اجتماعا طارئا وخاصّا لبحث المُستجدات ـ بجانب الخيمة الخاوية التي تُصارع الرّياح العاتيةَ وبعد المداولات السّريعة اِتّخذنا قرارنا الحاسم بالإجماع وهو أن نجلس في أوّل مَقهى ونعتبر ذلك أمسيتنا الشّعرية والسّلام على هذه الدّعوة وما شَابهها طالما لم يُحسن القائمون على معرض الكتاب وغيره من الفضاءات الثقافية تنظيمَ مثل هذه المُبادرات وإيلاءَ ما يليقُ بالشّعراء والأدباء ما هُم جديرون به من تقدير واِحترام ضِمنَ منهج ثقافي جديد وشامل .
جلسنا… ومِنَ الشّعر اِنتقلنا إلى القصّة فقد أخرج عبد المجيد يوسف من محفظته مجموعته القصصية الجديدة ـ وحيدًا…أقطع هذا الدّغل ـ وأهدانا إيّاها في قطار العودة فتحتُ الكتاب عند القصّة الأخيرة من دُون أن أبدأ بالمقدّمة ولا بالقصة الأولى فتلك عادتي في قراءة الكتب الإبداعية والأديب عبد المجيد يوسف صاحب قلم مِعطاء ومتنوّع فهو شاعر وقصاص وناقدٌ وباحث في اللّغة والأسلوب ومترجمٌ من اللغتين الفرنسية والإيطالية وإليهما ممّا يجعل كتاباتِهِ صادرة عن معرفة ومماحكة
قرأتُ الفهرس فإذا القصّة الأخيرة تحمل عنوان ـ جَريُ الرّياح ـ وبما أنه يوم ريح بدأتُ بقراءتها فلم أجد الرّياح في القصة ولا على مَهبّها ولا خطاها إنّما وجدتُ حفيف نسمة حُبّ هبّت من جديد في لحظات عابرة عندما التقَى رجُل باِمراة صُدفةً على قارعة الطريق وهي بصحبة طفلتها فمكثا يتحادثان برهة من الزّمن أثارت فيهما الحنين وعند الفراق فاجأتِ الطفلة الرجل بصفعة عندما همّ بقبلة منها فما كان من المرأة إلا أن اِعتذرتْ بأحسنَ منها وذلك بأن قبّلته على خدّه ثمّ اِفترقا، هي إذن قصة قصيرة بأتمّ معنى الكلمة تتجسّم فيها الدعائم الأساسية من وحدة في الزّمان والمكان والوقائع وحالة الشخصيات ضمن أسلوب التركيز والاِقتضاب والتصوير.
قصّة ـ الحذاء ـ قرأتها أيضا وأنا في القطار فقد اِستهواني العنوان لأنه عنوان إحدى قصائدي القديمة ولكنْ شَتّان بين حذاء قصّة عبد المجيد يُوسف وحذاءِ قصيدتي،الحذاءُ في هذه القصّة هو ذاك الذي خرج فيه بعد مغادرته المسجد قبل أن يُتمّ صلاة الجمعة فلاحظ أنّه غيرُ حذائه لضيقه أمّا سبب مغادرته المسجدَ فيعودُ إلى تَبرّمهِ منَ الرّوائح الكريهة ومِمَّا زاد الطّين بلّةً أن نَزل على قميصه لعابُ أحدِهم حتّى بلغ منهُ مبلغًا من البَلل لا يُطاقُ عند ذلك هرول خارجًا يريدُ خلع القميص وتنظيفَهُ فالقصّة جمعت بين الواقعية والنّقد في أسلوب السّخرية والسّهل المُمتنع
وفي قصّة ـ الحاجة ـ ثمّة إبراز للحالة المادية البائسة لأحد الأساتذة حيث يضطر لأخذ قُفلين ومقبض من حقيبة ملقاة في مكان النفايات رآها مع تلاميذه في جولة دراسية وبعد الرجوع إلى المعهد لمحه أحدهم يتسلل عائدا إلى ذلك المكان فظن أن أستاذه رجع لمعاينة المكان لإعداد درس آخر ولكنه ما كان في الحقيقة يعلم أنّ الأستاذ إنما عاد كي يأخذ تلك الحقيبة ليصلح ببعض قطعها ما أصابه الدّهر من حقيبته القديمة .
أمّا القصّة الأولى فهي ـ الشّمسُ في يوم قائظ ـ وهي القصّة القائمة على ـ الطّرز اللغوي ـ أقول ـ الطّرز ـ لأن الكلماتِ فيها مختارةٌ منتقاة بدِقّة ودِرايةٍ حتّى لكأنّ كلّ جملة فيها تُحيلك على نصّ من عيون اللغة العربيّة سواءً قرآنا أو شِعرًا أو نثرًا للجاحظ أو للمعرّي كان وحتّى لميخائيل نعيمة والبشير خريّف والأغاني الشعبيّة التونسيّة فمجال السّجِلات اللغوية في هذه القصّة مُتنوّع ومتعدّد ولعلّ عبدَ المجيد يُوسف أراد بهذه القصّة الإمتاع بالمباني قبل المعاني فقد رصّعها ببراعة بكثير من التّضمينات .
عندما أتممتُ هذه القصّة توقّفَ القطار فوجدتُ نفسي قد تجاوزتُ محطّة رادس…معًا نقطع المسافات…
تَنُوءُ النّوارسُ
بينَ أخضرَ وأزرقَ
التّينُ والياسمينُ
بياضُ المِلحِ
نوّارةُ الجُرحِ
رادسُ
مِنْ يَمنٍ جِئنا ومِنْ أندلسٍ
حَسّانُ الفاتحُ يصنعُ الفُلكَ
مِنْ مِصرَ إلى ـ المَلْيَانِ ـ
مَجراها ومَرساهَا
رادسُ
اِمْضِ في البحر حسّانُ
حنّبعلُ يُحاصرُ رُوما
ينتظرُ المَدَدْ
لكنّما ظمَأ هُوَ البحرُ
خرابٌ خرابٌ… قرطاجُ أمامَكَ
لا أحدْ
فكيفَ لا يُهدَرُ دَمُ ـ فَرْحاتِ حَشّادٍ ـ ذاتَ صباح
مَرّتين
كذا أخبارُ ثورةِ العَجينِ
مِنَ الخليج إلى النّيلِ حتّى الأطلسِ
أهمَلهَا الرُّواةُ
رادسُ
في غُربة الحُبِّ وَاحرَّ قلباهُ
أحبابُها أحبابِي
حنّبعلُ
حَسّانُ
حشّادُ
لا صديقٌ و لا سَندْ
رادسُ
شِفاهُ المَرْجانِ
فِضّةُ الموجِ العاتِي مَرايَا
اِنكسرتْ على صُخور الميناءِ
والنّخلُ واحةٌ  يُداهمها الإسمنتُ
رادسُ
بينَ بحرٍ و غابةٍ
رادسُ
قَمرٌ في ليل الأزرقِ
شِباكُ الصّيدِ على كَتِفِ المَلاّحينَ
شَعرُها أناملُ الرّيحِ
أصابعُ بِلا أظافرَ ولا بَصَماتٍ
كيفَ ألامِسُ ؟
رادسُ
الزّوارقُ عُدْنَ
بلا سَمكٍ
رادسُ
الجازيةُ نَسجتْ جدائلها خيمةً
في الهاجرةِ
ونَشرتْ غدائرَها مِرْوحَةً
على فَتاهَا الهِلاليِّ
هَدْهَدَتْهُ :
نَمْ يا بُنيَّ
غدًا سترحلُ معَ القافلهْ
رادسُ
اِرحَلْ.. اِرحلْ
قد أضاعُوا مفتاحَ المدينةِ
في السِّباخِ الكالحَهْ
و أحْرقُوا
أحلامَ البلادِ
فأمسينَا لا نعرفَ غدًا
مِنَ البارحَهْ
رادسُ
اِرحلْ …اِرحلْ
الطّريقُ طويلةٌ خاليهْ
سِرْ حافيًا على الأشواكِ
و لا تَمشِ بالنّعال الباليهْ
رادسُ
حسّانُ يا حسّانْ
لا سَرايا ولا فُرسانْ
حسّانُ يا أحزانْ
تَداخلتِ الأوراقُ
تَشابهتِ الألوانْ
رادسُ
القهوةُ دَمٌ والرّشفةُ جَمرٌ
نَارجِيلةُ المَساءِ
على رمادِ الأندلسِ
جَمرةُ الخليج فِي مَلعبِ كرةِ القدمِ
رأسِي بينَ الأرجُل
كأسِي شَفتِي
صَخَبٌ ودُخانٌ
لنْ يَسمعَنِي أحدٌ
رادسُ
ماتَ المَلِكْ
عاشَ الملِكْ
نادَى المُنادِي :
رادسُ…رادسُ…رادسُ !

21 ـ الدّرس الأخير

وهو في عقده التّاسع رأيناه في أوج عنفوانه وبهاء أَلَقِهِ يُلقي علينا درسا بمناسبة تكريمه في كلية الآداب 9 أفريل بتونس… هو أستاذنا ـ سي توفيق بكار ـ وسِي ـ هي أبلغ تقديري له وأعظم من جميع الألقاب ـ إنه أحد مؤسسي الجامعة التونسية وأحدُ أعمدتها الراسخة والشامخة بفضل سِعة علمه وعُمق اِطلاعه وطرافة اِستنباطاته وتواصل عطائه تدريسا وتأطيرا وتأليفا ومساهمة متميزة في الأنشطة الثقافية على مدى نصف قرن بل يزيد بسنين عددا .
ذلك هو توفيق بكار كما عرفتُه منذ أربعين سنة في وقار وهدوء ولطف أستمع إليه بشغف فإذا صوته ينساب بالعربية اِنسيابا والحروف تنثال في نبراته اِنثيالا وهو يشرح في إمتاع وإبداع باب الحمامة المطوقة من كليلة ودمنة هذا التأليف العابر للحدود وللعصور وقد توقّف ـ سي توفيق ـ عند بعض العبارات الواردة في النص مثل عبارة ـ إخوان الصفاء ـ فرأى أن الإخوان غير الإخوة لأن الإخوة تربط بينهم القربى التي أساسها النّسب بينما الإخوان تربط بينهم القرابة التي أساسها الاِنسجام والتوافق والتعاون والتضامن أمّا كلمة الصّفاء فقد رجع أستاذنا بمعانيها إلى الاِشتقاق اليوناني فاِنتقل بنا من لغة إلى إلى لغة ومن الجغرافيا إلى التاريخ ومن خصائص الحيوان إلى طبائع الإنسان فراح يُفضي بنا من فنّ إلى فن حتّى وصل بنا إلى الاِستنتاج المتمثّل في أنّ الحيوانات المتنوّعة التي تعاونت وتضامنت وتصافت من أجل خلاصها في نصّ الحمامة المطوّقَة يمكن أن تكون عبرة للناس أجمعين كي يتجاوزوا خلافاتهم واِختلافاتهم ليعيشوا في أمن ووئام وينتصروا على العدوّ المتربّص بهم.
ذلك هو الدّرس الذي اِستنبطه أستاذنا توفيق بكّار من شرحه المُوجَز لنص اِبن المقفع… هو درس بليغ ومفيد لكأنّي بأستاذ الأجيال أراد بهذه المناسبة ـ وفي هذا الظرف بالذات ـ أن يكون رسالةً أو وصيّة للتونسيين لعلّهم يتجاوزون خلافاتهم مهما تعدّدت وتنوّعت من أجل تحقيق التضامن والتعاون والأمن, إنه رأيٌ واضح وبليغ للأستاذ توفيق بكار في خضمّ إرهاصات ما بعد الثّورة التونسية وفي تحدّيات الوضع العالمي الرّاهن والقائم على الصراعات الدامية, يتمثّل في أنه لا خلاص للإنسانية إلا في البحث عن المنافع المشتركة لدفع خطر الدمار الشامل الذي يهدّد الكون فما على الإنسانية جمعاء أفرادًا وجماعاتٍ وشعوبا وقبائل وأمما إلا أن تسلك سبُل الإخاء والتعاون للعيش في سلام وصفاء مَثَلُها مَثَل الحمامة وغيرها من الحيوانات في هذا الباب من الكتاب .
فتحيّة تقدير وإكبار ووفاء لأستاذنا الكبير توفيق بكار وإلى جميع الأساتذة والمعلمين الذين نهلت من علمهم وأدبهم فقد مهّدوا لي دروب المعرفة وفتحوا أمامي آفاقا عالية من بينهم على سبيل الذّكر أستاذي الدكتور محمد اليعلاوي الذي تتلمذت على يديه في كلية الآداب بتونس وخاصة في مسائل الشعر القديم والترجمة وقد كان حريصا على الدقّة والتحقيق ويتقبّل جنوحنا الشبابي برحابة صدر في ذلك العهد الذي كنا نبحث في كتاباتنا عن التجديد ومخالفة المألوف وهو المتعمق في اللغة العربية وآدابها وكم أنا فخور وسعيد عندما فاجأني منذ سنوات قليلة ـ وقد التقيتُه في بيت الحكمة ـ بأنه قرأ لي بإعجاب قصيدة ـ عروس البحر ـ التي عارضتُ فيها قصيد يا ليل الصبّ متى غدُهُ…عندها شعرت أنني شاعر حقا…قبل ذلك بقليل رأيته من بعيد قادما على مهل فأسرعت إليه أريد أن أشدّ له رباط حذائه خوفًا من أن يتعثّر به فأبَى ذلك بإصرار شديد فألححت عليه  قائلا له إني أحدُ تلاميذه القدامى وشرف لي أن أساعده ردًّا لجميل علمه في صدورنا فوافق على مَضض ثم طلب مني بعدئذ أن أذكّره باِسمي فتذكّره وأكد لي أنه يتابع مجلة ـ الحياة الثقافية ـ التي نشرتُ فيها القصيد…إنه مثال للعلم والنزاهة وللتواضع أيضا !

إن ساد الليل وأسودُه لاَ بُــــدَّ اَلشَّــمْسُ تُـــــبَـــدِّدُهُ
وتُــنيرُ اَلْـكَـوْنَ أَشِـعُّـتُـها ويَـــجِيءُ اَلْفَــجْـرُ يُجَــــدِّدُهُ
فَـتَرَى اُلْأرْضَ وَ قَدْ لَاحَتْ حُـسْـنًـا بِالــنُّـورِتُــنَـــضِّـدُهُ
فِي لَوْحاتٍ هِـيَ آيـــاتٌ إِبْــــداعُ الـلَّـــهِ تُمـــــجِّــدُهُ
بِــلِسَانِ الطّيْرِ شَــدَا سَحَـرًا سِـرْبًا سِرْبًا يَـتَـهَـجَّـــدُهُ
نَــغَمًا وَكَهَمْسِ اَلْبحرِ سَجَا مَا أَرْوَعَ مَـوْجًا هَــدْهَـــدَهُ
حُلْمُ الأشواقِ وَقَدْ سَرَحَتْ كَــمْ بَـاتَ اللّيلُ يُــــقَيِّـدُهُ
*
وَتُطِلُّ عَرُوسُ البَحْرِ ضُحَى بِـتَمَامِ الحُسْنِ تُجَسِّــدُهُ
سُبْحَانَ اللَّهِ إِذَا أَبْــدَتْ مَــــيَّـاسَ اَلْــقَـــــدِّ تُـــؤَوِّدُهُ
فِي ذَاكَ الشَّطِّ وَقَدْ خَطَرَتْ وَالـثَّغْـرُ تـَـبَسّـمَ مَوْرِدُهُ
والشَّـعْرُ تُـعابِــثـُـهُ غَـَنَـجَا طـَــوْرَا يَـْنـحَلُّ فَــتَعْـقِـدُهُ
تـَـرْنُـو بِـــجُـفونٍ حَالـمةٍ وَيْــلٌ لِلسَّـهْمِ تُــسَــــدِّدُهُ
نـَحْوَ اَلصَيَّادِ رَمَى شَبَكًا عَـجَبًا لِلصَّيْدِ تَــــــصَيَــــّدَهُ
لمَّا خَصَـــــلاَتٌ قَدْ عَلِقَت مِنْهَا صَاحَتْ تَــتَـنَــــجَّدُهُ
لَبَّيْـكِ ! وغاص بلا وجل وَغِمَـارُ اَلْمَوْجِ يُـجَاهِـــــــدُهُ
بِحَنَانٍ أَمْسكَ مِنْ يَدِهَا وَ اَلْجِـيدَ بِــــرِفْــقٍ أَسْـــنَدَهُ
لَكِنْ! تيار البحر عتا بِـهُـبُوبِ رِيـَـاحٍ أَبْــعَـــــــــــدَهُ
حـَـتّى بَلَغَـا أَنْـأَى جُـــزُرٍ فـَأَقـــامَ اَلظِـلَّ ومَـــهَّـدَهُ
وَ أَفَاقَتْ مِنْ رَوْعِ فَرَأَتْ لِـفَـتَاهَا وَجْـهَا تَــعْـهَـــــدُهُ
كلُّ الدُّنيا صارتْ جَذْلَى لَـكَأنَّ ربــــــيـعًا تَشْــهَــدُهُ
فَـــهَفَا شَجرٌ و نَمَا ثَــمَرٌ مَـيّـَادُ اَلْغُصْنِ وَأَمْـــلَـــدُهُ
و النّخلُ تَهادَى في سَعَفٍ بِـاَلْعِذْقِ تَدَلَّى عَـــسْجَدُهُ
وَالزّرعُ تَـمَايَـلَ مُمْتَلِـئًا بِاَلْحَبِّ قَــريبٌ مَحْصَـــــدُهُ
وَبِسَاط العُشْبِ جَرَى مَرْحًا بِــزُهُورِ اَلْوَشْيِ تُـزَرِّدُهُ
حَتَّى الْبِيدُ اِخْضَرَّتْ لَهُمَا وَ يَــمَامُ اَلْأَيْــكِ يُــغَـــرِّدُهُ
إِثْـنَانِ وَمِنْ طَــيْرٍ شَــهَدَا وَ العُرْسُ اللّيلةَ مَـوعـدُهُ
وَ بِـوَافِرِ صَــيْدٍ أَمْــهَرَهَا وَكَـبَـــدْرٍ بَاتَـتْ تُـــسْعِدُهُ
زَمَنا عـاشَا أحلَى حُـلُمٍ إذْ طابَ اَلْعَيْشُ وأَرْغَـــدُهُ
*
وَ أَتَتْ يَومًا فَبَكَـتْ أَسَــفًا لاَبُـــدَّ الدَّهـرُ يـُـنَــكِّـدُهُ
قالت: اليم يناديني فالـمَــرْءُ وَمـَا يَـتَـــــــعَــــوَّدُهُ
سَأَعُودُ قريبًا لا تَحْــــزَنْ لابُــــــدَّ العَهْدُ نُـــجَـدِّدُهُ
وَجَمَ الصَّيَّادُ وَ لَم يَنْبُسْ وهَــــوَى صَرْحٌ شَـــيَّــدَهُ
وَاِحْلَوْلَـكَتِ الدّنيَا حُــزْنًا وَبَـكَى في الـوَرْدِ تـَوَرُّدُهُ
وَمَضَتْ فِي الأَزرقِ سابحةً لحِقَ الصيُّادُ يُعَــــربدُهُ
يَا هذا البَحْرُ أَعِدْ إِلْـــفي فأجابَ بمَوج يُـــــــزْبدُهُ
البَحرُ بِــمَا فيه مُــلْـكِي الـلُّـؤْلُـؤُ لِي وَ زَبَـــرْجَـدُهُ
وَاَلْحُورِيَّـاتُ حَرِيـمٌ لِــــــي مَا مِنْ أَحَدٍ يَـتَـقَــصَّدُهُ
فإذَا رَعْـدٌ وَ إِذا بـَــرْقٌ وَكلابُ البحرِ تُــــــــطَارِدُهُ
إِيَّــاكَ إذنْ يــومًا مِــنِّي وَتَـعَالَى اَلْمَـوْجُ يُــصعِّـدُهُ
قَـفَـزَ الصّـــيّادُ على لَـوْح وَ سَــوادُ اللّيلِ يُـغَـمِّدُهُ
حتَّى أَلْـقَاهُ اَلْمَوْجُ عَــلَى جُـلْمُودِ الـصَّخْرِ يُوَسِّـدُهُ
وَإِذَا اَلْجُلْمُودُ جَرَى دَمْــــعًا لــصدى بــــيت ردّدهُ
يَا لَــيْلُ الصَّبُّ مَتَى غَدُهُ أَقِـيَـامُ اَلسَّاعَـةِ مَوْعِـدُهُ ؟

22ـ دم الــكلام

أغنياتُ أمّي تُهَدْهِدُني
رأسي على رُكبتها
المغنّي الشاعرُ البدويُّ
بمئزره الأبيض
عصاهُ
صوته الجهوريُّ
المَحفل حوله آذانٌ وعيونٌ
وأنا

لو أنّي وجدت في حَوشِنا المنقور في الصخر قرب بئر الكرمة بأقاصي الجنوب آلةً موسيقية لكنتُ من الموسيقيين؟ ولو أنّي تعرّفت على نوادي السينما لكنت ربما من خلف العدسة العجيبة؟ ولكنني من عائلة بدويّة يسري في عروقها دم الكلام سواء كان ترتيلا أو شعرا أو خرافات و أخبار النجع في حِلّه وترحاله
في عهد الصّبا وإلى أن صرتُ يافعا كنتُ لا أقدر على الكلام الطّلق الذي يجري على ألسنة الناس بيُسر وسلاسة فكنت ألاقي العنتَ والعذاب في الكلام حرفا حرفا كلمةً كلمة فهذه القاف الحلقيّة تكاد تسُدّ النّفَس حتى سكرات الاِختناق وتلك الرّاء اللسانية تجعل من اللسان سوطا يقرع جوف فمي أما الباء الشّفوية فهي الإبرة والخيط وكفّى بي غَمًّا وهَمًّا
قال لي سيّدي المعلم مرة بعد طول الاِنتظار ـ اُكتبْ المحفوظات عوض سَردها ـ عندئذ اِسترحتُ من عناء الكلام وأرحتُ سيدي أيضا من فَأفأتي وتَمْتمتي….
شكرا لك سيّدي ! فقد اِكتشفتُ وقتذاك لذّة مداعبة القصيدة وهي تنساب من أناملي عبر القلم والحبر على الورقة…
مضى بي العُمر سريعا فاِنحلّت عقدة لساني وصرتُ أكتب القصيدة من وجداني ولكن أيُّ معنى للكلمة في عصر صار كل شيء فيه خاضعا لسلطان الإعلام ؟
أيُّ إحساس للإنسان في عصر كل شيء أضحى يخضع لقاعدة العرض والطلب وفي عصر باتت السيطرة ممكنة على الأذواق والأفكار فأصبحت الشعوب تُقاد فيه إلى ما يُرادُ لها من تدبير وتدمير !
ما كنتُ أحسب يوما أن الحرب العالمية الثالثة قد وقعت وأننا عشنا في رَحاها سنوات من حيث لم نشعر بها هنا أو هناك في شتّى نواحي العالم وأنّ ـ النّمر الورقيّ ـ هكذا كنا نسمّي الولايات المتحدة الأمريكية… أنّ ذلك النمر سيتغوّل وسيلتهم الدُبّ ,دبّ الاِتحاد السوفياتي الذي اِنهار وتفتّتَ !
أيُّ معنى للشعارات عندما تدوس الدبابات الصينية الطلبة وهم يطالبون بالحرية يا ماوتستونغ؟ وأيّ معنى للثورة عندما يجوع ـ الرّفاق ـ في شِتاء روسيا يا لينين؟
أيّ معنى للديمقراطية وللتقدّم وللحضارة وللحداثة ولشعارات حقوق الإنسان عندما تدعم الدول الغربية أنظمة الاِستبداد وتقف ضدّ حركات التحرّر فلا ترى إلا مصالحها ومصالح شركاتها الجشعة ولوبياتها الأخطبوط؟
أيّ معنى للقيم الإنسانية النبيلة عندما تستغل الأيادي الخفيّة الأديان لحشد البسطاء الطيّبين ولاِستباحة الدّماء ونشر الدّمار كي تصل إلى كرسيّ السلطان الذي به تَنهب خيرات الشعوب ؟
أنا من جيل اِكتوى بالهزائم والخيبات وترشّف كل صباح مرارتَها في فنجان القهوة !
أنا مع أولئك الذين يمشون على خريطة عربية كل شيء فيها وحولها يدعو إلى إعادة طرح الأسئلة حول القناعات الجاهزة؟
كان الشاعر العربيّ القديم نبيَّ قومه
له الحكمة والمعرفة
الخيل والليل
الصحراء
وأجمل النساء…
كان الشاعر العربيّ القديم يملك ـ في لغته وبلغته ـ كل ما يرى ولكنه اليوم بائس الحال لا يستطيع أن يملك ما حوله بل لا يملك حتى ما بين يديه من أشياء هو غير قادر بلغته العربية أن يسمّيها بفصاحة ودقّة !
كان الشاعر العربيّ القديم متفاعلا مع بيئته ومحيطه وعصره من خلال لغته التي اِستوعبت ما قبلها وما حولها لكنه اليوم يبدو أبكم…أو كالأبكم بسبب قاموسه المحدود الكلمات
إنّ مالك الشّيء وصانعَه يُسمّيه
أمّا فاقدُه فإنه لا يُعطيه ولا يُسمّيه
فكيف نُبدع في عصر حضارة نحن نعيش على هامشها
هل نكتب شهادة اِنقراضنا ؟

أعذبُ مِنْ سِنفونيةٍ
أمّي تُغنّي
على َرجْع رحَى الصّوَّان
مُتربعةً على فَرْو خَروفِ العِيدِ
في غَار حُوشِنا القَديم
بينَ الحِين والحِينِ
تُلقِمُ مِن كفّها فَمَ الرّحى حَفنةَ قَمح
أو شَعير
للنّجع الراحل تُغنّي
لِخِصب مَراعي أقاصي الجنُوب
للخَيل للبارُود للفُرسان تُغنّي
للعزيز البعيد أبِي…تُغنّي
مُتوسّدًا رُكبتَها
أنظرُ إلى الرّحى
تَطحنُ الحَبَّ يَستحِيل دَقيقًا
أدورُ مع الّرحى تدورُ…أدورُ
عندما أفقتُ
دارتِ الأيّامُ مَضتِ الأعوام
وَجدتُنِي في قلبِ الرَّحى…

 23 ـ دمـــــشق

اللّيل في دمشق حديقة من الياسمين بأضوائها البيضاء المتناثرة على سفح جبل قاسيون ذلك الجبل الذي ورد في بعض الأخبار أنه كان مأوى آمنا لعديد الأنبياء والصالحين ويروى أيضا أن أهل دمشق كانوا إذا اِحتبس القَطْر لديهم أو غلا السّعر عندهم أو جار السلطان عليهم أو كان لأحدهم حاجةٌ تعسّرت عليه صعدوا إلى ـ قاسيون ـ سائلين الله فيستجيب لدعواتهم غير أن الزائر لدمشق اليوم أضحى يرى البناءات قد تسلقت إلى القمة شيئا فشيئا حتى بات جبل قاسيون ينوء بالكتل الإسمنتية فإذا خيم الليل لاح تحت السماء قبة مزهرة بالنجوم وهي تطل من شاهق على هذه المدينة العريقة التي يعود بناؤها إلى أربعة ألاف سنة و رغم توالي العصور وتعاقب الحضارات ما فتئت تنبض بالحياة والجمال وأنا في دمشق تذكّرت ذلك الشعور نفسه الذي ينتابني كلما دخلت المدن العربية القديمة مثل فاس والرباط ومراكش وتلمسان وتونس وصفاقس والقيروان وطرابلس والقاهرة وبغداد والبصرة… إنه شعور الأنس والطمأنينة والألفة مع الجدران والدروب والأبواب  فهذه المدن التي زرتها سرت فيها بشوق عارم كأنني أحد أولئك الذين عاشوا فيها فعاشروها فترة من غابر زمانها .

دمشق يُقال لها بين الإخوة في سوريا ” الشام ” وهي على سفح جبل قاسيون القائم في سلسة من الجبال تشبه إلى حد بعيد سلاسل الجبال في الجنوب التونسي وتمتدّ على ضفاف نهر بَرَدَى حتى الغُوطة وهي منطقة البساتين وهذا النهر المنحدر مع المدينة أقيمت عليه الجسور والبنايات والساحات أيضا فتراه يظهر حينا ويغيب حينا، لكنه عند وسط المدينة أقيمت عليه النّافورات في أشكال بديعة حيث ترى الماء يدور منها في حلقات تتشابك أو تتوارى أو تتقاطع و تزيدها الأضواء روعة على روعة خاصة أن القمر في أواخر  الصيف بنوره الخافت يجعل من السّهر والسير على ضفاف بَرَدى تماهيا في سحر الشرق القديم و كان الليل  قد  تقدّم  بساعتين  في نصفه  الثاني  عندما شرعت في جولتي أكتشف المدينة التي لم تهدأ الحركة فيها وخاصة حركة السيّارات التي تجوب الطرقات وقد اِسترعى اِنتباهي أن بعضها يعود تاريخ صنعها إلى الحرب العالمية الثانية ورغم مرور السنوات فهي تبدو على حالة حسنة تطوي الشوارع طيّا تماما مثل السيارات التي خرجت أخيرا من قرطاس المصانع الحديثة …

ها أنّني أجد نفسي وجها لوجه أمام ـ صلاح الدين الأيّوبي ـ كأنه للتوّ خارج من باب القلعة تحت الأضواء الكاشفة وهي تغمر ساحة الميدان فيتحوّل المشهد فجأة إلى سالف الزمن العربي المجيد بكل ما في تاريخ صلاح الدين من إباء وشهامة وتسامح…
ينتصب تمثال صلاح الدّين في قلب دمشق بين المدينة العتيقة والمدينة الحديثة فيبدو كأنه متّجه إلى الغُزاة في عُدّته ورجاله يحدوه الشموخ والكبرياء وممّا زاد الجولة الليلية الأولى بهاءً واِنتشاءً تلك الأنوار الخافتة التي تنفثها مصابيح الشوارع والساحات حتى لكأنك تحسبها شموعا على الطريق بينما الفوانيس الخضراء المتلألئة من الصوامع تغمر النفس بالأنس والسّكينة .
عندما هممت بخلع حذائي على عتبة باب الجامع الأموي بدمشق لاحت منّي نظرة إلى الفضاء الرّحب فيه فإذا حمامات يُرفرفن ويَقَعن على البلاط لاِلتقاط الحَبَّ ثمّ ينطلقن في سِرب عاليا وبعيدا… ربّما سيمضين في رحلتهن تلك إلى صَحن جامع الزيتونة في تونس فنفس هذا الحمام كنت أراه يحوم هناك…
الجامع الأمويّ مُقام على هيكل روماني قديم فالمتأمّل الحصيف فيه كأنه يقرأ في مختلف السّواري والصخور والنّقوش  كتابا مفتوحا فما أجمله من مَعلم عظيم البُنيان ، شاهق الجدران، فسيح الأرجاء، شامخ المآذن ، متنوّع الزخارف من ذهب الفسيفساء إلى هندسة الأرجاء ، و من المرمر والجليز و من النّقش على الحجر إلى الزخرفة على النحاس والخشب ومن التّخاريم على تيجان الأعمدة والأقواس إلى الصّور والرسوم على الجدران ، فكأنّ الجامع الأموي مُتحَف للعصور الغابرة فكل زمن يُبقي عليه خصائصه وآثاره من الذكريات المجيدة ومن الأحداث الأليمة ما يترك الحسرة واللّوعة مثلما الحال عندما نزور في أحد أرجائه مقام  الحسين ولعل في كل هذا وذاك عبرة للغادي والرائح…
قيل إن الوليد بن عبد الملك أنفق في بنائه أواخرَ القرن الأول الهجري خراج سبع سنوات من دولة بني أمية فجاء على غاية من التّرف والبذخ غير أنّ الخليفة التقيّ عمر بن عبد العزيز اِستنكر كل ذلك الإسراف وكاد يأمر بنزع نفائسه وردّها إلى بيت مال المسلمين.

ويُروى أنه أنشِئت في هذا الجامع ساعاتٌ يعود بعضها إلى القرن الرابع الهجري وقد جُعلت على شكل بديع وهندسة فريدة فكانت إذا تمّت الساعةُ خرجت حيّةٌ فصاحت العصافير وصاح الغراب وسقطت بعدئذ حصاة في الطست…
بينما كنت أطوف بالجامع الأموي من ناحية بعض الأسواق التي تبيع الذّهب والأشياء المستظرفة إذْ بي أسمع وأشاهد أحد المبشّرين المسيحيين يدعو بأعلى صوته إلى المسيح بن مريم ويتلو من حين لأخر من الكتاب المقدس والنّاس من حوله جيئةً وذهابا أو هُم منشغلون في دكاكينهم كأن الأمر من عادة المكان فعجِبتُ لروح التّسامح بين المسجد و الكنيسة ..
علمت حينئذ أن البلاد الشامية ظلت محافظة منذ القديم على الألفة والِاحترام بين مختلف العقائد فيها ولعلّ ذلك يعود إلى مآثر صلاح الدين الأيّوبي الذي يُعتبر مثالا على إرادة التحرّر وعلى قيم الإنسانية الخالدة… فتراثنا من هذه الناحية زاهر ورائع .
عندما عُدت إلى الفندق مررتُ بالأسواق الدّمشقية العتيقة فلاحظت أنها تُشبه الأسواق التقليدية في تونس من حيث التخطيط، و الاِختصاص ومن حيث طبائع النّاس،كيف لا ؟ والفينيقيون هم الذين جاؤوا إلى تونس من هذه الربوع ثم من بعدهم قَدِم العرب إلى بلاد الأمازيغ منطلقين من دمشق إلى إفريقية ومنها إلى الأندلس فالثقافة العربية تمتاز بالتمازج والتواصل بين المحلّي والوافد و ما التنوّع و الاِختلاف فيها إلا عامل ثراء و إضافة .

مقهي  ـ زهرة دمشق ـ
شارع أبي فراس الحمداني
بين القلعة وميدان المرجى
دمشق
السّاعة السابعة صباحا
شعرت بفرح عارم عندما وقعت عيني على هذا المقهي فقد ألف مهجتي منذ النظرة الأولي فأنا رجل يعشق الجلوس في المقاهي الجميلة وبيني وبين المقاهي حكايات غرام لا توصف ، ففي المقهي أجلس للتأمل حينا و لأقرأ حينا وكذلك لأكتب أو أتحدث مع الأصدقاء
ومقهي ـ زهرة دمشق ـ ذكرتني طاولته الرخامية البيضاء المنتصبة على قوائمها الحديدية المنقوشة بمقهي قديم كان عند باب سويقة بتونس وبمقهي ـ الأندلس ـ بسوق العطارين حيث كنّا نخرج إليه – زمن الشبيبةمن المكتبة الوطنية فنجلس بين شذى العطور وبين أريج البضائع العتيقة حوله وكذلك هناك تستريح العين على أسراب السّياح الوافدين من بلدان الثلوج
القهوة في الشام يضاف إليها الهيل مثلما نجعل في المغرب العربي النعناع في الشاي أو قطرات من ماء الزهر إلى القهوة
وأذكر هنا أن انطلاق المقاهي كان من بلاد الشام التي سافر منها رجلان إلى اسطنبول حيث بعثا أول مقهى فيها وذلك في أوائل القرن السادس عشر ومن هنالك انتشرت المقاهي إلى أوروبا حتى أمست من مظاهر الحياة في المدينة… ومقهي ـ زهرة دمشق ـ الذي جلست فيه على غاية من الحميمية فقد هيّأ النّادل الكرسي الخشبيّ حيث وجدت المكان المناسب : الطاولة والنافذة في الركن على اليمين فكل شيء يساعدني على الكتابة ولكنني ما استطعت كتابة سطر واحد ربما بسبب قلة التركيز  بالإضافة إلى بقاياالسهر والانتشاء بالمكان
إن المقهي عندي يمثل خلاصة المدينة وهو عنوان الحياة فيها وعند مقهى    زهرة دمشق لاحظت أنه ثمة ترقّ ولطف وحذق يدل على رسوخ الحضارة في ربوع الشام من ذلك مثلا أنّ النّادل يأتيك بالقهوة أو الشاي مع كأس الماء والسكر جميعا في طبق صغير ويضعه بأدب أمامك ثم ينصرف بأدب لخدمة غيرك أما ماسح الأحذية فكأنّي به قد علم حرج بعض الناس إن هم مدّوا أرجلهم إليه وهو جالس لمسح أحذيتهم لذلك فإنه يطلب منك حذاءك مهيئا موضعا لقدميك ثم يمضي بالحذاء متسللا ثم يجيء به بعدئذ على ـ أحسن وجه ـ
أما كراسي المقهى الأخرى فلا تتجاوز العتبة إلى الرّصيف الذي يسير عليه الغادون والرائحون فلا يضايقون الجالسين أو يحرجونم وقد لمحت في نواحي أخرى من دمشق مقاهي ذات ساحات أو ردهات داخلية تظللها الدوالي وتتخللها السواقي والنوافير الصغيرة حيث يطيب في رحابها الجلوس
أما روّاد المقهي فهم إمّا جالسون مثلي أو لاعبون للنرد أو الورق من غير  صخب أو هم مولعون بالنارجيلة تنتصب أمام أحدهم في جمال وسحر وخيلاء كأنّها الحسناء بدلّها ودلالها و تراه يرواح حبات سبحته بنعومة بين أصابعه ولست أدري كيف جرى الحديث مع أحد الأخوة في ذلك المقهي حتى علم أنني من الخضراء تونس هكذا جعل الخضراء أولا و قد حدثني  بأمنيته المتمثلة في أن يزور قرطاج والقيروان وسيدي بوسعيد ويتمني كذلك أن يذوق الكسكسي التونسي فهو أشهى الأطعمة عنده

24ـ ساعات مع عرفات

1
منذ الصّبا اِستمعتُ إلى أحاديث الرجال في تخوم الجنوب عندما كانوا يتذاكرون أخبار عدد كبير من المتطوعين التونسيين الذين قصدوا المشرق العربيّ للمشاركة في حرب فلسطين سنة1948 ولكنهم ظلوا مرابطين على الحدود لأن السّلطات في الحدود في ذلك الزّمن لم تسمح لهم بالمرور إلى المواجهات والجبهات !
بعضهم بقي هناك في مصر أو في ليبيا…بعضهم عاد يجرّ الأحزان والمرارة… وبعضهم اِنضم الى حركات المقاومة المسلحة التي اِنطلقت من جديد في أوائل الخمسينات في تونس والجزائر ومن بورسعيد إلى الأطلس.
2
في أوائل الستينات وبعد تحرير مدينة بنزرت اِلتقى عدد من الزعماء العرب في الذكرى الأولى للجلاء فكانت مناسبة تاريخية رائعة جمعت الحبيب بورقيبة وجمال عبد الناصر وأحمد بلّة ووليّ العهد الليبي… أذكر أنّي رافقت والدي ـ رحمه الله ـ في تلك المناسبة إلى بنزرت… في ذلك اليوم من سنة 1963 رأيت موكبهم المهيب يمرّ بين هتافات الجماهير المتحمّسة للوحدة وللأخوة ولتحرير فلسطين أيضا…
لكن هيهات فقد جاءت السنوات بالاِنشقاقات والخلافات والاِنقلابات والنكبات
3
بعد حرب1967 بدأنا نسمع بالمقاومة الفلسطينية وبعمليات الفدائيين وخاصة بشعراء الأرض المحتلة وبقضية اللاجئين وصارت الكوفية الفلسطينية ترمز إلى النضال والتحرير من الاِستعمار تماما مثل جاكيتة الكاكي التي كان ـ فدال كاسترو ـ و ـ غيفارا ـ و ـ ياسر عرفات ـ يرتدونها وقد بدأنا نعرف ياسر عرفات بعد أن فتحت المقاومة الفلسطينية مكتب منظمة التحرير قرب شارع روما بتونس العاصمة.
4
ياسر عرفات
كيف اِستطاع ياسر عرفات أن يخترق ألسنة اللهب وأن يقفز على حقول الألغام وأن يطوّع قضبان الفولاذ ويُليّن حيطان الإسمنت المسلح ويجعل فلسطين علما يرفرف بين أعلام الأمم والشعوب؟!
من معركة الكرامة إلى تل الزعتر ومن دير ياسين إلى صبرا وشاتيلا
ومن أيلول الأسود في الأردن إلى اِجتياح لبنان
ومن حصار بيروت إلى قصف حمّام الشط
ومن بحر… إلى صحراء … إلى أفق
ومن مطار إلى ميناء
سَفَر على سفر… خطر على خطر… كذلك عاش بين الاِحتراق والغرق !
5
ياسر عرفات
المرة الأولى التي التقيتُه كانت في ـ دار الثقافة اِبن خلدون ـ بعد نزول عدد كبير من الفلسطينيين في تونس إثر جلائهم عن بيروت(1982) وكان ذلك بمناسبة إحدى التظاهرات الوطنية الفلسطينية التي كنا كثيرا ما نشارك فيها بإلقاء القصائد فلم نلبث وقتا قصيرا من اِنطلاق البرنامج حتى حضر بيننا الزعيم ياسر عرفات مع مرافقيه وجلس يُنصت إلينا عند آخر القاعة في الطابق الأرضي ثم ألقى كلمة حماسيّة وغادر المكان على عجل بعد ذلك دون أن أصافحه !
فكانت من أجمل ذكرياتي في تلك السنوات !
6
ياسر عرفات
بمناسبة ذكرى رحيل الشّاعر مُعين بسٍيسُو في أوائل سنة 1991 دُعيت الى إحياء ذكراه في منزله الكائن وقتذاك بشارع إفريقيا في المنزه الرابع فحضر عددٌ من الأدباء ومن أصدقاء عائلة الشاعر الكبير وبينما نحن كذلك إذ بي أرى وجها لوجه ياسر عرفات يدخل من أحد الأبواب برفقة الشّهيد أبو إيّاد وقد أصرّ على الحضور في هذه المناسبة تكريما لروح الشاعر مُعين بسيسو ومساندة أخوية لأرملته ووفاء للذكريات التي جمعت شملهم في سنوات الخمسينات في عهد الشّباب والدراسة والأسفار والنضال …
في تلك السّهرة الطويلة والمُمتعة عرفت أنّ ياسر عرفات إنسان يهوى الأدب ويحفظ الشّعر ويُقدّر الأدباء بالإضافة إلى عفويته وأصالة أخلاقه ولطف حديثه مع كل الحاضرين وقد نقلتْ إذاعة المنستير مباشرة فترات صوتية من تلك المناسبة أتمنى أنها مازالت مُسجَّلة في أرشيفها…ما أمتعها فترات… !.
7
ياسر عرفات
المرة الثالثة التي اِلتقيت فيها بياسر عرفات كانت بمناسبة تنظيمنا مؤتمر الأدباء العرب قبيل اِندلاع حرب الخليج واِجتياح الكويت بثلاثة أسابيع وقتها كانت العلاقات العربية الرسمية في مفترق الطرق بين الوفاق المستحيل والاِفتراق الذي كان لا ريب فيه وفي تلك الظروف الصّعبة اِستدعى اِتحاد الكتاب التونسيين مؤتمر الأدباء والشّعراء العرب وقد دُعي البعضُ منهم لتناول الغداء مع ياسر عرفات في مقرّ منظمة التحرير بخليج ـ قمّرت ـ قرب ضاحية المرسى فاِستقبلنا الزعيم الراحل في صالون فسيح الأرجاء وكنت برفقة الأديب الجليل محمد العروسي المطوي رئيس اِتحادنا ورئيس المؤتمر.
لقد تحدّث ياسر عرفات وقتها طويلا عن تلك الأزمة الخطيرة وعبّر عن أسفه من بلوغ الخلافات العربية تلك المرحلة الجارفة بالحدّ الأدنى من التضامن العربي وقال إنّ أول من يدفع ثمن تلك الأزمة هم الفلسطينيون غير أن السّحب المتلبدة حول ذلك المؤتمر وخلال ذلك اللقاء لم تحجب عنا ترحيب ياسر عرفات بنا فقد كان حريصا على ملاطفتنا على المائدة بنفسه وبمعيّة الشّاعر محمود درويش.
كم كنتُ سعيدا في تلك المناسبة فقد دعاني عرفات إلى الجلوس بينه وبين محمود درويش…ما أروعها لحظات… !
8
ياسر عرفات
كان من صِنف أولئك الزّعماء الذين يعرفون منزلة الكلمة وقيمة الأدباء لذلك قرّب إليه العدد الأكبر من المثقّفين الفلسطينيين والأدباء العرب بِاِعتبارهم ذاكرة الأمة المحافظة على قيمتها الإنسانية الأصيلة
الأدباء والمبدعون هُم الذين من الماضي يستلهمون وعن الحاضر يعبّرون وبالمستقبل يحلمون … !

25 ـ الشّرفـــــةُ

1

كُلّمَا دخل عبدُ المجيدِ يُوسُفُ عليهَا
وجدَ في شُرفتِها غِلالا
يقُول لها أنَّى لكِ هذا ؟!
تقُول هِبةُ البَحر :
الفصلُ فصلُ صَيفٍ
تَباشيرُ الخريفِ تَلوحُ
مِنْ تَخاريم الشّرفةِ

2

يومًا بعدَ يومٍ
فِي بَاكر الصَّباح أو فِي العَشايَا
يَطوفُ عبدُ المَجيدِ على شُجيْراتِ الشُّرفة والزّهَراتِ
يَسقيهنَّ بالقِسط مِنَ الإبريق
واحدةً تِلوَ واحدةٍ
لليَاسَمين نصيبٌ
لشَقائق النّعمان والخُزامَى والقَرنفُل نصيبٌ
للأقحُوانِ للإكليل
ثُمّ يَنزلُ مِنَ الشّرفة يسقِي صَفّ السَّرول
سَيطُول السَّرولُ بعدَ سنينَ
ويُظلّل الشّرفةَ
3

الشّرفةُ مَوعدُها
والبحرُ
لَثَمَاتُ المَوج على حفيفِ فُستانِها
صَافياتٌ ناعماتٌ
لمَساتُ رَمل السّاحل
كهَسْهسةِ النّسيم فِي النّخيل
حانَ قِطافُ العَراجين
مَدّتْ يديْها
فَإذا النّجومُ أقربُ

4

مِنْ شُرفتها أطَلّتْ
بَينها وبينهُ
خطوتان فقطْ
هي الشّمسُ
لو تقدّمَ خطوةً واحدة
كان منها اِحترقْ
هُو البحرُ
لو تقدّمتْ خُطوةً واحدة
فِيهِ كان الغَرقْ
رآها رأتهُ
رأتهُ رآها
وثلاثُ…نُقطْ

5

مِنْ شُرفتِها راحتْ تَنسابُ
مِثلَ الأنامل تَتَراوحُ عَلى النّاي
اِتّبعَتْ خُطاهُ
لَحِقَتْ بهِ
سارتْ أمامَهُ
وراءهُ سارتْ
على يَمينهِ سارتْ
سارت على يَسارهِ
تَحسَبُ أنّه لم يَشعُرْ بها
عجبًا
يُوسفُ يَبتعدُ عَنِ الشُّرفةِ
لمْ تَرَ ظِلَّهُ لمْ يُفارقْ ظلّها
معًا دائمًا أبدًا

6

شُرفتُها
لوحةُ سَحابٍ وسِنفُونيّةُ أمواج
ومَدًى
بحرٌ وسماءٌ
شَمسٌ تجري لمُستَقرّ لهَا
ثِمارٌ …أزهارٌ
على كلّ شَكل ولونٍ وشَذًى
تَبارَكَ اللّهُ
أحسنُ الخالقين

7
جلستْ في شُرفتها ذاتَ يوم
رُبّما يُوسُف يَمُرُّ
رأتْ بَالُونةً زرقاءَ
هَبّتْ ريحٌ
طارتِ البالونةُ
مَسكَ الصَّبيُّ بالخيطِ
البالونةُ تعلُو…تعلُو
الصّبيُّ يجري…يجري
يَجري والبحرَ
اِنفرط الخيطُ مِنْ بَينِ أصابع الصَّبيّ
طارتِ الزّرقاءُ في الزُّرقةِ على الأزرق
رجعَ الصّبيُّ من حيثُ أتَى
جلسَ تحتَ شُرفتِها
وبَكى

8

تحتَ شُرفتها ظلّ يُوسفُ يَنتظرُ
اليومَ أيضًا
ساعِي البريدِ لمْ يطرُقْ بابَها
لا جارٌ ولا جارةٌ
اليومَ أيضًا
الهاتفُ لم يَرِنْ
ولا حتَّى بالخَطإ

9

مرّةً في شُرفتها جرَى الحديثُ
حدّثتهُ عنهُم جميعًا
الذي
والذي
الذي وعدَ أخلفَ
الذي سَافر لم يَعُدْ
والذي تقدّم توقّفَ
حدّثتهُ عنهُم جميعًا
وهو أمامَها
يَذُوبُ صامتًا

10

مَع فِنجانِها جلستْ في شُرفتِها
تَستعذبُ الوقتَ رَشفاتٍ
أينعَ الزّهرُ…اِعْشَوْشَبَ المَمْشَى
المُصطافُونَ غادرُوا
عادتْ إلى بطحاءِ القريةِ عَصا الشّيخ
وجَلَبَةُ الصِّبيان
اِنتصبتْ حَلَقاتُ المقهى تحتَ زيتُونةِ المَسجِدِ
المُصطافونَ غادرُوا
تَركُوا القريةَ في سُكونها
إلا مِنْ هَدير البَحرعَلى صُخور المِيناءِ
وصَخَبِ اِنتظار شُرفتِهَا

11

يُوسُفُ غادرَ أيضًا
يَداهَا تُرفرفان إليهِ بالوَداع من شُرفتِها
سلامًا سلامًا
جبينُها وَضّاحٌ
ثغرُها باسِمُ
حالمُ
كأنّهُ وهوَ يبتعدُ
تراهُ عائدًا نَحوَ شُرفتِها
وقبل أن يُغادرَ اِزّيّنَتْ وهِيتَتْ لهُ
ثُمّ قالتْ متَى نلتقي ؟
وأين ؟
فأسرعَ بالجوابِ
ـ الآن وهنا
ورجعَ منَ البابِ

12

كمْ يلزمُ مِن عَصر وكمْ لابُدَّ من مِصْرٍ
و مِنْ حِبرٍ ومِنْ سَطر
كيْ يصفَ أحلامَ شُرفتِهَا
واِنثيالَ طيفِها
قَدُّهَا ألِفٌ
الباءُ بَسمتُها
الخاءَ خدُّها
بِالهَاءِ خَتمَ رَسْمَ أبجديّةِ البَهاءِ
فلاحَ فِي الآفاق قَوسُ قُزح

13

أتمَّ ـ لِيُونَارْدُو ـ المُوناليزَا ـ
وبلمسَةٍ أخيرةٍ أكمَل اللّوحةَ
نظرَ فيها مَليّا
فأيقَنَ
أنَّهُ رسَمَ شُرفتَهَا
.
هِرقلة ـ رادس ـ في صيف وخريف2014

26 ـ حوار مع الأديب عبد المجيد يوسف

عبد المجيد يوسف ـ الثقافة – في معناها الواسع – كائن تاريخيّ متغيّر كالماء” إن سال طاب وإن لم يسر لم يطب” ، تتعاقب فصولها وتتالى مراحلها… ينجزها نساء ورجال يؤثرون فيها بطابعهم ويوجهونها إلى ما يستشرفون من الأسمات وإلى ما يفتحون لها من الآفاق. فإذا كان التاريخ – كما شأنه في بلدنا – متسارع الخطوات لا يستقرّ إلا ليبيّت الرّحيل، يتعب بالإناخة والمقام، فإنّه من الضروري أن نستوقف الحاديَ لنسأله عمّا كان وعما يكون.
ما إن اِستقل بلدنا سنة1956 حتى بدأت عجلة الآداب تتسارع وتتشعّب تياراتها ويختلف القائمون عليها ويتصارعون ويتفقون ويتعايشون أو يقصي بعضهم بعضا فيخرج للناس مشهد متنوّع صاخب قويّ ويصبح للمدينة معالم ومزارات وأديرة للثقافة ومعابد، فهذا مقهى الكون ورواده من الأدباء اليساريين وهذه دار الثقافة ابن خلدون وروادها من المجدّدين الثوريين وتلك دار الثقافة ابن رشيق….وذلك الملحق الثقافي لجريدة العمل وانتصاره للطليعيين وتلك مجلة الفكر للأدب الرّصين المحافظ أو للأدب المتمرد الطليعي يتجاوران…
ومن الضّروري أن تحاول مجلة أدبيّة مثل مجلة “المنتدى ” أن تسعى إلى ربط عرى الاتصال بين الجيل الرّياديّ وبين الأجيال اللاحقة التي تبني حاضرها على ما أسّس الأسبقون وأن تلتقيَ أحد هؤلاء المؤسّسين لتسأله وتستوضحه وتثير الوعي لدى النّاشئة الأدبيّة بطبيعة الأرض التي يبنون عليها نصوصهم.
ـ سُوف عبيد ـ أو حسب بطاقة هويته سُوف الجين عبيد ومعناه بالأمازيغية ‘النهر الكبير” هو من اِختارته المجلة لهذا الحوار. كاتب شاسع بإصداراته المتعدّدة ومعاصرته لأربعة أجيال من الكتّاب إذا ما اعتمدنا التّقسيم العشريّ للأجيال الأدبيّة المعتمد لدى أكثر النّقاد التونسيّين ومؤرّخي الأدب عندنا. فقد بدأ النّشر منذ 1970 معاصرا للطليعة الأدبية… وبهذا فهو بامتياز شاهد لا ريب فيه على مسار التحوّلات الأدبيّة الطّارئة على السّاحة الشّعريّة التّونسيّة.
من المراسم التقليدية في مثل هذه اللقاءات أن يتعرف القرّاء على الشّخصية المحاورة.

سُوف عبيد ـ هذا الاِسم الغريب الذي أحمله قد ورثته عن اِسم جدّي رحمه الله الذي تسمّى به في آخر القرن التاسع عشر تيمّنا بشخصية سُوف الجين المحمودي الشاعر والفارس الليبي الذي ذاع صيته في تلك الفترة وهذا الِاسم يُختصر بسُوف فقط وهو أيضا اِسم منطقة ومدينة في جنوب الجزائر متاخمة للواحات التونسية وهو اِسم موضع في المديتة المنورة بالحجاز كما ورد في لسان العرب ومن الطرائف أنني زرت مدينة سُوف الواقعة بالقرب من العاصمة عمّان بالأردن سنة 1991 برفقة صديقي الشاعر يوسف رزوقة فكتبت إحدى الصحف وقتذاك مقالا تحت عنوان ـ سُوف في سُوف ـ

عبد المجيد يوسف ـ أنت أصيل الجنوب ولكنك أيضا من مواليد العاصمة وأهلك استقروا بالعاصمة من عهد بعيد فهل انقطعت صلتك بالجنوب؟ وأيّ دور للصحراء في تحفيز الخيال لديك ؟

سوف عبيد ـ إن الصلة بين أهل غمراسن والعاصمة تعود على الأقل إلى العهد الحفصي أي منذ الإمام اِبن عرفة فقد كان الأجداد يقضون فصل الخريف والشتاء في تونس العاصمة يعملون في دكاكين الفطائر والحلويات وأثناء فصلي الربيع والصيف يعودون إلى نجوعهم في البوادي وقد ولدت في ناحية بئر الكرمة من ضواحي مدينة غمراسن داخل غار منقور في الصخر وقد كان المسكن التقليدي الذي يتلاءم مع الطبيعة في تلك الربوع البدوية ومن هناك اِختزنت طبيعة الجنوب بما فيها من ألفة مع الطبيعة وبما نهلت من شِيم أهلها وقيمهم الأصيلة تلك التي اِمتزجت فيها النواحي الأمازيغية والعربية على مدى أجيال متعاقبة وإذا كان جدّي الثاني أحمد بن عبيد أحد الفرسان العرب المشهورين بالغارات في غمراسن في عصره فإن جدّتي فاطمة سليلة الأمازيغ في ـ السّدرة ـ وهي من نواحي تطاوين وقد تغنّت إحدى الشاعرات الشعبيات في ذلك العصر بجدّي قائلة في مطلع بعض قصائدها كما رواها لي عمّي الأكبر

احمَدْ بن عبيدْ سٍيدِ الرجّالــهْ
فـارسْ مشهورْ في الخيّالــهْ

لقد عشت سنوات طفولتي في ذلك الفضاء الرّحب الفسيح مُتماهيا مع الطبيعة حتى أنه إذا جُرحت قدمي الحافية من الحجارة كنت أملأ الجرح بصافي الرمل ريثما تضمّده أمّي بشيء من معجون الشّيح والعرعار…نعم لقد اِصطدت بمعية اِبن عمّي نجيب ـ ونحن لم نتجاوز العاشرة ـ الضّبّ والقُنفد وحتّى الثعابين وما ألذّها من شواء ؟
سافرت إلى العاصمة في الثالثة من عمري للتداوي من مرض الرمد ثم رجعت إلى بئر الكرمة ثم اِنتقلت في سنّ السادسة إلى ـ مقرين ـ وهي ضاحية جنوب العاصمة لأدخل المدرسة الاِبتدائية هناك فقضيت فيها سنتين رجعت بعدهما إلى غمراسن حيث درست سنتين أخريين في مدرستها الاِبتدائية وعدت بعد ذلك إلى العاصمة حيث أتممت التعليم الاِبتدائي بمدرسة نهج المغرب فكان من وقتها الاِستقرار النهائي مع العائلة بتونس العاصمة
غادرت ربوع ـ بئر الكرمة ـ وغمراسن الجغرافيا لكني حملت فضاءهما الرّحب في شجوني وهو باد بوضوح في كثير من قصائدي

عبد المجيد يوسف ـ هل لديك شعور ما بالغربة، في هذا الموطن أو ذاك؟

سوف عبيد ـ ينتابني الحنين إلى سنوات الطفولة في بادية غمراسن ونواحيها بما اِرتسم في مخيلتي من أخبار عصورها الغابرة وبما رسخ في ذاكرتي من أخبار وقائع تلك السنوات مثل واقعة حرب رمادة وحرب الجزائر وقد شدّني الشعراء الشعبيون وهم ينشدون في المحفل قصائدهم بإيقاعات تهزّ الوجدان ومن وقتها ربّما أحببت أن أكون مثلهم
عندما اِنتقلت إلى ضاحية مقرين للدراسة عِشت مفارقة عجيبة فقد أذهلتني الحدائق الجميلة بشتى الزهور والورود وأشجار الثمار المتنوعة ناهيك عن المنازل ذات الطراز الإفرنجي وأذهلتني الطرقات والقطارات والوجوه النّضرة فلم أستطع التأقلم مع هذا المحيط الغريب بالإضافة إلى أنني كنت آوي إلى عائلة عمّي التي لم أكن أعرف منها أيّ شخص فعشت سنتين من الغربة الشديدة

عبد المجيد يوسف ـ هل أنت راض عن مسيرتك الأدبية، لا من حيث عدد الإصدارات فحسب، ولكن من حيث النّوع والأنماط… هل انتابك حنين إلى السّرد مثلا أو اعترتك رغبة في كتابة غير التي كتبت؟

سوف عبيد ـ ندمت أنني اِنقطعت عن الكتابة بالفرنسية التي كتبت بها بعض النصوص الشعرية تزامنا مع كتابتي بالعربية فلقد كان يمكنني التواصل بها للتعريف بالأدب التونسي والعربي على الأقل وكنت أتمنى الكتابة باللهجة التونسية أيضا ولكني وجدت ذلك صعبا إذ لابد من الإحاطة بها وحذق مخزونها الثري للإضافة والتجديد أما السرد فقد كتبت بعض النصوص هي أقرب إلى لوحات من السيرة الذاتية تحت عنوان ـ بصمات وخطوات ـ بالإضافة إلى العديد من المقالات والدراسات وقد أردت من خلالها التعبير عن آرائي الأدبية التي ترمي إلى التعريف بمظاهر التجديد في الأدب التونسي خاصة

عبد المجيد يوسف ـ الأرض عطشى كان مجموعك الأول صدر سنة 1980 يتواتر فيه معجم مفرداته مرجعها عناصر الطبيعة كالشمس والبحر والأرض والسّماوات والماء والقمر…. هل كان حضور هذه الظواهر في شعرك حضورا رمزيّا كونيّا (ربما ارتبط بالمدرسة التّموزية) أم كان هناك توجّه اشتراكيّ زراعيّ مرتبط بالواقع أكثر مما هو مرتبط بالرمز، يثير دور هذه العناصر في معاش الكادحين من الفلاحين وغيرهم تصاديا مع ما كان سائدا لدى من عاصرت من مدرسة الطليعة الأدبية أو حتى لدى شعراء مثل البيّاتي؟

سوف عبيد ـ كانت قصائد مجموعة ـ الأرض عطشى ـ مواصلة لمقولات الطليعة الأدبية التي نشأتُ في مقولاتها وخاصة تلك التي دعت إلى التجديد وعدم النسج على منوال الشعر التقليدي والرومنطيقي والحماسي من ناحيتيْ الفنيات والمضامين وكذلك حاولت تجاوز حتى ما كان رائجا من الأنماط الشعرية السائدة في تلك الفترة مثل قصائد ما عُرف في تونس بموجة غير العمودي والحر التي سرعان ما خرجتُ عن تأثيرها وحاولت أيضا عدم تقليد ماكان سائدا من الشعر المشرقي لدى أعلام تلك السنوات وقد اِستفدت إلى حدّ بعيد من تراثنا العربي والتونسي بالإضافة إلى اِطلاعي المبكر على الشعر العالمي بفضل اللغة الفرنسية وقد كنت غير منسجم مع الشعارات الإديولوجية السائدة في تلك السنوات بالرغم أنني اِطلعت على مصادرها الأساسية وعلى الكثير من أدبيّاتها إذْ قرأت مثلا ماوتسيتونغ والمودودي وقُطب وميشال عفلق وغيرهم فقد كانت كلية الآداب بتونس زاخرة بمختلف الحركات الإديولوجية

عبد المجيد يوسف ـ في ديوانيك امرأة الفسيفساء ونوارة الملح الصّادرين تباعا سنتي 1984 و 1985 تبدو كأنك انخرطت في التيار الوسط. لم تنخرط في اتجاه المنحى الواقعي أو في ما بقي منه بعد مؤتمر الشعر التونسي الحديث(الحمامات 1981) ولم تتوجه إلى المدرسة القيروانية إن صحّت تسميتها بالمدرسة… ما هي ملامح هذا التّيار الوسطي حسب رأيك؟

سوف عبيد ـ قصائد ذينك الديوانين تعبّر عن مرحلة مهمّة في البحث عن طريقي الخاص اِنطلاقا من أنّ الشعر التونسي يطمح أن يكون ذا إضافة نوعية إلى الشعر العربي المعاصر وليس تابعا أو ظلا له وأرى أن الشعر عامة يختلف عن أسلوب البيانات السياسية أو النقابية أو الخطب الأخلاقية فالشعر تعبير فنّي عن الحالة والوجدان ضمن مسار تحرّري إنساني وقد أثبت التاريخ صحّة توجّه الجماعة الثالثة التي اِنبثقت من ملتقى الحمامات والتي كنت أحد عناصرها فقد اِنهار جدار برلين وتشتّت الاِتحاد السوفياتي وسلكت الصّين نهج التحرر الاقتصادي ولاقت كثير من البلدان العربية ذات التوجه العروبي ويلات الحكم الفردي والتدخل الأجنبي والاِنقسام الداخلي وجميع ذلك كان بسبب تسلط الراي الواحد والحزب الواحد

عبد المجيد يوسف ـ هل ترى أنّ هذا التيار تواصل وإلى أيّ حدّ… خاصة وأنك وضعت دراسة حول حركات الشعر الجديد بتونس (2008) وقد توفّر لديك الزّمن الكافي للتراجع والمشاهدة البانورامية للمشهد الشعري؟

سوف عبيد ـ قد تطوّرت أغلب الأصوات داخل هذا التيار وفي غيره وقد جاءت أصوات جديدة لذلك من الجدير أن نقرأ المدونة الشعرية التونسية بكل أناة شاعرا شاعرا حتى نقف على أوجه الاِئتلاف والاِختلاف والتميز بين هذا وذاك

عبد المجيد يوسف: كان بودّي ان أسترسل معك في استعراض دواوينك واستجلاء كل ديوان على حدة لو سمحت المساحة لذلك أمرّ إلى حارق البحر. ماذا تغير في شعرك بين هذا الديوان وما قبله؟

سوف عبيد ـ قد أهديته إلى روح والدي رحمه الله وضمّنته بعض القصائد الحميمة التي فيها بعض ملامح سيرتي الذاتية وانا لا أخطط لصدور دواويني ولا لكتابة قصائدي فشعري هو ظلال حياتي ولكني أحاول أن لا أكرّر نفس القصائد لذلك أمسيت متشدّدا أكثر في السنوات الأخيرة

عبد المجيد يوسف: لغة سوف عبيد الشعرية لها ملمح خاص… بسيطة إلى أبعد حدّ ولكنها فصيحة لا تختلط بالعامية إلا في نصوص محدودة سوف نذكرها. هل يصح القول إنك المهلهل… هلهلت لغة الشعر التونسي؟ من أين تستمد هذه اللغة شعريتها؟

سوف عبيد ـ تلك هي الفصاحة المنشودة هي أن أستعمل مفردات مفهومة ولكن ذات نسق خاص و مدلولات عميقة فالبساطة لا تعني السطحية الجوفاء فانظرْ مثلا لوحة غرنيكا لبيكاسو هي مجرد أشكال بسيطة من حيوانات وأدوات وبلونين فقط هما الأسود والأبيض ولكنها ثرية بالمعاني وكذلك اُنظر إلى أفلام شارلي شابلان على بساطتها وبرغم صمتها وقِدم صُورها فإنها على غاية من الإبداع

عبد المجيد يوسف: لسوف عبيد الأديب وجه آخر غير وجه الشّاعر، ذلك أن لديك إنتاجا ادبيا في غير الشعر

سوف عبيد ـ نعم فقد صدر لي كتاب ـ حركات الشّعر الجديد في تونس سنة 2008 وكتاب ـ صفحات من كتاب الوجود ـ لأبي القاسم الشابي سنة 2009 ولي عديد المقالات المنشورة في الصحف والمجلات أرجو أن أجمعها في كتاب أو كتابين

عبد المجيد يوسف ـ كتاب صفحات من كتاب الوجود. ما حقيقته؟

سوف عبيد ـ يمكن ان نعتبره الديوان الثاني للشابي بعد أغاني الحياة وعنوان ـ صفحات من كتاب الوجود ـ هو من اِقتراح الشابي نفسه فقد ذكره في الرسالة الثالثة التي أرسلها إلى صديقه محمد الحليوي ولم يتسنّ للشاعر أن يجمعها وأن يصدرها في حياته فظلّت مبثوثة في مصادر مختلفة وقد توصّلت إليها بعد أن اِطلعت على ما قرأته من آثار الشابي فوجدتها منشورة مع غيرها من مختلف نصوصه الأخرى في غير ديوانه أغاني الحياة وقد أشار إلى بعضها دارسون مختصون مثل أبي القاسم محمد كرّو وتوفيق بكار وأبو زيان السعدي
إن الاِختلاف في تسميات هذه النصوص وتصنيفاتها يعود إلى عدم اِستقرار المصطلح لهذا النوع من الشعر الذي بدأ في الظهور مع بداية القرن العشرين وهو ما زال إلى اليوم في طور الإنشاء والتنوع من شاعر إلى آخر ومن بلد إلى أخر ومن فترة إلى أخرى لذلك فإن التسمية والإجماع عليها تتطلب مدّة زمنية أطول وقد اِقترحت هذه التسمية التي تتضمن الإقرار بأنها من نوع ـ الشعر النثري ـ كجنس أدبي فهي إذن قصائد نثرية بالرغم من أنّ تقسيم الشعر بالاِعتماد على الشكل فحسب غير مقنع.
ويرى قسم آخر من الذين أنكروا هذه القصائد أنه كان يجب أن أنشرها مثلما وجدتها في مصادرها تماما والحال أنّني حاولت قدر الإمكان أن أخرجها في طبعة لائقة بها من حيث توزيع الأسطر والصفحات مستأنسا بنسق كثير من أجزائها الأصلية لتكون في متناول القارئ .
إنّ المسألة في نهاية الأمر تكمن في أنّ هؤلاء وأولئك يرون أنّ قصيدة النثر أو قصيد النثر ذات أصل مشرقي أو ذات أصل غربي ولا يريدون أن تكون لتونس ولأدبائها فضل الاِبتكار أو الإضافة أوالسّبق…مع الأسف لدى البعض منهم عقدة المشرق الأزلية ولدى الآخرين شعور الاستنقاص أمام الغرب والحال أن الأدب منذ عصور سابقة ماهو إلا نتيجة لتلاقح الثقافات قديمها وحديثها فأصول قصيدة النثر يمكن أن نقراها في اللغة العربية ضمن كثير من النصوص القديمة أيضا ونحن الآن قادمون على مرحلة تجاوز الحدود بين مختلف الأجناس وكذلك نحن على عتبات مرحلة تداخل الأجناس والفنون أيضا…فحدود الشّكل وحدها ليست مقياسا مضبوطا أو معيارا كافيا للجمالية وللسّمات الأدبية للنصّ .
عبد المجيد يوسف : في دراستك لشعر الشابي النثري اِهتممت بالمضامين في ما أردت أن تقنع به بأنه قصائد نثرية ولم تركّز على فنيات القصيد النثري …كان المنتظر أن يجد القارئ ما يخالف أنّ هذه القصائد هي كلام منثور تصرّف الشاعر في توزيعه فجل كل جملة في سطر…

سوف عبيد ـ إن الغرض من نشر هذه القصائد هو التعريف بها وذكر مصادرها وهي التي ظلت مجهولة ومطموسة سنوات طويلة وقد حاولت التمهيد لكل قصيدة بما يناسبها من التقديم ولم يكن هدفي البتتة دراستها وعسى أن تنهض العزائم لذلك… وقد كانت منشورة بدون أيّ اِعتبار لجماليتها الفنية وعندما رجعت إلى بعض المسودات والمخطوطات لدى الشابي لاحظت أنه كتب الكثير من الأسطر منها كما نشرتُها فاِتبعتُ نفس المنهج الذي أراده الشاعر .

عبد المجيد يوسف : ما هي علاقتك باِبن عرفة؟ هل كان الدّافع الجهوي هو ما حفّزك على تحقيق تفسيره؟

سوف عبيد ـ كان والدي رحمه الله مُحبّا لاِبن عرفة ويرى فيه العالم المستقل الذي وهب حياته للعلم والتعليم فكان مثالا لي منذ طفولتي وعندما درسني الدكتور سعد غراب المختص في اِبن عرفة اِقترح عليّ تحقيق جزء من تفسيره ضمن مجموعة من طلبته فلبّيت بكل مهجتي وكانت مناسبة للتعمق في التراث واِكتشافه

عبد المجيد يوسف : أيّ دور كان له في ترسيخ الخصائص المقاصدية للفقه المالكي؟

سوف عبيد ـ من أهمّ خصائص الإمام ابن عرفة في تفسيره أنه يعتمد على العقل من ناحية وعلى الشرح اللغوي الدقيق من ناحية أخرى وهو يرى بضرورة اِعتبار الواقع عند قراءة النصوص الدينية كي تتلاءم مع أحوال الناس فهو يقول ـ إن الوقوف على ظاهر النصوص من دون النظر إلى الزمان والمكان هو ضلال وتضليل ـ لذلك كثيرا ما اِستشهد بآرائه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في غضون تفسيره التحرير والتنوير

عبد المجيد يوسف: لديك نصّ مطوّل يحتوي على تركيبة فريدة فقد مزجت فيه بين النص النثري والنص الموزون على الأوزان الخليلية والشعر العامي هو نص الجازية الذي لا يذكر سوف عبيد إلا ذكر… لو حدثتنا عن هذه التجربة؟

سوف عبيد ـ قصيدة الجازية أعتبرها من أهمّ قصائدي فقد حاولت فيها الاِستفادة من الملحمة الشعبية ومن التراث الشفوي بما فيه من أمثلة وحكم وأغان وأشعار بالإضافة إلى مختلف أشكال الشعر الفصيح وذلك للتأكيد على أن التجدبد ممكن دائما وأن النص الشعري بوسعه أن يشمل شتى أنواع الكتابة لأعانق بهذه القصيدة أرحب فضاء ممكن أما من ناحية المضمون فقصيدة الجازية تتجاوز النظريات الإديولوجية المحلية والقومية الضيقة لتنفتح على الإنسانية جمعاء مهما تباعدت الأوطان

عبد المجيد يوسف ـ أنت من مؤسسي قصيدة النثر في تونس ولكنك في فترة ما أظنها بداية التسعينات انخرطت في حركة “الهرولة” نحو القصيد العمودي التقليدي مع ثلة من الشعراء أصحاب قصيد النثر…هل تعتبر ذلك تراجعا عن القناعات السابقة أم كان هناك حافز من نوع سياسيثقافي….. ما تقييمك لهذه العودة ؟

سوف عبيد ـ في الواقع قد سبقني بعض الشعراء في تونس إلى كتابة قصيد النثر مثل محمد أبو القاسم كرّو ومحمود التونسي ومحمد مصمولي وصالح القرمادي وحتى نور الدين صمود ـ في ـ ألوان جديدة ـ وكذلك شعراء جماعة غير العمودي والحرّ وغيرهم وقد حاولت أن أواصل هذا المسار التجديدي ضمن كوكبة من الشعراء من بينهم محمد رضا الكافي وخالد النجار ومحمد أحمد القابسي وعزوز الجملي وعزيز الوسلاتي وآخرون لكن بعد هذه الموجة جاءت أصوات عديدة اِستسهلت خوض غمار هذا النوع الجديد من الشعر فاِختلط الحابل بالنابل هذا من ناحية .
من ناحية أخرى أردت أن أكتب في الشكل القديم باِعتبار أنه إحياء وعود على بدء وتمسك بالذات والجذور وتأكيد على أن الشعر لا يُحدّ بشكل وحيد وأنه يمكنني الكتابة في كل الأشكال الشعرية إذا ما تطلب المضمون ذلك وينبغي أن أصرّح أيضا أن كتابتي في الشعر الموزون المقفّى هي دعوة ضمنية إلى أنّ التجديد لا يتنافى مع القديم بل تطور منه واِستمرار له فالشعر أوسع من الأشكال التي لا يمكنها وحدها تحديد نوعه وكنهه .
تلك جدلية الحياة…الزمن وحده كفيل بالغربلة

عبد المجيد يوسف : نترك لك كلاما حرّا تتوجه به إلى قراء “المنتدى”

سوف عبيد ـ شكرا على هذه المحاورة الجديّة ـ وأعتبر قصائدي هي لسان حالي المُفصح عن مختلف المراحل والأطوار في مسيرتي فهي المرجع الأوّل .

الفـــــــــهــــــــرس

1- بئر الكرمة
2-
الغار
3-
ليلة السّفر
4-
سيدي رزيق
5-
صلاة العيد
6-
المليحةُ العذراء
7-
الرّصاصةُ الطائشة
8-
مجالسُ الأنس
9-
الهوى الأوّل
10-
الهوى الثّاني
11-
السّردين والشّكلاطة
12-
البحر سماء
13-
لا ملائكة… ولا شياطين
14-
في بلاد الإفرنج
15-
الكُسكسي
16-
الصّندوق العجيب
17-
العزيزُ اِبنُ الأعزّ
18-
الشّمس والقمر
19-
في الكنيسة
20-
ذاتَ عصر…ذاتَ ربيع
21-
الدّرس الأخير
22-
دم الــكلام
23-
دمـــــشق
24-
ساعات مع عرفات
25-
يَسألونكَ عن الثّورةِ …قُلْ
26-
الشّرفـــــةُ
27-
حوار مع الأديب عبد المجيد يوسف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حكاية اِسمه

تاريخ ميلاده غيرُ ذلك الذي في الأوراق والدفاتر وليس ذاك المُسَجّل في البطاقة الشخصية ولا في جواز السفر

تقول أمُّه إنها وضعتنه عند الحصاد ولم يكن والدُه حاضرا وقتها فقد كان يعمل في تونس العاصمة وفي ذلك العهد لم تكن الإدارة موجودة ولا قريبة من – بئر الكرمة – حيث ربوع أهله الممتدّة في أقاصي الجنوب التونسي على مدى البصر

كان ثالث المواليد

أخته آسيا هي الأولى وقد توفّيت بعد شهور

أخوه الحبيب مات وقد قارب عامه الأول

وشاء له اللّه أن يعيش من بعدهما شهورا حتى بلغ عامه الثاني وبعد أن تأكدت العائلة أن الموت لن يخطفه مثل أخته وأخيه فقد نجا من لدغ العقرب مرّتين حينذاك قرّرت بالإجماع تسميته باِسم جدّه ـ سُوف الجين ـ واِختصارًا لهذا الاِسم يُقال فقط ـ سُوف ـ فقصد أبوه في يوم السّوق الأسبوعية شيخ البلد أي عُمدته وسجّله بتاريخ ذلك اليوم 7 أوت أي أسطس أو آب سنة 1952

لذلك يرى أنه من العبث أن يحتفل بعيد ميلاده الذي لم يحتفل به أحد قبل بلوغه العشرين وشكرا على كل حال لمن يهنئنه ويذكره بالمناسبة

أما قرار اِسمه فقد اِتخذه مجلسُ العائلة برئاسة جدّاته الأربع اللّواتي اِتفقن بالإجماع أن يكون اِسم الحفيد الأول على اِسم جدّه وذلك على سُنّة الناس وتقاليدهم منذ سابق الدّهور جيلا بعد جيل وجدّاتُه الأربع عِشن في وئام واِنسجام مع جدّه فلا خصام ولا غيرة ولا مشاحنات لأنّهن يعتبرن قلب جدّه ـ أربعة أرباع ـ كما قال لهنّ ذات مرة أنهنّ على هيئة جسمه ذي الأربعة أطراف فكل طرف ضروري له ولبقية الأطراف أيضا

تلك حكمة جدّه العجيبة والأعجبُ منها حقّا أنه لم يتبيّن جدّته الأصلية إلا بعد سنوات الصّبا فقد كان ذا حظوة لديهن جميعا

وحكاية اِسمه…ما حكاية اِسمه؟

تَسَمّى على اِسم جدّه الذي تسمّى على الفارس والشاعر الليبي ـ سُوف المحمودي ـ الذي ذاع صيته عندما كان يخوض معاركه ضدّ الأتراك على الحدود الليبية التونسية وقتذاك وكلمة ـ سُوف ـ في العربية تعني الرمل الرّقيق الليّن والكلمة تعني أيضا منطقة ومدينة – وادي سُوف – في بلاد الجزائر وتعني أيضا اِسم مدينة ـ سُوف الجين ـ في ليبيا التي بها واديها الكبير في جنوبها الغربي ويسمّى أيضا ـ سُوف الجين ـ وقيل أيضا إن الكلمة تعني الأرض الخصبة في اللغة اليونانية وكلها معان متقاربة والله أعلم…

وثمة مدينة في بلاد الأردن قرب العاصمة عمان تُسمى ـ سُوف ـ وقد زارها برفقة الشاعر التونسي يُوسف رزوقة سنة 1992 بمناسبة مهرجان جرش فكتبت من غد إحدى الصحف خبرا عن هذه الزيارة بعنوان – سُوف في سُوف –

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قَيْلُولَاتُ الصّيف

قَيْلُولَاتُ الصّيف في رُبوع الجنوب طويلة جدّا على الصّبيان, لا تُجدي في تقصيرها ألعابُهم تلك التي يتسلّون بها ويستنبطونها من جريد النخل ومن الطين وحتى من الحجارة حيث ينتبذون الأمكنة ذات الظلال الثخينة سواء في الكهوف أو تحت الزياتين الوارفة لعلهم يظفرون بلفحة من النّسمات التي تَضَلُّ وِجهتها من حين إلى حين فتهبّ بَردا عليهم وسلاما .
وَلِقَيلُولاتِ الصّيف في الجنوب لذّة وأي لذّة حين نتخيّر أجود التّين اليانع الذي يتدلّى أخضر وأحمر وأصفر وأسود تحت أوراقه الخضراء الكبيرة فنقطف ما نشاء بالهناء والشّفاء, وقد تخطر على البال نزوةٌ من نزوات الصِّبا فنشتهي اللحم في القيلولة ولكن كيف السبيل إلى اللحم والشّمسُ كرة جمر وما في مدى البصر إلا الأودية بصخورها وكهوفها وتحت الصّخور الكبيرة والصّلدة وفي تجاويف المغارات يأوي الضَبُّ بأليته السّمينة ترانا نترصّدُه ونرقب حركاته إذ نلمحه أحيانا منبطحًا على السّفوح الحجريّة عند القيلولة في عزّ أيام الصّيف الوهّاجة.

الضَبُّ هو تمساح بادية الجنوب ولعلّه ينحدر من سُلالة أحفاد التماسيح الكبيرة التي عاشت في العصور القديمة الغابرة عندما كان الجنوب غابات وأنهارا فتأقلم مع طبيعة الجفاف لذلك نادرا ما يشرب الماء مكتفبا بالأعشاب غذاء وماء وهو لا يتجاوز الشّبرين وله أُليته مُمتلئة عريضة طويلة شوكية وعندما يشعر بنا ونحن نرصُده يُسارع إلى غاره بين شقوق الصّخر أو تحتها وإذا نحن ترصّدناها ولم نلمح أحدا منها لا نظلّ قابعين قانعين في نفس المكان وإنّما ننطلق ساعِين حفاة لا نبالي بلظى الحجارة متنقّلين من واد إلى واد ومن كهف إلى كهف باحثين بدقّة عن جُحورها حيث تكمُن والتي علينا أن ننحني لنُطلّ على كل جُحر أو غار أو أخدود لعلّنا نلمح ضبًّا فيه ولن أنسى أبدا ذلك اليوم الذي لمحتُ فيه أنا وابنُ عمّي ونحن في السّابعة أو الثّامنة من العُمر أُلية ضبّ تختفي سريعا داخل جُحره تحت صخرة كبيرة فأسرع اِبنُ عمّي واِنبطح وأمسك بالذّنب لكنّه لم يُفلح في القبض عليه بمِلء يده وفي مثل هذه الحال ليس لنا من بُدٍّ إلا أن نحفر بالقضيب الحديدي الشّديد تحت الصّخرة لنُمسك بالضبّ ونظفر به فعقدنا العزم وشرعنا في دَكّ الحِصن الحَصِين دكّا حتّى اِتّسع الجُحر ولاحت لنا أُليةٌ لم نر أكبر منها ففرحنا فرحا شديدا بالغنيمة ومددتُ يدي داخل الجُحر لأمسك بالصّيد السّمين ولكنْ… عندما لمستُ إذْ لمستُ لم أشعر بمَلمس أليةِ ضبّ خَشِنة وإنّما شعرت بملمس ذَنَب أملسَ فَيَا ويْلتي إنّه ثُعبان ولا شكّ…ثعبان…ولكنَّ ابنَ عمّي لم يصدّقني وأصرّ أنّه ضبّ وأدخل يده وجعل يسحبه بقوّة رويدا رويدا وهو يصيح ما أكبر أليةَ هذا الضبّ!!…ثمّ صاح ثعبان ثعبان!… رغم ذلك ظلّ مُمسكا به ويجذبه بكل شجاعة وإضرار وما كاد رأسُه ببدو حتّى أهويتُ عليه بالقضيب مرّات ومرّات…

عندما مالت الشّمس نحو الغروب جلسنا نشوِي ذلك الثّعبان على الحطب والحجارة المَلساء بعدما قطعنا منه الرّأس وطرحناه بعيدا .

لقد أكلنا الثعبان !…

فما ألذّه من لحم يذوب كالشّهد..!!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على إيقاع الطبل

كنتُ في أمسية ثقافية بتونس العاصمة ذات مرّة بمناسبة الاِحتقال بالتراث في جهة غُمراسن التي وَفَدَتْ منها جمعيّات عديدة تهتمّ بالتراث فبعضُها عرض مختلف الأزياء التقليدية وبعضها قدّم أصناف الأطعمة وشرح طرق إعدادها ومكوّناتها وقد تخلّل الأمسيةَ حفلُ الطّبل قامت به أعرق فرقة في ـ  غمراسن ـ بقيادة ـ الشيخ البغدادي ـ الذي وهو في عِقده التاسع ما يزال إذا دندن الطبل سَرَى في مفاصله نشاط وخفّة فتراه يرقص به ويطوف ويميل ويرفعه على رأسه حينا ويتأرجح به ويدور به وهو يضرب بعصاه الكبيرة في يمينه وبالعُصَيّة الثانية في شماله في تَمَوُّج إيقاعيّ لطيف خفيف حينا وعنيف أحيانا فيراوح بين الشّجون العميقة الرّاسبة في غياهب الوجدان وبين الاِهتزازات القوية الطافحة على مُهجة النفس…

أعرف الشّيخ البغدادي منذ طفولتي عندما كنت أرافق والدي إلى الأعراس فألاحظ طربه وتفاعله اِنتشاءً مع دقّات الطبول ومع المزمار على أنغام الأغاني الوطنية الحماسية والأغاني الغزلية البدوية…كان زمان…!

اليوم ألتقي الحاج البغدادي وقد عرفني عندما تفرّس مليّا في ملامحي فترحّم على والدي… ما شاء الله على عَمْ البغدادي وعلى صحّته وعلى ذاكرته وفراسته… وبعدما اِنتظمت الفرقة بزيّها الأحمر والأبيض والتي جميعُ عناصرها من أحفاده أعطى لهم الإشارة بالشّروع فنقر الطّبلَ نقراتٍ خفيفةً وعَلا المزمار عاليا صادحا .

حينذاك… كان لابدّ وبعد كل وصلة من رشق بعض الأوراق المالية على رؤوس عناصر الفرقة تشجيعا لهم وتكريما وتلك من عادات الأفراح لدى أهل غمراسن الذين يعتبرون الطائفة الزّنجية من عشيرتهم والعلاقة بينهم قائمة على المودّة والتقدير ـ لا غير ـ بل إن بعض العائلات الزنجية تحمل لقب بعض عائلات أهل غمراسن وتُقاسمها أملاكها العقارية أبًا عن جدّ

 وبينما أنا أتابع الحفل في بهجة واِنشراح مع أفرادٍ من عائلتي وثلّةٍ من الأصدقاء إذْ بحسناءَ سمراءَ مشرقة الوجه تقصدني مسرعة فرحة وتحتضنني بشوق قائلةً بصوت مرتفع أهلا أهلا بخالي سُوف …!!..فتعجّب جميع من كان حولي …نعم أنا خالُها حقّا وبالتّمام والكمال…فقد رضعتُ مع أمّها من صدر ـ أمّي فائزة ـ السّمراء رحمها اللّه مرّات ومرّات وتلك عادة عائلتي منذ أجيال …

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أول أمسية شعرية

في آخر أيام الربيع من سنة 1969 كنت أستمع إلى الإعلانات التي كانت تبثّها الإذاعة التونسية وقتذاك فشدّ انتباهي بلاغُ اللجنة الثقافية بضاحية أريانة التي ستنظم أمسية شعرية بمناسبة مهرجان الورد وتدعو من يرغب في المشاركة أن يرسل قصيدين إليها .
لست أدري كيف عزمت و أرسلت أربع قصائد وقد عزمت على الحضور حتى وإن لم أشارك في الأمسية فمساء الجمعة مناسب لأنه خال من الدروس وضاحية أريانة قريبة والفصل ربيع وهي مناسبة لاكتشاف أجواء الأمسيات الشعرية التي لم تكن منتشرة في ذلك العهد .
وكم كانت المفاجأة كبرى بعد أسبوع تقريبا عندما عدتُ من معهد ابن شرف عند منصف النهار فوجدت رسالة من اللجنة الثقافية تحمل اسمي مسبوقا بالشّاعر…كانت وماتزال وحتى بعد انقضاء نصف قرن تُمثل ذكرى من أجمل ذكرياتي التي تبعث في وجداني شعور البهجة والغبطة…
قبل ساعة كنت أجلس في قاعة كبيرة لعلها قاعة البلدية منتحيا مكانا جانبيا وأخذت أراجع نصوص القصائد متثبّتا من حركات أواخر الكلمات خاصة وعندما رفعت بصري وجلت به يمنة ويسرة وجدت أغلب كراسي القاعة قد امتلأت بالحاضرين وقتها تملّكتني رهبة لم أشعر بها من قبل أبدا وبعد برهة صعد إلى المنصة الشعراء وأذكر من بينهم خاصة أحمد اللغماني والميداني بن صالح ومحي الدين خريف وعندما أخذوا أماكنهم نادى رئيس اللجنة الثقافية على اِسمي وعلى الشاعر سويلمي بوجمعة راجيا منا إن كنا حاضرين أن نصعد بجانبهم إلى المنصة .
ما أعظمها من فرحة وما أروعه من شعور بالارتياح أن يُنادى على اسمي مسبوقا بالشاعر ثم أن أجلس على المنصة مع صف الشعراء الكبار الذين كنت أقرأ لهم وأستمع إلى بعضهم في الإذاعة وكم كانت فرحتي عارمة عندما بدأت الأمسية بنا إذ افتتحها سُويلمي بوجمعة بقصيدين وما زلت أذكر طريقة أدائه بنبرة شجية خافتة نالت إعجاب الحاضرين ثم تقدمتُ إثره إلى المصدح فوقفت أقرأ قصيدتي الأولى من دون النظر إلى الورقة أما القصيدة الثانية فقد شدتني ورقتها أكثر وأذكر أن الشاعر أحمد اللغماني قد أبدى ارتياحا خاصة للسلامة اللغوية والعروضيية وشجعنا أن نكتب بروح تفاؤلية أكثر نظرا لأننا في مرحلة الشباب وكذلك لأننا في مهرجان الورد وفي فصل الربيع وأبدى احترازه بل رفضه لقصيدي الثاني لأنه خال من الوزن العروضي ولم يعتبره شعرا أصلا فالتجديد حسب رأيه لايكون إلا ضمن إيقاع التفعيلة والقافية لكن الشاعر الميداني بن صالح قد عبّر لنا في كلمته عن ارتياحه للمواضيع التي تناولناها بما فيها من طرق للقضايا الاجتماعية والوجدانية .
قبل هذه الأمسية كنت أرسل نصوصي إلى الأديبة حياة بالشّيخ التي كنت أقرأ لها في صحف ومجلات ذلك العهد فقد كان أخوها فيصل بالشيخ زميلي وصديقي منذ أن كنا ندرس بمعهد الصادقية فكنت أسلّمه نصوصي فتقرأها وتسجل ملاحظاتها بدقة وعناية وأذكر أنني عندما التقيت بها سنة 1972 بنادي القصة في مكتب الأديب محمد العروسي المطوي بنادي القصة أبديت لها شكري وتقديري وأثنيت على ملاحظاتها المفيدة .
فتحيّة شكر وعرفان ووفاء لكل الشّعراء والأدباء والأساتذة ولجميع الذين أخذوا ببدي وشجعوني وفتحوا أمامي مختلف المجالات الأدبية والثقافية .
فما أكثر ما أخذت وما أقل ما أعطيت….

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كأس الماء

 في يوم شديد الحر من منتصف شهر سبتمبر وعند الساعة الثانية بعد الزوال بالضبط شرعت في الدرس الأول مع تلاميذ أحد الأقسام بمعهد فرحات حشاد برادس الذي انتقلت إليه بعدما كنت أدرس بمعهد مدينة ماطر
أنا أستاذ جديد بالمعهد ويجب أن أفرض شخصيتي فيه بالاعتماد على الجدية التي تتمثل خاصة في الكفاءة المعرفية وفي الانضباط لذلك لم أسمح بدخول بعص التلاميذ الذين وصلوا متأخرين وشرعت مباشرة في سرد المحاور المبرمجة مبينا أهميتها وخصائصها وماكادت الحصة تنتصف حتى أحسست بحدة الأوتارالصوتية وبأن الريق قد جف والحلق قد يبس فانخفض صوتي وثقلت الحروف بل صارت مؤلمة النطق فوجدت نفسي في الهيجاء بدون سلاح فإذا بي أسمع من آخر القسم مناديا ينادي في رأفة وحماس…سيدي…سيدي … هل آتيك بكأس ماء ؟
كيف أقول لا…ومن يقدر أن يقول لا…؟!
فأجبت بسرعة نعم وشكرا
فإذا به ينطلق مسرعا ويغادر وماهي إلا دقائق حتى دخل وفي يده كأس وقطرات الندى تتلألأ من الزجاج…عجبا !…من أين أتى بها وما في المعهد وقتذاك ثلاجة ولا قوارير ماء ولا مشربة ولا حتى مقهى قريب…لكني علمت بعدئذ أن المعهد يضم جناحا خاصا لمبيت التلاميذ لا شك أنه أسرع إليه بعد أن تسلق الجدران وطلب من أحد معارفه الذين يشتغلون فيه تلك الكأس التي شربتها بردا وسلاما فروتني وشفت غليلي وجعلتني أواصل درسي الأول على أحسن ما يرام بفضل تلك الكأس .
كأس الماء…وما أدراني ما الكأس…!
مضى أسبوعان أو ثلاثة انتهجت فيها طريقتي في التدريس فلا أسمح لأحد أن يدخل متأخرا ولا أن يحضر بدون حفظ محفوظات أو بدون إعداد شرح النص فاستقام لي الأمر كأحسن ما يكون
كأس الماء… وما أدراني ما الكأس…!
ذات يوم بعدما دخلت القسم وشرعت في شرح نص إذ بالباب يطرق طرقا خفيفا لطيفا فقلت تفضل وحسبت الطارق أحد القيمين فما كان يجرأ أحد من التلاميذ أن يقطع الدرس وقد وصل متأخرا وتواصل الطرق فقصدت الباب وفتحته فإذا ذلك التلميذ يبادرني بصباح الخير والاعتذار في أدب لكني لم أسمح له بالدخول ووبخته على التأخير وعلى قطع الدرس فما كان منه إلا أن ذكرني بأسلوب فيه الكثير من الدلال والمكر قائلا أنسيت يا سيدي أنني أنقذت حياتك بكأس ماء ؟
آنذاك كان لابد من السماح له بالدخول ردا للجميل واستثناء للقاعدة…
كأس الماء… وما أدراني ما الكأس…!
في اللحظة التي تجاوز فيها العتبة بخطوة واحدة ما راعني إلا وتلميذان آخران التحقا به ودخلوا جميعا..
مرحى لهم فقد نجحوا في الحيلة والمثل يقول ـ  لا تكن يابسا فتُكسر ولا طريا فتُعصر…
كأس الماء… وما أدراني ما الكأس… !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بين الشّعر والنّشر

كان نشر الكتاب وما يزال الهاجس الكبير الذي يؤرق الأديب فإذا ما جمع أوراقه ونضدها واستقامت له جعلها في مخطوط وبعد ذلك يرقنها ومن النادر جدا أن يقوم بالرقن بأنامله التي ألفت الورقة والقلم فيلجأ إلى أحد الراقنين أو الراقنات  وكم لابد له من صبر ومراجعة ليقدم كتابه في أحسن حال إلى دار النشر
والحمد لله لقيت صديقي الأديب عمر بن سالم فأخبرني أن صاحب دار نشر جديدة هي – سَحر – يرغب في نشر مجموعة شعرية لي ولما سألته عن صاحبها فقال إنه فلان وقد نشر له كتابا أو كتابين وكنت أعرف فلانا هذا في مناسبات معرض الكتاب فقلت لا بأس فالرجل خبير في الطباعة والتوزيع وستنتشر مجموعتي الشعرية في حلة قشيبة
وكان اليوم الموعود التقى فيه ثلاثتنا على المودة والأماني وسلمته مجموعتي الشعرية – نبع واحد لضفاف شتى – وبعد نحو شهر أعلمني بأنها طبعت فأسرعت طيرانا إلى مكتبه بشارع الحرية قرب الإذاعة وسلمني عشر نسخ على أن يضيف لي مائتي نسخة أخرى وهي قسطي من حقوقي مثلما اتفقنا اتفاق – صداقة ورجال – واتفقنا وقتها أيضا أن يسلمنيها بعد أسبوعين مساء الخميس الساعة الخامسة من الشهر الخامس ماي– عند حفل توقيع  ضمن أمسية شعرية بالمكتبة العمومية بضاحية رادس وقبل يومين من الموعد ذهبت إليه للتأكيد وكي يأتي معه ببضع مئات من النسخ لبيعها للمؤسسات التعليمية في الجهة لأن عددا من مديريها دعوتهم وعبروا عن استعدادهم لاقتناء المجموعة الشعرية من جملة جوائز الكتب التي سيهدونها في احتفالات آخر السنة الدراسية
وكانت الساعة الخامسة من يوم الخميس من الشهر الخامس وامتلأت قاعة المكتبة العمومية التي هيأنا مقاعدها ومنضداتها في أبهى تنسيق وحضر الأصدقاء والزملاء والأدباء والشعراء والمديرون ورواد المكتبة وبقيت أنتظر إطلالة صاحب دار سَحر إلى اليوم …
المسألة قد اتضحت لي بعد هذه الواقعة حيث أنه طبع من المجموعة الشعرية نسخا على قدر عدد ما اقتنته منه وزارة الثقافة التي تزود بها المكتبات العمومية إضافة إلى عدد ما وزعه في المعارض والمكتبات التجارية … أما الشاعر فكان فنصيبه عشر نسخ  فقط  و أحيانا أصادف مجموعتي الشعرية تلك على أرصفة دكاكين الكتب القديمة فأشتريها مبتهجا..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

البابُ الثاني

يتحول نهج إنقلترا وسط العاصمة تونس إلى سوق يومية للكتب المستعملة والصالحة لمختلف سنوات الدراسة فينتصب البائعون بكتبهم على الرصيف مدة أسبوع قبل العودة المدرسية وبعدها بأسبوعين أو أكثر فقلت في نفسي عندما انتقلت إلى السنة الثانية من التعليم الثانوي في المدرسة الصّادقية لِمَ لا أبيع كتب السنة الماضية خاصة وهي ما تزال في حالة حسنة وأشتري بثمنها الكتب المبرمجة لهذه السنة ؟
فعزمت… وقبل يومين من يوم العودة المدرسية حملت الكتب إلى السوق ونضدتها بعناية فوق كرتون على الرصيف ووقفت متكئا على الحائط أنتظر الرزق وتوكلت على الله ويافتاح يارزاق كما يكتب التجار في دكاكينهم ويقولون…
بعدما مرّ كثيرون وتصفّحوا الكتب وسألوا عن الثمن وقف فتى أمامي بدا لي في مثل سني أو أصغر بقليل…رأيته أنيقا مهذبا لطيفا وسألني عن الثمن الجملي لجميع الكتب فأجبته فاستبشر بالثمن وقال لي حسنا أشتريها كلها فابتهجت ابتهاجا كبيرا لسرعة بيع الكتب جميعها وبثمن قريب جدا من ثمنها جدبدة غير أنه قال لي إنه لا يملك الثمن معه لأن أمه تخشى عليه من السرقة وطلب مني أن أرافقه إلى بيته حيث يسكن مع أمه الوحيدة في الطابق الأول من عمارة قريبة فقلت له في نفسي … حسنا يا وحبد أمه وعزيزها….وأهلا وسهلا بك في العام القادم أيضا
واحتياطا للطوارئ حملت الكتب وشددت عليها بقوة وسرت إلى جانبه حتى وصلنا إلى باب عمارة قريبة دخلناها وماكاد يسبقني بخطوتين حتى قال لي بأدب وبصوت ملائكي – لا تتعب نفسك يا أخي وأعطني الكتب حتى تراها أمي المعلمة ثم أنزل و أعطيك المبلغ الذي اتفقنا عليه بلا نقصان فزدت ثقة به واطمئنانا وقلت كم هو على خلق كريم هذا الفتى…كيف لا يكون كذلك وهو ابن معلمة…سيماهم على وجوههم ولا شك…
بقيت أنتظر أمام باب العمارة سارحا في خيالي كيف سأعود غانما من تجارتي المربحة فذلك المبلغ يوفر لي ثمن كتب هذه السنة التي سأشتريها من السوق وسيبقى لي منه أيضا….هكذا هي التجارة أو لا تكون
مر وقت…ساعة…ثم ارتقيت المدارج إلى الطابق الأول فقابلتني مدارج أخرى نزلت فيها مسرعا فوجدت نفسي في شارع آخر..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Le train manqué
Bir El Karma*
Depuis les Hafsides,voir même avant ,selon les historiens,le transit entre la capitale Tunis et le sud du pays était continuellement vif. Le plus âgé de mes oncles me racontait que son premier voyage de Ghomrassen vers la capitale là ou il a atteint la boutique de son grand père prés de la mosquée de la Zitouna, à l’entrée de la rue Torbet El Bey,en compagnie de sa grand- mère, était sur une calèche.Quatre chevaux devaient faire le relais à l’entrée de chaque ville.En pleine course ,ce voyage dura,disait-il,deux jours et une nuit entière. Selon les coutumes ,la veille d’un voyage d’un membre de la grande famille ,toute cette famille se rassemblait dans la vaste cour- Le Houch- pour organiser le départ du voyageur. En amère pensée et en considération de mauvaises imprévisions -qui sait reviendra-t-il ou non,régnait alors une atmosphère de tristesse compréhensible toutefois . Lui souhaitant succès et réussite ,le voyageur est comblé d’amour mais aussi de cadeaux, de la Souika*, du Kadid* et autres provisions pour subvenir à sa faim durant son voyage et les premiers jours de son séjour encore précaire . Certains lui confiaient de l’argent pour quelques achats à ramener à son retour…à son retour vers son village, une à deux fois par ans au plus, la grande famille se rassemblait aussi dans la cour. Le revenu est alors accueilli dans un beau coin préparé couvert d’une peau neuve de moutons ou d’une Hassira nouvellement tissée bien décorée et souvent réservée à de telles occasions .Il est entouré par les chefs de familles et aussi par les vielles grands-mères.La plus âgée ayant l’honneur de distribuer les verres de thé et le prestige d’ouvrir les sacs du voyageur et de distribuer les cadeaux apportés:poignées de pois chiche et bonbons pour tous les enfants, même les absents auront leur part du festin . Plus que tout le reste ,les bonbons habillées de beaux papiers colorés et luisants étaient notre cible nous les garçons: après avoir avalé le contenu, on pliait soigneusement ces papiers ,on les comptait et on les mettait fièrement dans nos poches :voilà maintenant nous sommes des hommes et riches !! C’étaient des souvenirs merveilleux malgré la condition de vie très modeste et difficile à gérer pour la plupart du temps .Il régnait sur cette ambiance de fraternité , d’amour, de générosité et surtout honnêteté . Malheureusement ne dura pas longtemps cette époque à cause de la sécheresse qui a duré plusieurs années successives,le débit de l’eau du puits s’est affaiblie, la foule devenait de plus en plus grande tout au tour et l’approvisionnement en eau de plus en plus difficile. Oliviers et figuiers moururent les uns après les autres,seuls ont survécu les quelques palmiers dattiers plus adaptés à la sécheresse . Ainsi, les chefs de familles se trouvèrent dans l’obligation de quitter Bir El karma et la capitale parut la meilleure destination . En petits groupes ils atteignirent Tunis, perdus entre les cités et les rues,sans revenus fixes pour la plupart du temps. Ce départ des chefs de familles a provoqué des ruptures dans le tissu de cette vaste famille menant peu à peu à l’oubli de Bir El Karma qui nous rassemblait .Hélas .
*Bir El Karma:Puits entouré de quelques figuiers et oliviers d’où la nomination du petit village à Ghomrassen .( Karma = figuier)
*Souika : poudre de blé cuit mélangée à plusieurs ingrédients alimentaires.
*Kadid :viande salée et séchée .

 

Automne 1958
La veille du voyage Collé à ma mère toute la nuit, plus longue que d’habitude,j’attendais l’aube pour prendre le taxi vers Tunis ou j’habiterai chez mon oncle Abderrahmen pour terminer mes études . A l’aube nous entendîmes le bruit du moteur de l’automobile : il faut y aller … Maman …Pitié ! Accroché à ma mère qui se tenait à quelques mètres du taxi, enroulée timidement dans sa melya* je ne voulais à aucun pris me  séparer d’elle… Ma chère maman… Me voyant ainsi , elle me chuchota :”vas-y ! Tu es un homme ,les hommes ne pleurent pas !” et me poussa discrètement vers la voiture .J’avais alors six ans . La veille , mon repas était spécial et surtout un peu bizarre: c’était un plat de mechoui* contenant des morceaux de foie de chameau et des morceaux de cœur de loup ! Oui ! C’était -disait-elle- pour que je sois plus fort -comme le chameau – et plus intelligent – comme le loup !
Je me suis endormi tout le long du voyage.Lorsque j’ai ouvert les yeux ,j’étais dans un nouveau monde totalement différent .On dirait que j’ai été parachuté dans un monde de rêve : Verdure et fleurs en mille couleurs !
Ce nouveau monde est Sidi Rezigue qui est un petit village de la banlieue sud de Tunis… ! Ce n’était plus le triste désert de Bir El Karma ! J’étais tellement envahi par ce merveilleux paysage .Marchant sur un parterre si propre et encadré de petites plantes à fleurs bien taillées , j’ai cru en premier devoir enlever mes souliers pour ne pas le salir comme je devais faire en marchant sur notre tapis à Bir El Karma . Je ne me rappelle plus les détails du reste de la journée … Je ne connaissais de ma nouvelle famille que ma grand-mère . J’ai eu l’occasion de venir me soigner à l’age de quatre ans d’une grave conjonctivite qui a failli me faire perdre la vue.Heureusement mon père n’a pas tardé à m’emmener me soigner à Tunis et j’ai du séjourner quelques mois chez Sidi Salem ,l’oncle de mon père qui habitait prés de la cité Bab Eljedid. Le lendemain matin, je me suis trouvé dans la cour de l’école . Une nouvelle étape de ma vie commença
*Melya : habit traditionnel porté par les femmes rurales . *Mechoui viande grillée.
Première journée à l’école
C’était le rang de la première année primaire ,j’étais devant la classe parmi mes camarades propres et bien habillés, ils étaient sûrement issus de familles aisées, ils me regardaient avec un certain mépris , ils se demandaient :” Qui est celui-là , avec cette attitude en boule et ce teint bronzé par le soleil ?” Entrés en classe je me suis assis à l’avant dernière table.Mon camarade assis prés de moi n’a pas cessé de m’embêter en me tirant tantôt par la manche et tantôt en introduisant sa main dans ma poche …j’ai du le repousser plusieurs fois sans que le Maître ne s’en aperçoive … Le Maître – si Mannoubi* – très élégant dans son costume noir et sa chemise blanche garnie d’une belle cravate en couleurs ,circulait entre les rangs enregistrant les noms des élèves . Arrivé prés de moi ,il me demanda mon nom.Mais malheureusement je n’ai pas pu le prononcer …Les lettres accrochées à ma gorge , je n’ai pu les sortir. Perturbé par les rires et les moqueries de mes camarades , j’ai presque perdu ma voix. Je me rappelai alors ma mère : elle m’a fait avaler sept langues d’agneau pour me faciliter cette tache … en vain . Je l’ai rencontré plus tard dans un club culturel à Ezzahra .Je lui ai présenté mes sincères respects .J’étais très heureux en le trouvant encore en bonne santé . .
La prière de l’Aid
J’avais dix ans quand mon père me demanda un jour de l’accompagner à la fameuse mosquée de Zitouna pour faire la prière de Aid El Fetr *. C’était pour moi une grande joie :”mon père me considère comme son ami , je suis un grand garçon maintenant .” Ma mère en a fait de l’effort pour que nous soyons tous les deux beaux et élégants . De bonne heure , nous traversions les rues de la vielle Médina de Tunis à peine éclairée,mon père dans sa djebba* bien repassée et sa chéchia*rouge carmin et moi dans mon nouveau costume européen.Il faut se dépêcher pour être à l’heure de la prière .Je faisais les grands pas pour synchroniser celles de mon père ,mon ami quoi . Je sens encore les bonnes odeurs des herbes séchées de souk El’Attarine . L’esplanade de la mosquée de Zitouna était toute ornée de merveilleux lustres à éblouir en les regardant de prés , je n’en avais jamais vu à Bir El Karma. Aux premiers pas de l’escalier ,mon père me demanda d’enlever mes chaussures et me montra avec beaucoup de soins comment les porter à la main gauche à l’envers l’une de l’autre.” Il faut entrer par le pied droit me demanda-t-il .” Peu après la fin de la prière ,se déclencha la belle voix du cheikh* Ali El Barrak citant du courant. Me voyant mal à l’aise ,mon père m’aida à croiser les jambes et un léger sommeil me prit .Je me suis réveillé après quelques instants sur le bruit du cortège de l’Imam* entouré de cheikhs vêtu en habits tunisiens traditionnels avec des imamas* brodées de belles couleurs tombant sur leurs épaules . L’imam nous salua puis se dirigea vers l’estrade en s’appuyant sur sa canne laquelle on prétendait qu’ elle appartenait à Ibn Arafa* qui était lui même
l’Imam jadis. Lorsque l’Imam atteint le Mihrab* un silence absolu régna et nous nous alignâmes en plusieurs rangées pour faire la prière de l’Aid . Le long du chemin du retour ,mon père n’a pas cessé de me parler de cet Imam Ibn Arafa …j’ai compris par la suite qu’il m’orientai vers son chemin . Mon père chéri : Me voici , après plus d’une cinquantaine d’année , assis à la même place dans cette superbe mosquée ,c’est comme si c’était maintenant ,assis près de toi après tes deux prosternations … Je sens que tu es avec moi et une grande joie et une infinie sérénité m’envahissent … En toi ,j’ai trouvé le bon musulman ,honnête,travailleur ,généreux et qui espère le bien pour tout le monde … Dors en paix mon cher papa .
*Aid el Fetr : la fête qui suit le dernier jour du Ramadan.
* Djebba : Robe traditionnelle pour les hommes.
*Chéchia : Calotte traditionnelle pour les hommes.
*cheikh :homme de religion
*Imam : le cheikh qui dirige la prière.
*Imama : écharpe traditionnel pour les hommes.
*Ibn Arafa : Mohammed ben Mohammed ben Arafa al-Werghemmi, né en 1316 à Tunis et mort en 1401 à Tunis, le plus illustre représentant de l’islam malikite à l’époque hafside.
La balle perdue
J’ai choisi la section lettres et je suis passé du lycée Sadiki vers le lycée Ibn charaf . Ayant eu mon baccalauréat en lettres, je me suis tout de suite inscrit à la faculté des lettres à Tunis là ou j’ai eu ma licence en langue arabe en 1976. Maintenant ,il faut faire son devoir envers la patrie.alors avec quelques amis et collèges ,j’ ai rejoint le service militaire .Quatre mois après ,j’ai eu mon grade de Lieutenant . Durant ces quatre mois de stage ,nous nous sommes entraînes sur différents types d’armes et en théorie on nous ont appris beaucoup sur les techniques de commandement en militaire . Un jour ,au cours de L’entraînement  au pistolet , j’étais au premier rang quand mon co-équipier qui était juste à coté de moi à mal orienté son arme et a tiré par erreur dans mon sens . Heureusement la balle a seulement affleuré mon soulier .Je l’ai vraiment échappé belle ! Début 1977, j’ai eu la belle étoile de Lieutenant à l’épaule et j’ai été orienté vers la base militaire de Bizerte ou j’ai passé une période pleine d’expériences sur différents comportements et conduites humaines sous ce vaste toit
Mon premier amour
Mon premier amour Ce fut la bibliothèque publique à la rue de Yougoslavie appelé ensuite Rue de Radhia Haddad à laquelle m’a accompagné un cousin à mon père : si Habib , un homme de littérature et qui était ami avec le grand écrivain Mikhael Nouaima . Je lui dois beaucoup car il m’a beaucoup encouragé à m’attacher à la littérature . Je n’oublierai jamais ce sentiment d’euphorie je j’ai vécu en voyant ce grand nombre de livres bien organisés et ces lecteurs qui étaient concentrés chacun sur son livre jusqu’à l’absorption …  L’île du trésor fut ce jour- là ma première et historique conquête … Un demi siècle après, je reviens de temps en temps visiter ces lieux là ou je rencontre souvent l’un de mes propres ouvrages et ce même sentiment me reviens sans tarder …. La deuxième bibliothèque qui m’a couvé pendant plusieurs années était celle de Souk El-Attarine lorsque j’étais au collège de la Sadiki , et là commença mon voyage dans le monde des grands écrivains Georgy Zaydan ,Najib Mahfoudh ,Mahmoud Elakad etc … A peine eu mes quinze ans ,j’ai déjà lu et relu” Assoud ” le fameux ouvrage du grand Mahmoud El Messadi
A cette époque, il y avait un bon nombre de bibliothèques aux alentours de la mosquée de la Zitouna.De nos jours ,il n’en reste pratiquement plus et les locaux ont été transformés en petits restaurants de fast-foods et en boutiques d’habillage en Prêt-à-porter et cela n’est qu’un indice parmi plusieurs qui témoigne de la régression du domaine de la culture pendant ces dernières décennies. Mon deuxième amour : Le café Al Andalous Antique en genre tunisois dans ses chaises en bois forgé et ses tables en marbre tout comme son propriétaire dans sa djebba et son ancienne montre de poche accrochée à sa farmla * par une belle chaîne dorée
En 1984 fut ma première visite à l’Irak. Le café Omm-Kalthoum que j’ai visité avec mon ami poète Ibrahim Zayden se trouvait prés de l’avenue Almoutanabbi .C’était un café traditionnel par excellence ,du par-terre jusqu’aux lustres. Au coin ,un grand tourne-disques chantonnait du matin à minuit les sublimes chansons d’Om-Kalthoum des années 1970
 Sardines et chocolat
 C’était le 05 ou le 06 juin 1967 quand nous étions en classe avec notre professeur sidi  Béchir Laaribi au collège Sadiki quand un groupe de manifestants s’est introduit dans la classe criant : Palestine …Palestine … en nous demandant d’abandonner le cours et de les intégrer pour soutenir la Palestine .. Rassemblés avec les élèves des autres collèges nous avons atteint la place Port de France ( Bab El Baher) insistant de toutes nos convictions les citoyens à s’unir avec nous .Les étudiants de la faculté des lettres étaient les leaders de cette manifestation . A la place de France se tenaient quelques ambassades européennes et le centre culturel américain . Brûlures et cassures ont été notre beau boulot . Finalement , l’intervention de quelques agents de la garde nationale a mis fin à notre mouvement . Deux ou trois jours après, j’étais dans la foule saluant en adieu des équipes de militaires tunisiens leur offrant des boites de sardines , du chocolat et même du fromage . Ils étaient en route vers la Palestine . Nous avions la certitude qu’ils allaient libérer la Palestine ! Mais à peine ont-il atteint les frontières que la défaite totale était déclarée
Dans cette atmosphère de défaite de 1967 et des mouvements de protestation contre la guerre de Vietnam et contre l’apartheid en Afrique du Sud, et avec l’apparition de nouveaux mouvements de libération dans le monde ,ma déception en tous ces régimes totalitaires dans les pays arabes me poussa vers le monde des poètes là ou j’ai été parmi les éléments rénovateurs du groupe Poètes du vent créatif .
Quelques années plus tard ,Bourguiba a été éloigné du pouvoir et remplacé par Ben Ali par coup d’état militaire .
A cette époque j’ai réussi à avoir le poste de secrétaire général de l’union des écrivains tunisiens par proposition de l’écrivain Mohamed Laroussi elmetoui.
La période que j’ai passé au sein des comités de l’union des écrivains m’a trop appris sur les personnalités effectives et réelles de plusieurs auteurs qui se disaient instruits et de principe mais cela n’était que du noir sur blanc.
L’opportunisme et la complaisance étaient à la base de tout succès dans le domaine du livre et de l’ascension en grades culturels malheureusement .
Fleur de la liberté
  C’était le printemps.Je me promenais à Evry ,une des provinces de Paris. J’étais étonné par la propreté ,et l’ordre jamais vus . Les fleurs bien présentées qui enjolivaient les boulevards ,les marches ,les ruelles et les fenêtres . Tout prés de moi se tenait un silo rectangulaire en modèle Maghrébins qui parait nouvellement construit .J’ai traversé la rue et c’était très facile de l’atteindre en toute sécurité et respect du passager . Ici ,dans ce pays ,règne le respect de l’autre ,de ses droits personnels , la liberté de conscience et le respect de la loi . Je suis passé par des cathédrales auprès desquelles se tenait un grand sanctuaire de Bouddha et des affiches de tout genre Celle qui a le plus attiré mon attention concernait le maire de cette province invitant les citoyens à lui consulter à volonté chaque vendredi de dix-sept heures à dix -huit heures et demi Sur l’affiche était écrit aussi son numéro de téléphone personnel ! Nous sommes encore très loin de cette mentalité ,malheureusement

Le couscous

A peine J’ai fait les premiers pas sur le gazon vert au bord du petit lac du jardin public, qu’il me disait  dans un air impératif mais d’une douce reproche : Non ! Il ne faut pas

marcher sur les herbes vivants ! on risque de tuer les fleurs !
Et il m’indiqua le passage qu’il faut emprunter .
C’était mon petit fils qui n’avait alors que presque cinq ans.
Son père s’en ai pris à lui mais pour moi c’était une satisfaction vis à vis de cette éducation correcte dés son jeune a^ge .
Les jardins d’enfants et les garderies est un corps éducatif qui prend dans les pays civilisés la responsabilité d’apprendre aux petits les A B C de la bonne conduite et du savoir vivre pour devenir un bon citoyen digne et à la hauteur d’honorer son pays ce qui est très

différent de ce qui existe chez nous ou’ ces locaux ne sont pour la plus part du temps que des camps de concentrations là ou’ sont déposés les petits que les parents ne peuvent pas prendre en charge tout le temps .. Ainsi , ils sont  plutôt des boites commerciales qu’autre chose ..Le couscous ,ce fameux plat tunisien était présent au restaurant Strasbourg  en 1991.J’en ai profité de sa belle présence ,j’étais alors avec un groupe d’écrivains tunisiens invités par l’association *Entre les deux rives*et c’était une surprise pour moi de trouver sur l’affiche du menu le plat de Couscous au fruits de mer . Il était d’une saveur inoubliable 

A mon petit fils Wael

Je t’écris ces quelques mots espérant q’un jour tu auras l’occasion de les lire attentivement .
Tu as à peine tes cinq ans alors que je dépasse de trois ans la soixantaine et malgré ce grand écart d’âge ,j’éprouve un énorme plaisir de t’écrire ,de t’entendre parler sans peine dans la langue de Baudelaire et l’accent d’Aznavour .

J’espère te voir un jour aussi compétent dans la langue de Elmoutanabbi et Taha Houssein et encore plus dans d’autres champs linguistiques de cet univers pour établir paix , tolérance et autres valeurs humaines …
Mon enfance était très différente de la tienne, j’avais beaucoup de mal à prononcer quelques lettres ce qui m’a poussé à garder souvent le silence.
Je suie fier de te voir heureux avec tes copains dans ton jardin d’enfants prés de chez toi .
A cet âge , à la campagne de Ghomrassen au sud de la tunisie, je jouais avec mes cousins à me fabriquer des jouets en argile .Les palmes étaient nos chevaux sur lesquels nous traversions nos vastes déserts et oueds .

Quant à ta mère ,je l’ai rencontrée la première fois un certain Samedi 8 fevrier 2008 lors d’un vernissage de mon ami peintre Othmen El Babba qui s’est inspiré de mes poèmes pour peindre ses tableaux .
Ce jour là a coïncidé avec les résultats des examens de la faculté où étudiaient ta mère et ton père Oui ,ils étaient dans la même classe et ils ont eu leurs résultats de succès à la même minute .

Ce jour-là Dieu m’a donné une superbe belle et intelligente fille : ta maman ! 

Maintenant ,je vais te parler de ton premier jour au jardin d’enfants:
tu potais fièrement ton petit sac à dos .Actif ,tu me dépassais en courant comme faisait ton père à ton âge lorsque je l’ai accompagné à son jardin d’enfants à Rades dans ce vaste boulevard orné de belles arbustes et fleurs qui embaument de mille parfums .

Mon cher et unique fils …Je lui racontais des petites histoires le long du chemin .
Tu es tout simplement sa copie avec en plus la grande ambition de ta maman .
Je suis très heureux de toi mon cher Wael.

Courcouronnes

Dans la langue latine des anciens

Le village à l’orée de la forêt’ Ou l’entourant

/ Demeure /Courcouronnes ,La france / Kerkouane

La Tunisie / Kirkouk

,L’Irak /Peuples , nations ,pays et continents .

Civilisations en civilisations / Langues et autres ‘langues

 Les villes se ressemblent 

Les arbres s entrelacent

Malgré la chaleur de cet été

Elles éclatent de pure verdure

En sombre verdure

Ici, la lavande rieuse embaume l air .

Là , les coquelicots explosent leurs couleurs

Et là , fleurissent celles qui

rappelant les Francs

ressemblent aux violettes

Et je passe

De la rue Mozart à l angle Lamartine 

Je traverse tour à tour des airs symphoniques et poétiques 

Vers l’arène ont fleuri les jardins suspendus

J’ai marché d un pas léger

Sur l’herbe mouillée de rosée

Et je m’en excuse 

Soleil , nuages et pluies 

Effusion de perles sur le trottoir 

A l’arrêt du bus , je presse le pas

Sur une jolie colonne verte ,tout à côté 

je lus l’heure de la prochaine arrivée 

Ainsi que celle d’après 

En minutes et secondes Là , le temps en or 

Navré , de perles 

J’attends 

Telle une musique , la cloche sonne huit heures et demie 

Les écoliers sont en rangs 

Ils ouvrent les livres 

La maîtresse dit 

Lis”

Le bus se dandinant est arrivé

Puis, tristement , s’en est allé 

Les passagers montèrent tranquillement

J’ai validé mon ticket

Tic Tic

Je m’assieds

Bizarre 

Pas de bousculade , pas de cris ni de piétinements 

La vitre est propre et transparente 

Les mouettes se dispersent

Et autour du lac , tournoient