نوّارةُ الملح ـ 1985

Nawaratou_Al_Melh_

1984

نوارة الملح ـ للقراءة والتنزيل ـ هنا ـ imp

الفهرس

لا تقلْ كما قِيل

واِطلعْ مكان الشّمس

* صالح القرمادي

ــــــــــــــــــــ أجمل البنات

أجْملُ البناتِ
الآن تنظرُ في ساعةِ الحائطِ

السّاعةُ دقّتْ سابعةَ المساءِ

هيّأتْ نفسَها لِضَمّةِ الوالدِ

في هذا الشّتاءِ الباردِ

قَفزتْ إلى الكرسِيّ تُقرّبُهُ

تَرنُو مِنَ النّافذةِ

أجملُ البناتِ
تُطلُّ على أبيض الثّلج

مِنْ سَوادِ اللّيل

السّاعةُ الثامنةُ دقّتْ

دقّ القلب مَرّتين

مَرّةً للوالد

مرّةً للعائدِ

هُوَ الآن بالمحطةِ يصعد القطار

وسَط الزّحام

لا بأسٌ… إنْ تكسّرتِ الشّكُلاطةُ في جيبهِ

لا بأسٌ

حتّى لئِنْ سُرقتْ حافظةُ نُقودهِ

مرّةً

ومرّةً

ودخل عائدًا آخرَ الشّهر

بيدٍ فارغةٍ

والأخرى

بِلا شُكلاطةٍ فيها ولا حَلوى

هناك… الآن
حِذاءٌ يقعُ على الجليدِ بِبُطءٍ

هناكَ… في المُنعطف رَجُلٌ

قد ضربهُ الزّمْهريرُ

لفّ ياقتَه جيّدًا

ودسّ رأسَهُ بين كتفَيهِ أكثرَ

وَقتئذٍ
دمعةُ البنتِ سالتْ على الزُّجاج

فَصارتْ

سَبعةَ أنهار

تنبعُ مِنْ قلبِ العالم

  ــــــــــــــــــــ الجسَدُ

أيها الجسدُ الخيلُ والليلُ
أيها الجسدُ النهارُ والنوّارُ

أيها الجسد البُركانُ والطوفانُ

أيها الجسد الرياحُ واللّقاحُ

أيها الجسد الثمارُ والأزهارُ

أيها الجسد الفصولُ والوصولُ

أيها الجسد الترابُ والخرابُ

أيها الجسد الشهوةُ والرّغوةُ

أيها الجسد الجسدُ الجسدُ

اِشتعلْ واِنطفِئ
ْ
كلهيبِ المِدفأة

كرمادِ المِنفضهْ

فأنتَ الليلةَ

رَجُلٌ

بدُون

اِمرأهْ 
!

ـــــــــــــــــــــ الجِسرُ

تَقاطعَا عند الجِسر
قادمٌ من اللّيل

ذاهبةٌ إلى الفَجرِ

غامضٌ كالسِّحْر

صافيةٌ كالتّبْر

وقفَا على الجسر
مرّتْ سيارةٌ فوق الجسر

أحَسّا بلفْح الهَواءِ

مَرّ زورقٌ تحتَ الجسر

أبصرَا موجَ الماءِ

صَمتَا فِي الجسر
حَطّتْ كالحمامةِ

طارَ كالنِّسر

تَباعدَا عن الجسر
هُو 
نحوَ النّبع
إلى النّهر

هيَ 
:: صَوبَ المَصَبّ
إلى البَحر 
!

واِفترقَا مِنَ الجِسر
حيثُ لا يَدري

حيثُ لا تَدري

غيرَ أنّهما تَركا ظلّيْهِما يَدًا في يدٍ

تَجريان

مَع النّهر 
!

ـــــــــــــــــــــ الزّورقُ أكبرُ من البحر

اِخلعِي مِعطفَك قَبلَ الجُلوس
زائرتِي

أمْ أنتِ على عَجل

بيتِي 
مَخبَأ للشّمُوس
لمِثْل دَكنةِ الشّتاءِ اليومَ في الطّرُق

وليَكنْ حديثُنا ذا شُجُون

في الصَّوتِ شَجَنٌ

شَجنٌ في المَطر

مَطرٌ على الشّجر

شَجرٌ في المُدن

مُدُنٌ في الوطن

وطنٌ في العَفَنِ

إذنْ :
لكِ الآنَ

أنْ تَرحَلي

لا تَنسَيْ مِعطفَكِ

مُعَلّقًا فِي المِشْجَبِ

كالسُّحُبِ في الأفُق

أغلقِي البابَ جيّدًا

بعدَ أن تَنسَحِبي
:
لستُ مَوجُودًا
!

الأزهارُ مَجرُوحةٌ…نَتِنَةٌ
الأعشابُ مُداسَةٌ…يابسة

بلا نَسيم هي الحديقةِ

بلا أطفال فيها يَصْخبُونَ

بلا عُشّاق في المَقاعدِ يتلامسُون

ويَتَوارَوْنَ في مَمّراتِها الخلفيّةِ

الأغصانُ قُضبانُ

الأوراقُ حديدٌ

اِخْصِفْ عليكَ مِنكَ

وَرَقَ الأحزان

و اِنزِلْ هُنا

قد يُريحُ كُرسيُّ الخشبِ هيكلَ البِلّور

و يُعرّشُ أضلاعَ الزّجاج

تَساقَطْ عليه أجْرَدَ مِن ثيابك

واُنضُدْ أزرارَك على الطّاولة

حَمْلِقْ من وراءِ الحَدَقَتينِ 
:
هَلْ أحدٌ يُشبِهُ أحدًا ؟

هل أنتَ تُشبِهُ ظلكَ ؟

لا حتَّى وجهَك

والبصماتِ ؟

اِسترحْ سيّدي … نُجومُك اِنكدرتْ
لماذا جيبنُكَ أخاديدُ ؟

لماذا عيناكَ غائِرتان ؟

هَكذا

بدُون بَريق

لا دَمعٌ … لا هُدبٌ

شَفتاكَ مُفَلّلتان

لا صوتٌ … لا صَدى

كآلهةٍ قديمةٍ 
!
فَضِقْ بالمساءِ والصّباح

ما كان صباحُكَ بالخير

ما كان مَساؤك خيرًا

لا أهلٌ… لا سَهلٌ… لا سلامٌ

أبدلْ عاداتِ الكلامِ 
:
التحيّةُ في الرّداءةِ

عادةٌ سيِّئةٌ 
!

كلُّ الجهاتِ صَدِئةٌ
فيَا طارقَ الأبواب… دُونَك الأبوابُ مُوصَدَةٌ

مِنْ أينَ تَدخُلُ تُونسَ سيّدي ؟

بابُ الخضراء

قَوسُ نَصر للأغنياء

وطابُورٌ للفُقراء

بابُ البحر

لا بحرَ فيه ولا مَوجَ

بابُ الجزيرهْ

مراكبُهُ لدَى الإفرنج أسِيرهْ

بابُ الجديدْ

مَساميرُهُ صَديدْ

بابُ المنارهْ

قنديلهُ عليه سِتارهْ

بابُ القَصَبهْ

باعُوا قُفلهُ

أحرَقوا خَشبهْ

بابُ البناتْ

عاشقٌ

في المَوعد 
.. ماتْ
بابُ سَعدونْ

يَفتحُ على السُّجُونْ 
!

مِنْ أين تَدخُل تُونسَ سيّدي
جامعُ الزّيتونةِ

حَمامُهُ … مَع المُؤذِّن … صاحْ

فَذُبحَ على الفلاحْ

والقَيروانُ

زَرابيها النّمارقْ

في الفنادقْ

هَدايا للسُيّاحْ 
!

يا تُونسَ الأنْس نامِي عَلى الأحزانِ

أسْدِلْ سيّدي
حجابًا

على كلّ بابٍ

واُنقُشْ بالخَطّ المَغربيِّ

حُروفَ الأبجديِّ 
:
عربيٌّ… عربيٌّ… عربيٌّ

هو المفتاحْ 
!

ربّمَا
ربّما تَفْقِدُ حُروفك وصوتَك تمامًا

ربّما تَنسى سُمرتك وبَسمتَك دافقةً

فِي حَضرةِ مَن تهوَى

قد لا تُصيبُكَ رعشةْ

وَتَعجزُ حتّى عن رَدّ التحيّةِ

بِمِثلها

باردٌ… باردٌ… باردٌ

دَمٌ… تخثّرَ في العُروق

فتَدثِّرْ بِلِحافِ الصَّقيع

وذَوّبْ قطعةَ السّكّر

في الأسْودِ

وترَشَّفْ فنجانك على مَهَل

واِبْرِ رُمحَك 
!

طوبَى
طوبَى لليدِ التي ما تلطّخَتْ

إلاّ بالحِبر

وما عَلِقَتْ إلاّ بذُؤابةِ شَعْر

وما اِمتدَّتْ إلاّ

لتلقَى الأحِبّة بالسّلامِ 
!
طوبَى سيّدي للصَّدْر الرّحَبِ

حوَى ما حوَى

حَوى واحةً

وزَوجيْ حَمامٍ

في الفضاءِ … حَلّقا… حلّقا

فاُبسُطْ راحتَك المُباركةً

على السّباخ والبَراري

جَبْرًا وحَرثا … وبذْرًا

ثمّ اِسْقِهَا من مُقلتيْك

بازغةٌ نوّارةُ الملح

مِن كلّ جُرح

إذنْ
خُذْ نفَسًا سيّدي … وتَراوَحْ

واُصمُتْ هُنيهةً… هُنا 
.. يا فتًى
صامتٌ… شامخٌ

مُثقَلٌ بالرُّؤى

نَخلٌ أنتَ

وعراجينُكَ رَطبةٌ خضراءُ

ألا سَرّحْ عينيكَ لترَى

قمَرا…لا سَماء

شجرًا… لا مَدى

سمَكًا ولا ماء

مطرًا كالبُكاء

بَشرًا يفترسُ بشرًا

في نَهَمٍ 
!
أمَمًا كالغنمِ

لحْمًا على وَضَمِ

دمٌ 
ألمٌ دمٌ ألمٌ
أشلاءْ… في الخلاءْ

تَرى ما تَرى ؟
تَرى قافلةً تِلْوَ قافلةٍ

في طريقٍ قاحلةٍ

لا ظلٌّ 
لا حَبلٌ لا ماءٌ
تَصِلُ 
لا تصلُ !
سِرْ… لا تَخَفْ

ما أحدٌ رَبَتَ على الكتفْ

ما أحدٌ يأخذُ باليدِ

سيّدِي 
!
طريقٌ بِدُون رفيقْ 
!

تُرى ما تَرى ؟
تَرى طيرًا بجناح واحدِ

يُحلّقُ في السَّحاب

تَعَبٌ على أرَقٍ على سَفَر

يَقَعُ… لا يَقعُ

رُبّما… ربّما… ربّما 
!

ــــــــــــــــــــــ الشّهرُ التاسع

أيتُها الزوجةُ في شهرها التاسع
مَضت شُهور الوحَمِ

مَضتْ أشهُر الألم

فمَنْ يكونُ في الرّحم؟

ذكَرٌ 
مشحُون رجولةً
أمْ

أنثى 
مليئةٌ خصوبةً ؟
بأيّ صيغةٍ أخاطبهُ ؟

بالمُذكّر 
!
بالمُؤنّث ؟

وهل تراهُ يسمعُني

وهل تَسمَعُها تراني ؟

آه
يا لغتِي الفُصحى
حروفي على لساني

مُرَجْرَجَةٌ وجَرحي

الآن

لا تهمُّ صيغةُ القصيدة

فاللغةُ كالمرأة 
..كالعالم
مُهيّئةٌ إلى ولادةٍ جديدة

الآنَ

أيتُها الزوجةُ السعيدة

تُطلّ بطنك على الدّنيا

كما تُطل تونسُ على المتوسّط

أيتها المرأةُ في الهلال التّاسع

لا تُخفِي الكرة الأرضيةَ

بواسع المَلابس

لقد أزعجَها اللّيل

بالظّلام الدّامس

الآن
.
تستريحُ الخيلُ

كنتِ كالمُهرةِ

كنتُ كالفارس

تَهادَيْ الآن في مِشْيتِكِ

مَشيَ الحَمام

آسفٌ … آسفٌ

إن كانَ من الآلام 
!

أيّها الجنينُ تَعجّلْ
لا تتمَهّلْ

لعَلك تفتحُ الأبوابَ

لعلك تزرعُ الخرابَ

أيها القادمُ من بعيد

الدّنيا عندنا بلا جَديد

الطقسُ ضبابٌ وسحاب

الشّمسُ لا…في سَماء

الخبزُ بالدماء

فِاستعدْ للبُكاء

برغم الزّغردَةِ 
!

أيتُها اللغةُ الجميلةُ
ألهمِيني وسيلةً

لأخاطبَ مَنْ في الشّهر التاسع

كيف أختارُ له أجملَ الأسماءِ

هل أسَمّيهِ مُحمّدًا

فيكونُ كالأنبياء 

لا

فالعصرُ للعُلماء

هل أسمّيها هندًا

ما أنجزتْ ـ وعدًا ـ

إنّها ككل الأوفياءِ

إذنْ

أسمِّي طارقَ بْنَ زياد

أو الناصرَ صلاحَ الدّين

أو شهرزادًا

الأندلسُ ضاعتْ
ضاعتِ القُدسُ

وما زلنا نحلم بالفاتحين

فالتاريخُ نفسَهُ لا يُعيد

إذن 

سأبحثُ عن اِسم جَديد

أيّتها الجَنينةُ في حُلمها التاسع
الآن … قبل فواتِ الأوان

يُمكنكِ أن تَضَعِي اللمساتِ الأخيرةَ

لعينيكِ – لشَعرك – لشَفتيكِ

يُمكنكِ إن شِئتِ

إعادةُ التفاصيل الصّغيرةِ

أيتها الجميلةُ ؟

هل قلتِ للمدينة 
صباحُ الخير
كمْ ستتعبكِ التحيّةُ كلَّ يوم

كم ستثقلكِ الملابسُ كلّ يوم

كم سيُعطلك المَاكياجُ كل يوم

كلّ يوم

قناعٌ… وسباعٌ… وضَياعٌ

في غابةِ الحياة

وآخرُها حُفرةٌ وكفَنٌ

للمَماتِ

هو الزّمنْ

هو الزمنْ

يا أيُها الجنينُ في الخَلْق التاسع
الآن

تختارُ مع أمّك ملابسَكَ الأولى

بالطريزةِ والأزهار

بيضاءَ … بيضاءَ

كشجرةِ اللوز في البَراري

غدًا … صباحًا … على السّادسةِ

اِنهضْ واغسِلْ وجهك

ثمّ اِفتحْ عينيك مَليًّا 

هل سترَى ما رأينا 

كوْنًا جميلا

وقيُودًا في يدينا

إنه زمنُ الرّداءة والبُؤس

فاِرفعْ رأسك عاليا

عندَ

سُقوط الرأس

أهلا بكَ في هذا الكون الشّاسع
سَهلا بك في هذا الدّهر الضّائع

لكَ عندي ما أقولُ

وحديثي يطولُ

فنحنُ الكبار

نُحسِنُ سَردَ النصائح للصّغار

نَدّعِي تجربتَها في الأعمَار

ونحنُ أصفارٌ على أصفَار

فمُنذُ عَصر الحجريّة

لم تُوفّر الإنسانيةُ

إلا قُنبلةً ذَريّةً

للدّمَار

وما حقّقتْ شبرًا واحدًا

من الحُبّ والحُريّة

للصّغار 
!

بعدَ الشّهر التاسِع
يا مَنْ في المُضارع

يأتِي زمانٌ… يمضي زمانٌ

ولم أخبِرْ أحدا

عن وَحَمي

فلمْ يعلمْ أحدٌ

بألمِي

آهٍ… يا ولدي 
.. لو تَدري وجَعي
هو الجنينُ الآن

يتحرّكُ بينَ أضلُعي

فَهَلْ ألدُ ؟
!

ــــــــــــــــــــــ الضّفائر

مرةً
جِئتِنِي مَحلولةَ الشَّعْر

يَذري على الخِصْر

كنتُ

أحسستُ

بالوَرق

يَرفُّ

في الشَّجر

مَرّةً
جئتنِي مَضفورةَ الشَّعر

حَبْلانِ من مَسدٍ على الصَّدر

حَبلٌ للوَثْقِ

حبل للشّنقِ

مقصوصةَ الشّعر
جئتُكِ مرةً

تَبّتْ يدَا مَنْ قَصّ

فالذي أحَسَّ

كان

بينَ السَيّافِ

والمِشنقة

ـــــــــــــــــــــــ الطّين

الولدُ الذي لعِبَ بالطّينِ
جَعل منهَا بُيُوتًا

خُيولاً

وإبلاً

الولدُ الذي جلسَ في الشّمس
نامَ في المغارات

لُدِغ بالعقربِ مرّاتٍ

عَدّ نُجومَ السّماواتِ

وَلدٌ لمْ يَكبُرْ
برغم الشّاربِ الغَليظ

برغم خاتَم البِنصَر

برغم الشّيبةِ الأولى
!

الولدُ الذي ظلّ ولدًا
مازال يَجلسُ في الصّمتِ

يقفُ في القَلقِ

يُراقبُ جُدْرانًا مُشَقّقةً

حَوافرَ مُفلّلةً

فَوارسَ مُثْخنةً

وهوادجَ بلا زَغردةٍ 
!

الولدُ الذي لعِبَ بالطّينْ
حَزينٌ حزينٌ

جفّتْ بَسمتُهُ كالطّينْ 
!

ـــــــــــــــــــــــ الغار

غارُ حُوشِنا القديمِ
مَثَله مَثَلُ رَحِمِ الأرضِ

دافئٌ في ظلامِهِ

أليفٌ في صَخْرهِ

لا وحيَ فيهِ

إلاّ… هَمْسُ الأرض

في حُوشنا القديم
مائدةُ الشّايِ كانتْ تجلسُ القُرفُصاء

في الظلّ 
.. بيننا
مرّةً في الصّباح

مرةً في البُكاءِ

حينمَا

خرَجتْ جدّتِي في بيَاض البيَاض

اِنتظرتُ

اِنتظرتُ

لمْ تعُدْ

في حُوشِنا القَديم
أبِي 
.. مُتربّع على حَصيرهِ
حبّةٌ إثرَ حَبّةٍ … في سُبحتِهِ

صحراءُ في صمتهِ

أسمرُ في جُبّتهِ

البيضاءِ

أمّي
عروسٌ دائمًا

ما أحلى بَسمتَها في سِواكهَا

بين الجَمر والفِنجانِ يدُها

لمّاعةٌ فِضّتُها في سِوارها

أمّي

فِي حُوشنا القديمِ
الشّمسُ

تَرْتقِي… تَتدَحرَجُ أمامي

ثمّ تَغرَقُ في الرّمل

النجومُ

أقربُ إليَّ من السُّوق

كمْ مرّةٍ اِشترتْ عيناي

تصاويرَ بالألوان

مِن الأقمار

كم مرّةٍ رَكِبتُ الهلال أُرجُوحةً

وغسَلتُ له يديهِ

في إناءِ الفَخّار 
!

في حُوشنا القديم
الشّوْكُ والحَصى

أقدامِي كانتِ الأرضُ

على مَدى البَصرِ

بلا حذاءٍ 
.. بلا حُدودٍ
وبلاَ جَواز سفرٍ

ـــــــــــــــــــــــ المَقهى

الذينَ جلسُوا هُنا
الذين يجلسونَ هُناك

زجاجٌ

دخانٌ

كلامٌ

ثُمّ
مَنْ ستثبُتُ بصماتُهُ

بعدَ مَسح الطّاولةِ ؟

ــــــــــــــــــــــــ النّملةُ

النّملةُ التي تَدُبّ على مَهَل
على عَجَل

تحتَ الصَّخر وفي الحَرث

تحلُمُ بالجِيفَةِ و القَمح

النملةُ التي تجُوب المِصْرَ
والقَفْرَ

تدخُل المغارةَ و القَصرَ

النملةُ الكادحةُ الفَالحةُ
بلا عَطشٍ بلا ظلٍ

النملةُ التي تلتصِقُ بالأرض

تتسلّقُ إلى الثَّمْر

تُؤْنِسُ في القَبْر

النّملةُ التي تَمْلأ الثّغر
وتَشرَبُ العين

تَدُوسُها القَدَمُ

بعدَ ذلك

تَراها تَمْضي

ـــــــــــــــــــــــ ذُو الجَناحَيْن

يَجلِسُ في صَمتِهِ
لا يَرُدُّ التَحيّةَ

لا يُلقِي السّلامَ

يَسِيرُ في الشَّوارع
يشُقّ الأزقّةَ والزِّحَام

يَطوي جناحَيْن إلى جَنْبيه

مُخفِيًا حَفِيفَهُمَا تَحتَ ثيابِهِ

جناحٌ مِنْ ريش حَمام
جناحٌ مِنْ شِراع سَفينٍ

مُثقَلا بالمَسِير والرُّؤَى
يعُودُ مُتعَبًا مُنْسَرحًا

لا يَنامُ

يَصعَدُ إلى أعلى سَطح عِمارةٍ

يُطلّ عَلى الإسمنتِ والحَديدِ

ثُمّ يُنتّفُ مَلابسَهُ

يُمَزّقُ الأوراقَ 
يُكسّر الأقلامَ
هَمَسَ ببعض الكلامِ

ـ مَا سَمِعَهُ أحدٌ ـ

ثمّ

يَنْشُرُ جناحيْهِ
على البَرّ والبَحر

ويَطيرُ

ـــــــــــــــــــــــــ خُيول الإفرنج

عندما كان عُمُرها سِنينَ عددًا
كانتْ

تَخرُج مع أبيها كلّ صَباح إلى الأسواقِ

تَدفعُ معهُ العربةَ

وتعودُ

يدُها في يدِهِ مَسرورةً فَرِحَةً

مَع المَساءِ

ومَع الأيّام

تَعلّمتْ أن تَهيمَ في الأسواق حافيةً

تُلاحقُ السُيّاحَ

كانَ

أنْ وَجدتْ ذاتَ يوم قَدميها

في حِذاء 

أعطاهُ لها شيخٌ في سَقيفَةٍ

بعدمَا 

لمْ تُحسِنْ رَبْطَ الحِذاءِ

في بَادِئ الأمْر

مَعَ الأيّام

تعلمتْ رَبط الحِذاءِ

مَشَتْ فيه

أحَسّتْ أنها والدّنيا في حِذاء

مِنْ إحراق الكُتُبِ
سَواري المَساجدِ سَوداءُ

وخُيول الإسبان تَربُضُ في صَحْن جامع الزّيتونةِ

حَمامُ جامع الزيتونةِ يَحُومُ حَول السُّطوح

ينتظرُ أذانَ الفَجرِ

ليَلتقِط القَمحَ

مِنَ الصّومعةِ

عندما كان عُمُرها سِنينَ عددًا
كانت تُجالسُ العاطلين في المَقاهي

تَعرُج عنهُم إليهم في دُخان السّجائر

تتوزّعُ على أكفِّهِمْ مَع أوراق اللعِبِ

وتَسْرَحُ ساعةً أو ساعتينِ

على ثِيابِهمِ الزّرقَاءِ

وتَغيبُ

تَرسُمُ وَجهَها الشَّبَحِيَّ مِنْ عَلى الجِسْر

في المَاءِ

ـ الأسماكُ تَسبَحُ كمَا تَشاءُ

وتعُودُ

يَتفتّحُ التُفّاحُ على خَدّيهَا

أحَسّتْ بصدرها ثِقَلَ الرُمَّان

وبِزَهْر اللّوْز في عَينيها

حالمةٌ شُرفات القصر في الصّيفِ
يُمَروح عليها النّسيمُ البحريّ

الجَواري أحسسنَ الليلةَ بالحَرّ

نَزلنَ عارياتٍ إلى البحر

يتلاعبنَ تحتَ القَمر

والغلامُ الصَّقلبِيّ يَتمَلملُ

تحتَ سيّدِهِ

عندما كان عُمُرها سنينَ عددًا
كانت تقفُ مع النّاس في البطحاءِ 

العَسكر يُكركِرُ رَجُلاً مِنْ رجليهِ

وعلى صِغَرها

صَبَرتْ على جَلْدِهِ

تَصبّرتْ إلى أن قَطعُوا لسانَهُ

يَديْهِ – رجليْهِ – رأسَهُ

سَاءلتِ النّاسَ

قيل لها … بالهمس… في الأذْن

عرفتْ من وقتئذٍ حُمرةَ الدّماءِ

آبارُ النّفطِ تَتَشمّسُ على الرّمل
يَجري مِنْ تحتِها النّفطُ

قَوافل البَدْو تَشُدُّ رِحَالها إلى الواحةِ

سكتَ حادِي النّياقِ

تَمثّل لهُ الكثبانُ سائحةً أمريكيةً

اِرتجل فيها ألفَ بيتٍ مِن الشِّعْر

وأنشدَها للنّياق

وحدَها النّياقُ

تعرفُ لَظَى الرّملِ

عندما كان عُمُرُهَا سِنينَ عددا
كانت تدخُلُ البحرَ إلى كعبيها

تُسرّحُ خَصْلاتِ شَعْرها في الرّيح

يَرقُبُهَا الصيّادُونَ العائدونَ شِباكا

شِباكا مُحمَّلةً بالحيتانِ

ضَفَرتْ شعرَها غُصنَيْ زيتُونٍ

وراحتْ تَضرِبُ قَدميْهَا فِي الصّحراءِ

تَجري مَع الغُزلان

تَلوحُ لها بينَ الكُثبانِ ظلالُ الواحةِ

وجداولُ الماءِ

الشّمسُ 

الشّمسُ تُشْرقُ إذْ تُشرقُ

مِنْ بينِ سَعَفِ النّخيل

أحذيةُ التَّلاميذِ سَلخَتْهَا وَعرةُ الوِدْيانِ
الطّريقُ وعرةٌ طويلةٌ إلى المدرسةِ

قصيرةٌ عذبةٌ باللّعبِ

تَرسُم الشّمسُ على جِباهِهمْ بالسُّمرةِ

خرائطَ الآتِي

تَجمَّعُوا في سُوق القريةِ

حَولَ سيّارةِ الإعانةِ

وساءَلوا السّائقَ عَنْ مَعنَى

ـ 
USA ـ
مكتوبةٍ عَلى الأكياسِ

والعُلبِ

عندمَا كان عُمُرهَا سِنينَ عددًا
كانتْ تَنقُشُ اِسمَها

على حِنّاءِ العرائسِ

وتَحمِلُ تحتَ مِعطفِهَا الألغامَ

فِي الأسواقِ – في زِحَامِهَا – مَعَ النّاسِ

وحينمَا يَنهَمِرُ على كتِفَيْهَا اللّيلُ

في قلعةِ النّحاسِ

ترنُو إلى الهلال يَمِيلُ على المِئذنةِ

يَحنُو عليها

كما يَنحنِي على جَفنيها النّعاسُ

فتنامُ إلى أنْ يَتبيّنَ لهَا

الخيطُ الأبيضُ مِنَ الخيط الأسودِ

على أحْصِرَةِ المَساجدِ

مَوسمُ الحَجّ اِنقضَى كالعادةِ على أحسنِ ما يُرامُ
حساباتُ شركاتِ الطّيرانِ سَجّلتْ

اِرتفاعًا هَذا العامَ

ماتَ من الحُجّاج ألفٌ

داسُوا عليهم في الزّحَام

ـ عادَ الحُجّاجُ إلى قَواعِدِهِمْ ـ

ـ سَالمينَ ـ

يُثقِلُونَ حقائِبَهُم بالبَخُور واللّوبَانِ

مُرَدّدِينَ وصيةَ حارسِ قَبرالرّسُول

في المَنام

وحدَهُ إبليسُ يحمِلُ
تَبِعاتِ الذّنُوبِ

فيُرجَمُ في كلّ عام

بالحِجارةِ

عندمَا كان عُمرها سنين عددًا
كانتْ ترقصُ في القِشلةِ على رَوثِ البَهائمِ

تَتنفّسُ على مَضَضٍ صِنانَ الجُنودِ

كلّ الغُزاةِ مَرُّوا مِنْ مَضيقِ نَهديْهَا

كانَ أنْ راحُوا

لم تكنْ تَدري أنّهُمْ لِيَعُودُوا

وترقُصُ لهُمْ عَلى الزّرابي

فِي فَنادق السُيّاح

خُيولُ الإفرنج تَهْوَى التَّزَحْلُقَ
عَلى الرّمال

تَرتَوي مِنْ آبارها في الصّيفِ

تَتَمرّغُ على دِفئِهَا في الشِّتاءِ

وتَحجُبُ عنهَا الشّمسَ بالغُربالِ

وتُناولُها كلّ مَوانعِ الحَمْلِ

أهرماتُ الجِيزةِ يقطرُ منها مع التّاريخ
عَرقُ العبيدِ

سَلاسلُ الأطلسِ تُوثِقُهَا السّلاسلُ

البحرُ المُتوسِّطُ يَحلُمُ عَلى أبيضِ الزَّبدِ

البحرُ الأحمرُ يتُوقُ إلى ذَروةِ الحُمرةِ

والخليجُ يَنامُ على الأملاح

وجنّاتُ عَدَنْ

تصيرُ اِخضرارًا على الصّحاري

تَسْقْيهَا مِياهُ السُّدود

عندمَا يكونُ
عُمْرُها سنينَ عددًا

تتعلّمُ المَشْيَ على الماءِ

تَكبُرُ قدمَاهَا على الحذاءِ

تتّسعُ خُطُواتُهَا على الجِسر

تعبُرُ الجسرَ مع العابرينَ

عُيونُها

عُيونُهُمْ

فِي الشّمْسِ


1974

ـــــــــــــــــــــــ التفاحة

اللّقاءُ الأوّلُ
حَضرَا معًا قبل المَوعدِ

جلسَا وتركا بينهُما مساحهْ

سَبقَ الكلامُ الشّفاهَ

كانَ الوقتُ مَضَى

أسرعَ من دَقّاتِ القلبِ

*

اللّقاءُ الثاني
حضَرا قبل المَوعدِ أيضًا

كانتْ الأصابعُ مُباحةْ

مَدَّا اليديْنِ قَرآ الكفّين

لقد كانَا تَوأميْنِ

حينمَا اِفتَرقَا فِي السّاحهْ
اِلتصَقَا 

وصَارَا نِصْفَيْ تُفّاحهْ

*

اللّقاءُ الثالث

خَلعَا خِرَقَ الدّنيا
لبِسَا أوراقَ الجنّةِ

كانَ آدمَ … كانتْ حوّاءَ

و أكلا التفّاحهْ