ظلّ الأدب العربيّ المنطوق والمكتوب باللّسان اليوميّ على هامش الأدب العربيّ الفصيح بالرّغم من إبداعاته الزّاخرة بالقيم الفنيّة والاِجتماعية إنّه أدب الحياة في أدقّ تفاصيلها النابضة بالشّجون والمعاناة
من آخر ما سمعت من القصائد قصيدة _ البالة _ للشاعر عبد الحكيم زرير في نادي القراءة بجمعية ابن عرفة وهي قصيدة من الشعر التونسي باللغة اليومية وـ البالة ـ كلمة سائرة على اللسان التونسي وهي كلمة مشتقة من أصلها الفرنسي من فعل emballer وتعني ذلك الكيس الذي يلفون فيه الثياب المستعملة والتي أصبحت أكوامها منشورة في كامل أسواق البلاد وغزت حتى الساحات والشوارع الرئيسية في العاصمة تونس حيث تسمع الباعة ينادون بأعلى الأصوات _ م البالة ..م البالة…م البالة…أي أن هذه الثياب حضرت للتوّ فترى القوم رجالا ونساء وشبابا مقبلين عليها يتفحصونها ويختارون ما يناسبهم من مختلف قطع الملابس وأنواعها من الحذاء إلى القبعات ومن الثياب الداخلية إلى المعاطف ومن الحقائب إلى النظّارات وقد يظفر أحدهم أحيانا بقطع من الملابس جديدة لم تستعمل أبدا وعلامة المحلّ أو المصنع ما تزال مثبّتة عليها .
الأرشيفات الشهرية: ديسمبر 2022
ذكرى مع الشّاعرين مختار اللغماني وعبد الحميد خريّف
ـ 1 ـ
من الطرائف التي عشتها مع أصدقائي الشعراء في أجواء حميمية وإنسانية ظلت راسبة تبعث البهجة والحنين في ذاكرتي رغم ما كان فيها من مواقف صعبة أو محرجة أحيانا لا بأس أن أحدثكم عن الأمسية الشعرية التي برمجها لنا سنة 1974 أحد أصدقائنا من الشعراء الأعضاء بنادي الشعر بدار الثقافة اِبن خلدون والذي كان يدرُس معنا بكلية الآداب بتونس فاِقترح علينا أن ينتقل نادي الشعر إلى دار الثقافة بنابل لنقيم بها أمسية شعرية بناء على دعوة اِتصل بها من مديرها فكان هذا الاقتراح من صديقنا تحوّلا تاريخيا في نشاطنا الأدبي الذي كنا نطمح أن يكون مشعا خارج العاصمة وأبعد من أبوابها حتى نلتقي بجمهور الشباب وغيرهم من الذين لا تصل إليهم قصائدنا خاصة في المناطق النائية فكان تنظيم تلك الأمسية أوّل خروج لنا من العاصمة لنقرأ نصوصنا خارج أبواب مدينة تونس وقد تكفّل صديقنا الشاعر بتنظيم جميع التفاصيل كيف لا ! وهو اِبن ولاية نابل وصاحب العلاقات الوثيقة بالصحف النّافذة وصاحب الكلمة المسموعة لدى الدوائر الإعلامية وقتذاك لذلك اِنفتحت لنا أبواب أمانينا على مصراعيها ورفرفت بنا أحلامنا الوردية فصديقنا أكّد أنّنا سنحظى باِستقبال بهيج من ممثلي السلطة الجهوية وقد طمأننا أنه إذا اِمتد الوقت المخصص للقراءات فلا بأس علينا ولا نحن نحزن لأنّ العشاء سيكون بأحد الفنادق الفاخرة في الولاية بل حتى المبيت سيكون متوفّرا لمن أراد ذلك..
متابعة قراءة ذكرى مع الشّاعرين مختار اللغماني وعبد الحميد خريّف
الماء في شعر مختار اللّغماني
إنّ قراءة النصوص الشعرية قراءة دلالية تؤدّي إلى الوقوف عند مراكز اهتمام نعتبرها نوافذ هامة للدخول في الكون الشعر لتلك النصوص واستكشاف مدلولاتها في خصم حضورها اللغوي والإيحائي والرمزي.
وشعر مختار اللغماني في مجموعة ” أقسمت على اِنتصار الشمس ” تتبعنا في معاني قصائده وصورها ظاهرة التعبير عن العطش والبحث عن الماء فهو يقول في قصيدته الأولى:”التعبير عن الغربة”( ص.7.)
عيناي الضيقتان واسعتان جوع
يابستان ياشفتان عطش
عيناي مسافران ضائعان يبحثان عن ينبوع؟
هل صدفة أننا نلاحظ الصلة الوثقى بين كلمة (ماء) وكلمة (أمّ) فإذا كانت الأمّ مصدر الإنسان فإن الماء هو أصل الحياة وقد حفلت اللغة العربية في معجمها بهذين الكلمتين حيث أنها نشأت واِنتشرت وسادت في أصقاع هي من أشد الأقاليم حاجة إلى الماء بل إن الحضارة الإنسانية ظهرت حول الينابيع والأنهار الدافقة التي على ضفافها عرف الإنسان الفلاحة والثقافة فِانبثقت الحضارات الأولى بين دجلة والفرات والنّيل حتى عمّت العالم عبر العصور وعبر الأودية والسّواحل أيضا.
قراءة في قصيد صفوان بن مراد
الصّديق ـ صفوان بن مراد ـ من أقدم الأصدقاء فقد تعارفنا على مقاعد معهد الصّادقية في النصف الأول من ستينيات القرن العشرين عندما كنا نتابع بشغف أستاذنا البشير العريبي وهو يحدثنا عن بخلاء الجاحظ وعن زيارة طه حسين إلى تونس وعن – حتّى – التي ظلت في صدر أحد اللغويين القدامى بعد أن مات وما زلتُ أذكر كيف خرجنا من الأقسام مع كوكبة من التلاميذ والطلبة صائحين ثائرين في أيام حرب جوان 1967 ومن وقتها اِشتعل فينا فتيل الحسّ الثوريّ على الأوضاع السائدة في الأوطان العربية فأقبلنا بحماس على قراءة الشعراء المجدّدين مثل عبد الوهاب البياتي ونزار قباني وبدر شاكر السياب وسليمان العيسى الذي عرّفني به صديقي صفوان بن مراد وقد كان يكتب قصائد فيها الكثير من وشائج الوجدان العارم بالشجون العربية وأتذكّر في ما أتذكّر أننا عندما كنا ندرس في شعبة الآداب بمعهد ابن شرف جاء معمر القذافي في زيارته الأولى إلى تونس في شتاء 1970 فخرجنا دون إذن من الإدارة وحرصنا أن نكون من بين الحشود في اِستقباله هو والزعيم بورقيبة فوقفنا عند مرور الموكب مرّتين الأولى عند مروره من باب الجزيرة ثم جرينا مسرعين في أسواق المدينة العتيقة المزدحمة وأنهجها الضيقة لنلتقيه مرة ثانية عند باب سويقة ورفعنا المطريّة السّوداء وقد كتب عليها صفوان بالطباشير الأبيض بخطه الجميل – تحيا الثورة العربية –