الأرشيفات الشهرية: مايو 2022

دار مكتوب

ـ 1 ـ
منذ عشرات السنين وأنا أمرّ على مدينة بوفيشة في ذهابي وإيّابي فهي تقريبا المنفذ الرئيسي نحو وسط وجنوب البلاد التونسية غير أنها بعدما اِمتدت الطريق السيارة أضحت منعزلة قليلا  فاِنزوت عن ضوضاء السيارات والشاحنات  وحتى عن جَلبة المسافرين ليلا نهارا لكنها أصبحت منذ سنوات قليلة مدينة هادئة لا يقصدها إلا من يطلب السلامة والهدوء والسكينة فقد تربّعت هادئة وسط سهل منبسط على مدى البصر بين البحر شرقا والمرتفعات غربا لا ترى من نواحيها حيثما جال بصرك إلا الزّرقة والاِخضرار فمدينة بوفيشة لوحة طبيعية تتبدّل في كل فصل بما في أرضها الخصبة من شتّى الأشجار والغراسات في مختلف ألوان أزهارها وثمارها والمدينة على مسافة ساعة من العاصمة وهي غير بعيدة أيضا عن مدينة سوسة والقيروان
ونابل وزغوان
ـ 2 ـ
جئتها هذه المرة من رادس قاصدا القيروان فعَبَرْتُ عند مدخل المدينة الجسر الصغير وهو الجسر الحديدي الذي أقامه الجيش الوطني عند فيضانات 1969 وما أن تجاوزت الجسر حتى لقيت على يميني _ دار مكتوب _ ولكن ما دار مكتوب هذه ؟
سمعت بدار مكتوب عند وُرود اِسمها في سياق نشاط المقهى الثقافي بها فقلت أذهب وأكتشف هذا الفضاء وهذا النادي فلما دَلفت اِستقبلني بحرارة الترحاب السيد  ظافر كرشاد بمعية السيد عبد الوهاب الهيشري والسيدة سوسن عوني وهم يمثلون المقهى الثقافي الذي يقيم جلساته وندواته في فضاء ـ دار مكتوب ـ الذي حدثني عنه سي ظافر بالتفصيل فإذا به يبحر بي في ثنايا التاريخ كيف لا والرّجل أستاذ في ريعان شبابه متخرج من كلية الآداب بمنوبة وهو أصيل هذه الربوع الفيحاء وقد حباه الله بأريحية ولطف وبسعة معرفة يُدلي بها بأسلوب التشويق فتستزيده ولا ترتوي فدار مكتوب هذه كما حدثني أصلها برج أو معلم ديني يعود إلى العصر الروماني أو البيزنطي مازالت حجارته الصَّلدة الكبيرة على هيئتها الأولى حتى الأقبية والمدارج والردهات وحتى العروة التي تُربط بها الخيول بعضها منقوش في صخر الجدران وقد كان هذا المعلم  في عهد الدولة الحسينية بمثابة محطة اِستراحة لأحد البايات ثم عند الفترة الاستعمارية الفرنسية سكنه أحد المستعمرين من الجالية الأوروبية لأن هذه الجهة  معروفة بحقولها وبساتينها الخصبة فوضع المستعمرون أيديهم عليها وجعلوا من السكان الأصليين عمّالا بأجور زهيدة وفي هذا السياق ربما ورد اِسم _ بوفيشة _ كما أرجح هذا الاشتقاق صديقنا الأستاذ ظافر  _ إلى أصلها الفرنسي وتعني الجذاذة التي كان يكتب فيها المستعمر أسماء العمال التونسيين الذين يصطفون أمام مكتبه
صباح كل يوم جمعة ليتسلموا أجورهم الأسبوعية وأطلقوا عليه اسم بوفيشة
ـ 3 ـ
بعد الاِستقلال وفي منتصف الخمسينيات من القرن العشرين غادر المستعمرون البلاد وعادت الأراضي إلى مالكيها الأصليين ومن بينها العقارات التي في منطقة بوفيشة وقد آل هذا المَعلم الذي كان مقرّ إقامة أحد المستعمرين إلى السيد نور الدين البواب فنفض عنه مظاهر الإهمال واِستصلحه وأبرز للعيان معالمه التاريخية التي كانت مطمورة أو مطموسة فظهرت نفائس هندسته وجعل منه فضاء  متعدّد الاختصاصات ليكون مَزارا سياحيا ومنارة ثقافية فقد اِحتضن المقهى الثقافي الذي يترأسه الأستاذ ظافر كرشاد بمُعاضدة الشاعرين مجدي بن عمر وعبد الوهاب الهيشري  بالإضافة إلى الشاعرة سوسن عوني وتحتضن دار مكتوب أيضا نواةً للمسرح وورشةً للرسم
 فبهذه هذه الدار اِكتسبت مدينة بوفيشة إشعاعا جديدا فصارت قِبلةً للزائرين سواء أولئك الذين يمرّون منها عبر مختلف الطرقات أو من خلال القوافل السياحية التي  تجد في هذا المعلم عبق التاريخ وكذلك جماعات المبدعين والمثقفين والفنانين الذين ينشدون  الهدوء والجمال خاصة أن دار مكتوب هي خير ما يمثل قول الشاعر
يا ضيفنا لو  زرتنا لوجدتنا * نحن الضيوف وأنت رب المنزل