الأرشيفات الشهرية: سبتمبر 2020

على ضفاف دجلة والفرات

هذه بغداد…

 من تحت جناحي الطائرة تبدو في الليل كوشي بساط متلألئ …هذه هي بغداد الرشيد…بغداد دجلة وعيون المها بين الرصافة والجسر …بغداد أبي نواس والتوحيدي…بغداد الكرخ ومقامات الهمذاني…كنت سارحا في صفحات الأدب حتى شعرت بأن الطائرة العراقية تحط بتماس لطيف على الأرض فطفق الركاب يصفّقون بحرارة تحية شكر وإعجاب بالقائد وأغلب الركاب شعراء وأدباء تونس والجزائر والمغرب وموريطانيا حتى قال أحدهم مازحا إنه لو سقطت الطائرة وهلك من فيها من الشعراء المغاربة لكتب بقية الشعراء العرب  ديوانا كاملا في رثائهم…!

هذه بغداد…

 حلم وتحقق أن أزور بلاد دجلة والفرات التي قرأت عنها منذ مطالعاتي الأولى وحدثنا عنها أستاذ التاريخ في معهد الصادقية سيدي  الهداوي الذي تخرج من كليتها فكان كثيرا ما يعرج بنا في الدرس للحديث عن ذكرياته في  بغداد فيصف لنا وصفا دقيقا شارع الرشيد وشارع المتنبي وحي الأعظمية حتى جعلنا نشتهي مختلف الحلويات البغدادية من كثرة ما حدثنا عن تفاصيل ذكرياته في العراق وهنا لابد من ذكر العلاقة الأدبية الوطيدة بين الأدباء التونسيين المعاصرين والعراق حيث أتمم كثير منهم دراسته الجامعية ونذكر على سبيل المثال أبا القاسم كرو والميداني بن صالح وعلي دَب الذي كان يجلس معنا أحيانا  بمقهى الكوليزي حيث أقبل علينا الأديب يوسف عبد العاطي ذات يوم من ربيع سنة 1984 وأعلمني أنه علم بدعوة عراقية لوفد من الشعراء والأدباء التونسيين وأن اِسمي من ببنهم فاِبتهجت اِبتهاجا كبيرا وكان اِستقبالنا بحفاوة كبيرة ناهيك أن سيارات فخمة خُصّصت لنا ضمن موكب تَحُفُّ به الدراجات النارية أوصلتنا إلى فندق الرشيد وهو أرقى فنادق العراق وكان رفيقي في الغرفة الصديق الشاعر محمد بن صالح الذي أتّفق معه في كثير من الأشياء ومنها تلك التفاصيل البسيطة…عدم التدخبن مثلا….

عندما أصبح الصباح نزلت إلى بهو الفندق ذي الصالات الواسعة والرّدهات الممتدّة بعضها يُفضي إلى بعض وإذا بجموع الشعراء والأدباء والصحافيين وقد جاءت من بلدان القارات الخمس تتبادل التحايا وكلمات التعارف وتلتقط الصّور مع بعضها وتتهادى الكتب بعدما يخطّ الشاعر والأديب على صفحاتها الأولى عبارات المودّة وقد عدت بعشرات الدواوين والكتب من مختلف البلدان التي بدوري أهديت شعراءها ما حملت في حقيبتي من نسخ من ديواني الأول ـ الأرض عطشى ـ والثاني ـ نوارة الملح ـ وقد رجعت ـ والحق يُقال ـ بأكثر ممّا حملت معي

هذه بغداد …

عشرة أيّام بلياليها اِنقضت في لمح البصر بين جلسات للقراءات الشعرية وزيارات سياحية للمعالم والآثار ولبعض المدن من بينها بابل والنجف والموصل وسامراء وغيرها وكلّما وجدت سُويعات خارج البرمجة حَثثت الخطى أجوب شوارع بغداد وأحيائها وأتمشّى على جسورها وعند ضفاف دجلة عندما صادفت تمثال شهريار وشهرزاد فمكثت أكثر من ساعة أتأمّل من مختلف الجهات ذلك الإبداع الجميل الذي جعل من الصّنم الجامد كيانا مُعبّرا حتّى لكأنّي كنت حينذاك أسمع حكاية من حكايات شهرزاد بينما شهريار يتّكئ كالمسحور من كلامها وكم هي كثيرة المنحوتات  والتماثيل الجميلة في العراق الذي يٌعتبر من أوّل البلدان العربية  في الفنون التشكيلية الحديثة .

هذه هي البصرة…

حيث يلتقي في شطها دجلة والفرات وتتآلف الحضارات أيضا….هذه مدينة الجاحظ والخليل بن أحمد والسيّاب… كانت شمس الصباح قد لاحت من فوق نخيل مدينة البصرة بعد رحلة قطار الليل ولم أدر كيف وجدت نفسي وجهًا لوجه مع تمثال بدر شاكر السيّاب الذي نال منه الرّصاص والشّظايا في إحدى المواجهات الحربية بين العراق وإيران وهي الحرب التي ليتها لم تكن فقد كانت مآسي ودمارًا وكانت القوى الاِمبريالية هي المستفيدة الوحيدة منها وقد لاحظت أنّ عديد الشرفات والنوافذ تُسدل لافتاتٍ سوداء بأسماء شهداء عائلاتها…نعم كانت تلك الحرب تضحية بالأرواح وهدرًا للطاقات وذلك بسبب غياب العقل الرّشيد بين الجارين 

التّمثالُ والخليجُ*

مِثلما يُيَمِّمُ بَاسِقُ النّخلِ
للشطّ سَعفَهُ
إنّك تُولّي للخليج ظهركَ
أيّها الشّاعرُ
شَبَهٌ بينكَ وبين النّخل اِنتصابًا
عندمَا أغمضتْ البَصْرةُ
جريدَها
هَوى في العينِ عُرجُونٌ
وفي الأزرق وراءَكَ
غَرِقَ سِربُ السّمكِ

في الجُذوع نرَى
الرّصاصَ في صَدركَ مضَى
كالنَّشيج
مِن شَناشِيل
اِبنةِ الجَلَبِي

ألا أيّها الواقفُ
اُخرُجْ من التّمثال
و اِخلعْ عنك لباسَ الحديدِ
لتجلسَ قارئًا على الزُوّار
كتابَكَ الذي في الجيبِ

وإذا الأوراقُ تطايرتْ
بأيِّ ذنبٍ
تلك المدرسةُ
هُدّمتْ؟ !

هل يا تُرى في المحفظةِ
قطعةُ حلوى ومقلمهْ
أم في المحفظة شَظيّةٌ
من قُنبلهْ؟!

وُقوفًا
واجمينَ نظلُّ
كاِنحباسِ الكلمةِ
الكلِمةُ شَفَةٌ
شِفاهُنا هواءٌ في خَواءٍ
وشَفتُكَ حديدْ

ألا أيّها الواقفُ
بين الموج والجريدْ
يُبَرقِشُكَ الرّملُ والملحُ
ينُوشُكَ الصّديدُ
لا تَغمِسْ ريشتكَ
في خليج المِحبرةِ
جُثَثٌ موجُهُ
وتحتَ الزّوارق
دمٌ

واقفٌ
يداهُ برغم الصّديدِيدانِ
تَجنيان بَلحًا
يداهُ في الحديدِيدانِ
تُسابحان طيرًا
تقُولان 
سلامًا
سلامًا
متَى تعودُ للشّرق
شمسُهُ
الآفلهْ

*هو تمثال بدر شاكر السيّاب في البصرة