قراءات نقدية
سوف عبيد
ذلك هو عنوان قصيدة الشاعر التونسي ـ منير وسلاتي ـ التي قرأها في خيمة الشعر المنتصبة في وسط تونس العاصمة بجانب خيمة معرض الكتاب التونسي وقد اِسترعت اِنتباهي لِمَا تزخر به من معان وصُور وإشارات عميقة تنمّ عن معاناة وجدانية عارمة بالشجون الإنسانية في خضمّ واقع متأزّم متدهور القيم وقد كانت قراءته تبعث نبرات الصدق ووشائج التفاعل مع مختلف رَدَهات قصيدته لذلك رجوت منه أن يرسل لي نص القصيدة كي أقراها وأتمعّن في أغوارها فلبّى طلبي مشكورا وللشاعر منير وسلاتي عديد المجموعات الشعرية من بينها
نسّاج الضوء –
ـ ذاكرة الجلنّار
ـ تباريح الغصن المكسور
أمثولة الغصن-
ويُعتبر من أهم الشعراء التونسيين الذين ظهروا في سنوات الهزيع الأخير من القرن العشرين وهم الشعراء الذين اِستفادوا من مختلف إنجازات القصيدة الجديدة ومساراتها المختلفة سواء في تونس أو في غيرها من البلدان العربية بل قد سعى البعض من أولئك الشعراء إلى مواصلة تطويرها نحو آفاق أرحب ويبدو أن منير الوسلاتي من خلال هذه القصيدة قد سار بثبات على درب الإضافة والتميز من خلال استلهام مناسبة رأس السنة فبثّ همومه ومشاغله وعواطفه مستحضرا حتى أحاسيسه الأبوية والتزاماته العائلية ناهيك عن اِستحضار القضايا الاِجتماعية والسياسية التي يرزح تحت كلكلها كل يوم… فالقصيدة إذن تمثل تجربة أخرى تُثري الشعر العربي وما الشعر التونسي إلا رافد مهمّ من روافده العديدة
وللوقوف على الخصائص التي تميّز هذه القصيدة لا بأس أن نسترجع بعض القصائد التي كُتبت في مناسبة رأس السنة مثل حافظ إبراهيم حيث يقول قي قصيده له بمناسبة رأس السنة الهجرية
أَطَلَّ عَلى الأَكوانِ وَالخَلقُ تَنظُرُ
هِلالٌ رَآهُ المُسلِمونَ فَكَبَّروا
تَجَلّى لَهُم في صورَةٍ زادَ حُسنُها
عَلى الدَهرِ حُسناً أَنَّها تَتَكَرَّرُ
وَبَشَّرَهُم مِن وَجهِهِ وَجَبينِهِ
وَغُرَّتِهِ وَالناظِرينَ مُبَشِّرُ
وَأَذكَرَهُم يَوماً أَغَرَّ مُحَجَّلاً
به تُوِّجَ التاريخُ وَالسَعدُ مُسفِرُ
وللشاعرة ـ لمياء فرعون ـ قصبد في رأس السنة ورد فيه قولها
عـامٌ مضى وأخوه مـنـّأ يـقـتـربْ
وسنين عمري في هدوءٍ تنسحبْ
أتــراه يــأتـي بــاسـمـاً لـلـقـائـنـا
أم عـابساً وكمـثـل شـيـخٍ ٍمكتئب
مــاذا يـخـبـئ فـي ثـنـايـا ثــوبــه
إنَّـا ســئـمـنـا من صراع ٍمضطرب
بـتـنـا نـخـاف من الحروب وشرّها
والكلُّ أصبح في الديـاركمـغـتربْ
بـالخـيـر نـرجـو أن يـتـمَّ لــقـاؤُنــا
لـنبلسم الجرح العـميق الملتهبْ
وفي نفس المناسبة نقرأ لنزار فبّاني قوله مخاطبا حبيبته
أنقل حبي لك من عامٍ إلى عام..
كما ينقل التلميذ فروضه المدرسية إلى دفترٍ جديد
أنقل صوتك.. ورائحتك.. ورسائلك..
ورقم هاتفك.. وصندوق بريدك..
وأعلقها في خزانة العام الجديد..
وأمنحك تذكرة إقامة دائمة في قلبي
غبر انّ الشاعر منير وسلاتي يخرج عن جميع تلك المعاني والصور ويكتب نصا شعريا مخالفا لما سبق من الشعراء يضمنه معاناته اليومية كأنه يسجل سيرته الذاتية بما فيها من أحاسيس وآلام وأحلام وتلك لعَمري هي الإضافة النوعية لهذه القصيدة ـ قصيدة خارطة رأس السنة ـ للشاعر منير وسلاتي ـ تونس
حين تتكـــسّرُ المرايــــــا
ويسكنُ الخوف والمجهولُ محاجر الأيـــّام
ماذا يبقى من سفر الرّوح الى أدغال التجلِّي…
في مسافات الرؤى حلمٌ يصلَبُ على النُّصُبِ…
يتخشّبُ العمرُ..
والنَّــارُ تحتفلُ في ولائم الحطبِ…
..كلُّ ما بقيَ في الـنـَّبـْضِ خبزُ العيالِ..
سُباتُ العشيرة…
مرارة الإنتحار على أسْوَار الـمُعتاد…
..في خانات الظمــإ..
لم يعد بالإمكان البحثُ عن فتحٍ جديدٍ..
خـــارطَـــةُ الأخيــــــلةِ شتاتٌ لا يلتئمُ..
عَيــنانِ غامضَـــتان..
بِدَدٌ للياســمــيـن حائـــــرَةٌ…
عنـــبَــرٌ من الشَّرق مختـنِــقٌ..
بين الظلوع موجة مائــــرَةٌ..
على الجبين خطوط تائـــهَـــةٌ..
ثلجةٌ للعزيز “بابا نوّال”
تُــرْبِـــكُ رحلة الشِّتاء والصَّيف..
تشوِّشُ مخيلة الصحراء..
*****
هذه رأس السنة تطلُّ من صناديق الدنيا..
ولن نحتفلَ…
لن نحتفل بصبر شهرزاد على جموح مليكها..
ولن نحتفل بسـمـاحة “صلاح الدّين”..
ولن نحفل بنبل الملك النعمان…
ولن نذكر حتى عباءة “عمر” المملوءة بالعدل والاحلام…
السنة تطلّ برأسها من صناديق الدنيا..
“بابا نوّال” يملأ صناديق الدنيا ..ورؤوسَ الأطفال..
حاكِــــمٌ فينا بأمرنا..
ولهُ أمرُ الحلوى..وبريق عبوات الهدايا..
وأسرار فرحة اطفالنا…
تحني له الذّاكرة قامتها..
تنثني في تلابيب ريحه الاحدب…
“فمالك أنت لا تحني قامتك اكراما للحيته؟”
…”عليكَ أن تكونَ رجلا مُواكِــبًا للعصر”
لكي لا يُحــرَمَ أطفالكَ من قطع حلوى رأس السنة..
ولابأس أن تُضيفَ إلى جيد زوجتك حُليّا جديدا..
كي تجيش لك..بوهج جديد…
وتخضرّ في كفّك بركات رأس السّنة…
***
ألجُ رأس طفلي…وأنا لا رأس لي…
عيناه غارقتان في صندوق الدنيا…
يقفُ الخيَّــالُ الذي يسافرُ في أوردتي..
عاريــــًـا في مربّع الشّغب…
وراء قضبان صخب الأحلام الصغيرة..
أعشاشُ الرؤى تسكنها الخفافيشُ…
أرى خيّالي يغتال في وادي النّمل..
وولدي الذي أزرعُ في قلبه نخلة تاريخي…
أضاع حرارة عروقي وبوصلة دمي…
ولن يفوح المكان برائحة تبرنا القديم..
-” يا أبي تخلّص من أوهام النخلة الكادحة..
تخلّص من كبرياء الزيتونة الفارعــــــة…
وانس كلّ ما خطّ في الذّاكرة من التواريخ الفارغة..
فالعصر ليس العصر…
ولا نريد لك أن تموت نافقا في زاوية…”
– عليَّ ان أغـــيّـرَ جمجمتي..إذن؟!!!
وأشهَــدَ أنّي رأيتُ بأمّ عينيّ..الفيَــلَــــةَ تطــــــيـــرُ..
وألتقطَ صورة للذكرى مع نعامة تدفن رأسها في الرّمل..
مواكبة لريح العصر…
-” يا أبي عليك ان تترجّلَ عن فرسك المغرور…
وأنْ تعترف أنّ الفرسان تأتي وتمضي…
ونحنُ في زمن فرسان عواصم الثّلج…
…عواصم الثّلج براءة الرؤى..
حضارة الخيال..بهجة العمران الجديد…
اباس ان تحترم النملَ المجاهدَ قليلًا..
ما ضرَّ لو كان الضَّبُعُ أنبَلَ من السَّبُعِ…
ألم تُنجب الإغريقُ أكرم الفرسان…
ولم تنتفض بهم أفئدة الصّحاري؟”
– صار الخفافيش سادة الخارطة…
وملوك الرومان هم خرافة الازمان…
ولو لا بــيـــزنطا ما وصل القمح الى الشَّرق..!
تلك تعاليم السيّد الجديد..تلتهمُ رأس ولدي…
تعاليم من يمحوك.. ويسرقُ مجدك…
بعد قليلٍ..سيضيعُ ولدي لون عيونه..
ستقسّمُ خبزة الحلوى..
سيأكــُلُ أطفالي ويفرحون …
وسآخذ نصيبي..من وجع الأخيلة..
بين يدي ذاكرة تضجُّ بالأسئلة..
ستُقسّمُ خبزة الحلوى..
ستمّحي في كلّ نبض مشارقُ الذّأكرة…
سَيَـنْسَى طفلي كلَّ رُسُومنا الفارطة..
ليعاد تشكيل الخارطة..
سُوف عبيد ـ تونس