لذلك فإن جميع هذه المعاني يمكن أن ترشح من هذا العنوان الدّال أيضا على الصباح بما يبعث من إشراق وجلاء واِنشراح ووضوح ومحو لظلام الليل وكلمة الصباح نقرؤها مبثوثة في كثير من الصفحات والقصائد بل نجدها في عنوان أكثر من ثلاثين قصيدة مثل ـ ضوء الصباح ـ مطر الصباح ـ مرآة الصباح ـ نبض الصباح ـ إيقاع الصباحات ـ أحبّ الصباح ـ الكتابة للصباح ـ إيقاع الصباحات ـ شهد الصباحات ـ كتاب الصباح ـ صباح بلادي ـ صباح الكرامة ـ صباح تونس ـ….
فالصباح يذكرنا إذا استعرضنا العناوين بقصيدة ـ الصباح الجديد ـ لأبي القاسم الشابي
والصباح يمثّل المحور الأهمّ كأنه قطب الرّحى أو العروة الوثقى التي تربط مختلف المعاني في القصائد أو كمثل القافية التي تعود إليها بقية الأبيات فالصباح هو الغرض الأصلي حسب القاموس النقدي القديم وهو التّيمة البارزة لدى النقاد المعاصرين
ــ 2 ــ
إن التكرار من سمات إيقاع الشّعر عامة وفي النثر أحيانا كالقرآن والمقامات وهو من خصائص بعض اللوحات في الفنّ التشكيلي والفسيفساء وفي المنمنمات النباتية والحروفية ونلاحظ ظاهرة التكرار كذلك في نقائش الجدران والخشب أما تكرار كلمة واحدة في عناوين القصائد وفي مختلف سياقاتها ومقاطعها فهذا لم أقرأه من قبل ولعل قصيدة الشاعر منوّر صمادح التي بعنوان ـ الكلمات ـ اِستثناء في هذا المجال فقد وردت جميعها على النحو التالي
عنــدما كنت صغيرا كنت أحبو الكلمات
كنت طفلا ألعب الحرف وألهو الكلمات
كنـــت أصـواتا بلا معنى وراء الكلمات
وتخطـــيت سنينــــا عثــرتهـــا الكلمات
أركض الأحلام والأوهـام خلـف الكلمات
ووراء الزمــن الهــارب أعــدو الكلمات
كـــل مــا أعرفــــه أني ظلمــت الكلمات
وسمعت الناس يصغون لصوت الكلمات
فتكلمـــت ولكـــن لـــم أفـــــدها الكلمات
إلخ….
هذا التكرار والترديد كأنه صدى إيقاعي لسورة الرحمان أو لقصيدة الحريّة لفدوى طوقان التي هي صدى لكلمة ـالحرية ـ التي تردّدت في قصيدة الشاعر الفرنسي ـ إلوار ـ ونجد هذا الترداد لعبارة ـ لم تأت ـ في قصيدة ـ المجزوم بلم ـ للشاعر محمد الحبيب الزناد ولقد وضّح ابن بسّام الشّنتريني الأندلسي هذا التصادي والتأثر بين مختلف الشعراء عندما قال ـ قد يقع الحافر على الحافر إذ الشعر ميدان والشعراء فرسان ـ
ــ 3 ــ
إن كلمة ـ الصباح ـ تتردّد في سياقات مختلفة في قصائد كوثر بلعابي كأنها تعبيرة هندسية واحدة متكرّرة في ألوان مختلفة وفي أحجام متنوعة مثل نمط الفن التشكيلي أو مثل الرسومات الهندسية في الزرابي وغيرها فالصباح ليس واحدا ولا متشابها لدى الشاعرة حيث تقول في الصباح عند الشروق
للشروق رحم واحد
ولكن لكل صباح
مذاقه الخاص
وحكايته الخاصة
وهي تقول في الصباح عند المطر
أعشق نقر المطر
حين يبهج صحوتي
عند الصباح بنبضه
ينعش سطح الرصيف والتّخوم
بنقاط وخطوط من رقوم
يوقظ سمعي بلحن
أحلى من عزف المطر
وقد تواتر ذكر المطر في عديد القصائد مثل قولها ـ عبق المطر ـ نقر المطر ـ خفق المطر ـ لون المطرـ دمع المطر ـ مما يؤكد الأثر الواضح للمطر في وجدان الشاعرة فتبدو العلاقة بين الشاعرة والصباح ذات وشائج جميمية ومذاقات مختلفة وكثيرة حيث تعبّر عن ذلك قائلة
يدغدغ هجعتها
وينادم قهوتها
على ترانيم فيروز
وحروف نزار قبّاني
وحينا آخر تتحدث عن المطر وعن نفسها بصيغة الغائب قائلة
تنتظر من الصباح
أن تظفر بوردة تليق بشعرها
وهي تنادم قهوتها
فكل صباح هو ولادة جديدة
تشهدها أناملها المثقلة
بالحبر
إذن أضحى الصباح يمثّل لدى الشاعرة ضربا من طقوس الكتابة مع القهوة التي اِحتفت بذكرها في عديد القصائد أيضا
ــ 4 ــ
واضح إذن أن الصباح هو أكثر الكلمات تردادا وتكرارا في سياقات متعددة ومتنوعة في قصائد الديوان فصار يمثّل سِمة أو ظاهرة إيقاعية واضحة بمختلف معانيها وأبعادها وثمة تكرار صيغة تركيبية أخرى ـ هي صيغة التمنّي ـ نلاحظها في بعض القصائد مثل ما ورد في قصيدة ـ فرحة الصباح ـ ص90 حيث تقول
ما ضرّ لو
حملنا عبء الموت قسرا
لو مع كل صباح
أرسلنا بسرعة
لو تحت رماد الحزن
نبشنا عن فرحة
ما ضر لو
ومثلما تردّدت صيغة الأمر في قصيدة ثناء جميل ص87 التي تقول فيها
لنكنْ مثل الصباح
بياضه يطوي ظلاما
لنكتبْ على صفحة يومنا
معنى أثيلا ولفظا جميلا
لنرسمْ على نجمة الوطن
عشقا وشوقا
كذلك نلاحظ تكرار جملة _ رغم كل هذا _ في قصيدة سيرة الحب ص67 حيث تقول
رغم كل هذا الجدب
أكتب سيرة الحب
رغم كل هذا الجدب
أكتب خفقة من روحي
رغم كل هذا الجدب
أكتب ثورة نشوى
رغم كل هذا الجدب
أكتب سيرة الحب
يبدو التكرار أيضا في قصيدة همزة وصل ص 64 عندما تتردّد لازمة ـ بيني وبينك ـ قائلةً
بين وبينك
حيرة
بين وبينك
أرض
بين وبينك
فجر
بين وبينك
حرف
ــ 5 ــ
إذا كان هذا الديوان قائما خاصة على تكرار وترداد بعض الكلمات والتعابير والصيغ بحيث أنها أضحت تمثل لازمة إيقاعية أو تقفية داخلية فإن بعض القصائد الأخرى كانت قائمة على تكثيف الصورة الشعرية التي تعتمد على العناصر الطبيعية مثل الصورة الشعرية الواردة في ص55
صباحاتك الشتاء الحالة
غلالة من سحر
يكتب ضبابها بلطف
أحلامنا
تلك الأماني الهائمة
وفي ص55 تواصل رسم هذه الصورة الشعرية قائلة
هذه الصباحات الغائمة
في قلبي ناصعة جميلة
أمشط غرتها بنغم فيروزي
أضفر حرير خصلها جديلة
والشاعرة عندما تفتح شجون الوطن تبدو يائسة محبطة منه لكنها سرعان ما تنعكس هذه الحالة في صورة ترمز إلى الأمل حيث تقول في قصيدة ضمادات ص38
لم يبق يا وطني
غير ميلاد الصباحات
عسى خيط من الشمس
يرتق شروخك
يسعفك بالضمادات
فتتحول الصورة الشعرية من اليأس إلى الأمل مع انبلاج الصباحات وهذا الأمل تراه الشاعرة كوثر بلعابي في سعي الأطفال والشباب إلى المدارس حيث تقول في قصيدة صباح بلادي ص39
لأني أحب صباح المدارس
تحث الخطة
نحو آت جميل
ــ 6 ــ
الشاعرة كوثر بلعابي جعلت من سندرلا التي ورد ذكرها في تراث الفراعنة والإغريق وانتشرت قصة حذائها في مختلف آداب العالم لكنها في هذه القصيدة تحولت إلى رمز جديد ينوء بحمل قضايا الوطن وأوجاعه في صبر من دون أن تنحني أو تتراجع أو يصيبها الإعياء في الالتزام برسالتها حيث تقول في قصيدة سندرلا ص28
تغفو على وجع
ومع ذلك تصحو موشوشة عشقها
الورد والريحان
لا يحبها حمل قضايا الوطن
الثقيلة
وتجعل في هذا السياق من الإلتزام بقضايا الوطن من _ جبل الشعانبي _ معلما تتغنى به في شموخ وطنها التونسي والقصيدة بعنوان _ صباح الشعانبي _ ص100 ومن المعلوم أن الشعانبي هو أعلى قمة جبلية في تونس وقد صار رمزا للتضحية والفداء في سنوات الجمر التي عاشتها البلاد بعد سنة 2011
ــ 7 ــ
إن ديوان ـ كوثر الصباح ـ بقدر ما يعبّر عن وجدان ذاتي بمختلف الأحاسيس فإنه يعبّر أيضا عن شعور الانتماء للوطن بما في قصائد الديوان من اِعتزاز ومعاناة بعيدا عن نبرة الحماس وجلد الذات وإنما ضمن نظرة تفاؤلية ترنو إلى شروق الصباح الجديد .
* سُوف عبيد