الأرشيفات الشهرية: مايو 2023

في مقهى المِرعِي

******** في مقهى المِرعي ********
هو مقهى صغير بل صغير جدا يعترضك وأنت صاعد أو نازل في نهج جامع الزيتونة بمدينة تونس العتيقة وفيه تتذوّق نكهة الشاي الأخضر بالنعناع أو فنجان قهوة بسكّر زائد أو بقليل السكّر… في هذا المقهى كنت أجلس وأنا تلميذ في الصادقية ثمّ وأنا تلميذ في معهد ابن شرف ثم وأنا طالب في كلية الأداب بالقصبة ….لي في هذا المقهى ذكريات لاتنسى حيث كنت أجلس فيه أيضا لنيل قسط من الراحة عندما كنت أحلس على مدى عشرات السنين للمطالعة والبحث في رحاب دار الكتب الوطنية التي كانت بسوق العطارين واليوم مررت بها عندما فاجأني المطر فقلت لا بأس من تناول كأس شاي أخضر مُنعنع فجلست حِذو شيخ جليل من زمان كنت أصادفه يسير الهُوينى في زيّه التونسي الأصيل من الشاشية الحمراء إلى لحفته البيضاء التي يتعمّم بها إلى جبته وبرنسه وبلغته وعكازه مع قفّته البيضاء فقلت هذه مصادفة ثمينة لأعرف هذا الشيخ وما كدت أستوي إلى جانبه حتى بادرني بالترحاب

وسُرعان ما جرى الحديث بيننا بسلاسة بعد أن أبديت له تقديري ومعرفتي له منذ سنوات عديدة وإعحابي باِلْتزامه بلباس زيّه التونسي الأصيل وإعجابي بمُحافظته على السّير حيث كنت ألقاه واثق الخُطى في كل الفصول مهما كان الطقس فبدا على أسارير وجهه السّرور والاِبتهاج وهذا ما شجّعني على الاِستزادة من حديثه فعرفت أنه جاوز التسعين وأنه من أهالي مدينة ـ كسرى ـ وسألني حينذاك ـ كالمُمتحن ـ عن موقعها وهل أعرفها ؟ فنزل سؤاله عليّ بردا وسلاما فقلت له ـ عجبا يا حاج من لا يعرف كسرى لا يعرف تونس ! ـ وكأني أردت تأكيد معرفتي إيّاها قلت له ـ يا حسرتاه على كسرى القديمة العالية حيث المدرسة الاِبتدائية التي تقع على يسار الطريق وأمامها يوجد منزل ـ عم عمّار العمايري رحمه الله ـ والد صديقي محمد على العمايري وهو من أعزّ أصدقائي وقد تذوّقت مرات عديدة تين سانيته اللذيذ …عندئذ هَشّ سي الحاج وبَشّ وقال أنا درست في تلك المدرسة التي تأسّست سنة 1926 وعائلة العمايري تنتمي إلى نفس العرش الذي أنتمي إليه ثمّ مضى سيدي الحاج يسرد مسيرته الدراسية التي بدأها بحفظ جزء كبير من القرآن الكريم ثم درس الاِبتدائي في تلك المدرسة غير أن اِمتحان الشهادة الاِبتدائية أجراه في مدينة الكاف ثمّ اِلتحق بالعاصمة لمواصلة تعليمه الثانوي وبعد تخرّجه من مدرسة ترشيح المعلّمين قضّى سنوات في التدريس ثم اِلتحق للعمل بإدارة سكّة الحديد فشيخنا إذن متقاعد منذ أكثر من ثلاثين سنة وعرف في مختلف أطوار حياته أغلب جهات البلاد بمُدنها وقُراها فيحدّثك عنها مدينة مدينة وقرية وقرية حتى عن مختلف خصائص أهلها في العادات والتقاليد ناهيك عمّا تمتاز به تاريخيا وجغرافيا بما في ذلك النواحي الاقتصادية والعمرانية بالإضافة إلى أهم طبائع أهلها

إن الجلوس إلى هذا الشيخ ـ مَتّعه الله بالصحة والعافية وطول العمر ـ مُتعة وإفادة فهو كتاب تونسي مفتوح عندما تُنصت إليه ساعة من الزمن خير من الجلوس إلى بعض أدعياء الأدب والثقافة وهم يخوضون في أمور الجوائز والتكريمات والدّعوات…
** إضافة
قرأ صديقي الأستاذ محسن العوني هذا النص فأرسل لي تعليقه مشكورا :
شكرا عزيزي الأستاذ سوف ..مقالك ممتاز و مداد قلمك صدق وأصالة واحتفاء بهما وابتعاد عن الافتعال والتصنّع .. هذا الشيخ الجليل صديقي وهو من سكّان الزهراء واسمه الحبيب خلف الله وأعرف أولاده (أحدهم معلّم واسمه شوقي)..وتلك طريقته في الحديث سؤال واختبار و وسبر للأغوار ونباهة.. فإذا وجد محاورا مميزا مثلك لم يتردد في فتح مغارة علي بابا ..ذكريات ومواقف وخبرات و..و..كنت أجالسه ذات صباح في مقهى آدم المقابل للعمارة التي بناها أولاده عمارة خلف الله ولاحظ قطرة عرق تنحدر من جبيني في ذلك الصباح الربيعيّ الحار فما كان منه الا أن أمسك طرف حرامه الأبيض النظيف وطفق يمسج جبيني في حركة عفوية طافحة بسخاء الروح ..أراك تُحسن انتقاء أصدقائك وأرانا نملك أصدقاء مشتركين من غير أن ندرك لأن مقاييسنا في اختيارهم واحدة : الأصالة والصدق .

معارضة شكر

اليوم ـ يوم الأربعاء 3 ماي 2023 ـ  وقبل أن أدلف إلى بيتي قابلني كتاب في صندوق البريد فإذا هو آخر ما أصدر صديقي الشاعر الأستاذ عبد الرحمان الكبلوطي كتاب بهي في طبعة جميلة أنيقة بعنوان – من شعراء القيروان على مر الزمان – وعندما فتحت الصفحة الأولى وجدت إهداء باذخا حقا دبجه في الأبيات التالي

حيثما كنت بخضرائي أطوفُ
طالعتني ذكرياتي مع سُوفُ
فأنا كنت ومازلت وأبقى
بصديق العمر والله شغوفُ
ولهذا كلما أكتب شعرا
نحوه يسعى كلامي والحروفُ

إن مثل هذه المبادرة تؤكد لي وفي هذه الظروف الثقافية الصعبة التي نمر بها __ أن الصداقة والوفاء والمحبة _ قيم ما تزال موجودة …لذلك لابد أن لا نيأس ولابد أن نواصل رغم كل التحديات
شكرا جزيلا صديقي الشاعر والأديب الأستاذ عبد الرحمان الكبلوطي

يَــا صـديقي أنـتَ خِـلٌّ ورَؤُوفُ

وهَــدِيّـاتُــك مِـنهُـنّ الــرُّفـوفُ

فَــدَواويـنُــكَ بَـــاقــــاتُ وُرُود

رُبَّ وَرْدِ مِنهُ كمْ فَاحَتْ حُـرُوفُ

أنـتَ غَـوّاصُ لَآلِيـهَا الـقَوافِــي

يا زَمانًـا مُـلِئتْ زَيْـفًـا كُــفُـوفُ

* تونس 3 ـ 5 ـ 2023