ـ عين دراهم ـ من الاِخضرار إلى الدّمار
ـ 1 ـ
تونس خضراء
وخضراء بالتمام والكمال وفي كل ناحية خاصة في شمالها الغربيّ عند مناطق ـ فرنانة ـ وبني مطير ـ وعين دراهم ـ وحمام بورقيبة ـ وطبرقة ـ وما جاور تلك النواحي حيث الاِخضرار ينعش روح الزّائر والمياه الرقراقة المتجمّعة في السّدود تبعث الحياة في كثير من نواحي البلاد شُرْبًا وسَقْيا إنها ربوع فيحاء وهبتها الطبيعة الكثير من جمالها وبهائها في كل الفصول أجيئها مشتاقا كلما سنحت الفرصة لأعود منها وقد اِنتشيت ببهجة مناظرها وطيبة أهلها… نعم جذلان نشوان منها أعود
ـ عين دراهم ـ هذه المدينة الصغيرة الراسية بين شاهق الجبال والتي تقول الحكاية عن اِسمها إن المدينة تسمّت باِسم عين ماء كانت لاِمرأة تسُمّى دراهم وعندما دخلت الجيوش الفرنسية المنطقة سنة 1881 من الحدود الجزائرية واجهها أهالي هذه المنطقة بما توفّر لهم من عتاد بسيط فاِستبسلوا وأبلوا بلاء حسنا في الذود عن موطنهم لذلك اِستقرّت حامية عسكرية فرنسية في عين دراهم لتفرض وجودها بالحديد والنّار فأهالي هذه المنطقة جميعهم يعودون إلى فروع قبيلة خمير المعروفة بشدّة بأسها
ـ 2 ـ
ما كدت أمضي في طريق ـ فرنانة ـ نحو ـ عين دراهم ـ حتى فاجأتني الأشجار المحترقة واقفة في حقول الرّماد فلا أغصان ولا أوراق وارفة ولا ذاك الشّذى المنعش الذي كان دائما يستقبلني وأنا أتوغّل في الطريق العالية الملتويه التي تشق الجبال والشّعاب والوهاد بل صدمتني هذه المرة رائحة الحرائق التي أتت على أجزاء كبيرة من الغابة فلا عزاء لصنوبرها ولسنديانها وفلّينها وزانها ولغيرها من الأنواع التي لا تُحصى ولا تُعدّ من الأشجار المثمرة ولا عزاء لطيورها وفراشاتها ونحلها ولا عزاء لإكليلها وزعترها وزهورها وحشائشها ونباتاتها الكثيرة المتنوّعة التي لا يعرف أسماءها وخصائصها ومنافعها إلا أهلها
غمرني الحزن أكثر عندما لاحظت الإهمال الواضح لكثير من معالم عين دراهم الجميلة بدروبها ومنتزهاتها وبناياتها الخاصة ذات القرميد الأحمرحيث لاحظت مثلا ان أغلب المقاعد التي على الطريق مهشّمة وأن العيون الجارية بدون صيانة حيث تتكدّس بالقرب منها قوارير البلاستيك وغيرها فوا أسفي على عين دراهم التي عرفتها إذ صارت أثرا بعد عين فكم من بناية كانت عامرة وأصبحت خرابا في شارعها الرّئيسي وكم من درب كان السير فيه رفرفة مع الحمائم والبلابل فإذا به أمسى مليئا بالأشواك والمزابل !
ـ 3 ـ
من عادتي أنني كلما أزور مدينة أذهب إلى مكتبتها العمومية….شكرا أثيلا لمديرة مكتبة مدينة ـ طبرقة ـ التي اِستقبلتني بحفاوة وهي محفوفة بزملائها المتحمّسين للعمل الثقافي وكم اِبتهجت عندما وجدت بالمكتبة بعضا من دواويني و قد لاحظت ـ والحمد لله ـ أنها في حالة غير حسنة بسبب كثرة تداولها بين القرّاء الذين يجدون في رحاب هذه المكتبة ـ بالإضافة إلى رصيدها الكبير من الكتب ـ نوادي للتنشيط الثقافي ويستضيفون كلما سمحت الظروف الأدباء التونسيين والجزائريين بمناسبة ملتقى خاص يُقام دوريا فما أروع مثل هذه المكتبة !
في طريق العودة عُجتُ على قرية ـ بني مطير ـ الجميلة والتي تطلّ على السّد فإذا بي أرى مخزونه المائي يكاد يلامس القاع فماذا ينتظر تونس أيضا إذا لم يكن الخريف ممطرا…
ـ 4 ـ
كان بالإمكان أن تكون مناطق الشمال الغربي في تونس جنّة على وجه الأرض لو أننا عرفنا كيف نستثمر خيرات غاباتها الثريّة و نقوم باِستغلالها أحسن اِستغلال في مجالات الفلاحة والصناعات التحويلية وفي السياحة الداخلية والعالمية صيفا وشتاء وعلى مدى بقية السنة ذلك أن منطقة عين دراهم كانت في سنوات قبل الحرب العالمية الثانية تشتمل على أكثر من ثلاثين فضاء سياحيا ولكننا مع الأسف لم نحسن تطوير ما خلّفه لنا المستعمر الفرنسي من معالم ولم نحافظ عليها بل دمّرناها تدميرا كأن الوندال وبني هلال مرّوا على تونس مرّة أخرى…!
فما ظلمَ تونس إلا أبناؤها
وبأيديهم خرابها…
ما أتعس المرء يصيبه الإحباط فيشعر بخيبة الأمل عندما يكون في المكان الخطأ والزمان الخطأ…