بالإضافة إلى هذه المسيرة الشعريّة الحافلة التي سنعود لها فإنّ سوف عبيد مهتمّ بالنّقد وبالكتابة والتأليف فيه دليلا على أنّه لا يكتب من عدم بل لكتاباته الشعرية أصول نظرية وخلفيات نقدية تجعل من إبداعه عملا واعيا ينخرط في مشروع ابداعي له توجّهاته وأهدافه.
وقد أصدر في هذا المجال أعمالا: مثل حركات الشعر الجديد بتونس سنة 2008 في سلسلة “كتاب الحريّة” وصفحات من كتاب الوجود، القصائد النثريّة للشابي سنة 2009 وعالج فيهما قضايا نظرية وتعرّض إلى مختلف المدارس والتوجهات التي عرفها الشّعر التونسي المعاصر. إلاّ أن نظرة سوف عبيد للعمل الثقافي ولدور المثقف أو المبدع لا تقف عند حدود الكتابة نقدية كانت أو شعريّة بل تتجاوزه لتنيط بعهدة المثقف دورا توعويّا وتربويّا يجعل منه مثقفا عضويّا فاعلا في المجتمع يؤمن بدوره التثقيفي والحضاري. ولعلّ إطلالة سريعة على سيرته الذاتية تبرز لنا مدى هذا الايمان بدور المبدع في المشاركة في الفعل الثقافي والدّور الحضاري في تقدم البلدان وازدهار الشعوب ورقيّها.
سوف عبيد أو سوف الجين عبيد ومعناه بالأمازيغية “النهر الكبير” من مواليد غمراسن سنة 1952 تخرّج من كلية الآداب بتونس بشهادة الأستاذية في اللغة والآداب العربية سنة 1976 وبشهادة الكفاءة في البحث حول تفسير ابن عرفة. بدأ النشر منذ عام 1970 في الجرائد والمجلاّت شعرا ونقدا إذ كان له أركان قارّة في عدّة صحف مثل “الصّدى” والملحق الثقافي لجريدة الحريّة شارك في عديد النوادي والنّدوات الثقافية بتونس وبخارجها وهو من مؤسّسي نادي “الشعر” بدار الثقافة ابن خلدون بتونس سنة 1974. انضمّ إلى اتحاد الكتاب التونسيين سنة 2000. أسّس منتدى أدب التّلاميذ سنة 1990 الذي تواصل سنويا في كامل أنحاء البلاد لمدّة عشرين عاما. ونظّم الملتقى الأوّل والثاني لأدباء الانترنت بتونس سنتي 2009 و2010 وشغل منصب رئيس جمعية ابن عرفة الثقافية 2013-2014 وأسّس مؤخّرا جمعيّة مهرجان الياسمين الثقافي برادس سنة 2018.
إنّها حياة مليئة بالعمل الثقافي الدّؤوب سخّرها صاحبها لخدمة الأدب وللنهوض بالثقافة إيمانا راسخا منه بدور الثقافة في الخروج من التخلّف والالتحاق بمصاف الدّول المتقدّمة.
وما زالت إصدارات سوف عبيد تتالى لتشهد هذه السنة أي 2019 صدور كتاب جديد عن دار الاتحاد عنوانه الضفّة الثالثة “قبسات من الشعر التونسي والعربي” ورغم هذا العنوان فإنّ حظّ الشعر العربي في هذا الكتاب لا يتجاوز الثلاث مقالات في حين خصص 47 فصلا للشعر التونسي وهو ومجموعة من المقالات والمقاربات والشهادات والذكريات تتعلّق كلّها بالشعر التونسي عبر العصور منذ الحصري الفهري القيرواني الضرير مرورا بالشابي ومصطفى خريف وانتهاء بشعر مجابليه أو من خلفوهم في حقول الإبداع الشعري وهو رغم اختلاف وسائل التطرّق إلى المواضيع التي حواها يحتفي بالشعر التونسي عموما ويدعو إلى الاهتمام بكتابات الشعراء التونسيين المعاصرين الذين كثيرا ما أهملهم النقد الجامعي وحتّى الكلاسيكي والانطباعي.
من بين مقالات الكتاب التي لفتت اهتمامي المقال التاسع الذي عنوانه “المعارضة من خلال الموافقة والمخالفة من خلال قصيد “يا ليل الصبّ” للحصري تعرّض فيه إلى موضوع المعارضات الشعريّة لكثير من القصائد العربية الكبرى والشهيرة. وقد اعتمدت دراسته على كتاب المرحومين محمّد المرزوقي والجيلاني بالحاج يحيى الذي عنوانه “يا ليل الصبّ مائة معارضة ومعارضة” وقد قدّم الدّارس عدّة نماذج من المعارضات قديما وحديثا أشهرها إطلاقا معارضة أمير الشعراء أحمد شوقي التي مطلعها:
مضناك جفاه مرقده وبكاه ورحّم عـــــــوّده
وكذلك معارضتا الشابي وخاصّة مصطفى خريف في قصيد طالعه:
العهد هلّم نجـــــــــــــــــدّده فالدّهر قد انبسطت يده
وتعرّض إلى ما يقارب العشرين معارضة بالدّرس إلاّ أنّه لم يذكر أنّه هو أي سوف عبيد كتب معارضة صدرت في ديوانه “حارق البحر عنوانها “عروس البحر” وما منعه من ذلك هو حياؤه وتعفّفه عن الحديث عن نفسه وعن قصيده الذي نعتبره من أجمل المعارضات وأنجحها لما تضمّنه من طرافة فنية ووسائل تصوير وتخييل مبتكرة رغم ارتباطها بكثير من استعمالات الشعر العربي القديم:
إن ساد الليل وأسوده لابدّ الشمس تبــــــدّده
وتنير الكون أشعتـــــــــها ويجيء الفجر يجـــــدّده
وهذه المعارضة رغم بنائها الشعري العمودي قصّة بأتمّ معنى الكلمة تتوفّر فيها كلّ مقومات القصّة وشروطها من إطار زماني وهو الفجر الذي بدّده ظلام الليل وإطار مكاني وهو أرض على شاطئ البحر تملؤها لوحات من آيات الحسن والجمال الطبيعي وشخصيات محورية هي عروس البحر والصّياد والبحر وشخصيات ثانوية تجسّدت في عديد من قوى الطبيعة الحيوانية والنباتية: اثنان من الطّير – الشجر – الثمر – النخل – بساط العشب – البيد – يمام الأيك – جلمود الصّخر…
ثمّ إنّ الحوار الذي دار بين مختلف هذه الشخصيات والذي أضفى على النص حركيّة كبيرة فٱتسمت مختلف أقسامه بالحيويّة وامتلأت أرجاؤه بأصوات متعدّدة ومتنوّعة زيادة على الأحاديث المتبادلة مثل شدو الطير وهدهدة الأمواج وصياح عروس البحر وهبوب الرّياح وجري بساط العشب وتغريد اليمام وبكاء الورد…
وكذلك نلاحظ تسلسل الأحداث وتعاقبها في نسق تصاعدي في اتجاه المفاجأة قبل أن تنفجر في نهاية مأساويّة يتبخّر فيها الحلم وتتلاشى مكوّناته وتندثر صوره.
وقد تفنّن الشّاعر في بناء هذه القصّة الشعريّة إلا أنّه تفنّن خصوصا في الوصف فكان النص مجموعة من اللوحات الفنية بل معرضا استعمل لرسمها فنيات كثيرة استعارها من الرسامين مثل تعدّد الألوان التي خلطها دون أن يجعلها تتنافر أو تصدم الذوق وقد طغا عليها الأخضر والأزرق واستخدم كذلك تقنية الضّياء والظّلال من خلال تقابل الليل الحالك وضياء الفجر الساطع المنبثق من أشعّة الشمس النيّرة ومزج تلك التقنيات التشكيلية بعديد من المحسنات البلاغية وفنيات البديع والبيان من تشابيه واستعارات وغيرها ممّا ٱختزن في ذاته الشعريّة من موروث بلاغي ولغوي وأدبي مكّن الشعر العربي من تجسيد أبدع نصوصه متصرّفا في كلّ ذلك تصرّفا شخصيا ينبع من تصوّراته الذاتية المندلعة من شخصيته الشعريّة وإحساسه الفني ومفهومه لجمالية الإبداع.
ومن ذلك ما فعله من البيت الثالث إلى البيت الثامن إذ أنّه بعد استهلال يذكّرنا ببعض الاستهلالات الشابيّة في البيتين الأوّلين يشرع في رسم لوحة تمثل الاطار المكاني الذي ستنطلق فيه الأحداث وفي هذه الأبيات الخمسة نراه بكثير من الاقتدار الفنّي واللّغوي يتجاوز وحدة البيت الشعري التقليدي ويجعل منها كتلة لا تتجزّأ فإذا بعجز البيت الأوّل ينصهر في صدر البيت الموالي وهكذا دواليك من خلال ترابطات نحوية تجعل فاعل الجملة في البيت الأوّل أو مفعولها بأنواعه أو تمييزها يُبتدأ به البيت الموالي فتنهدم استقلالية الأبيات عن بعضها البعض ولا يمكن للقارئ أن يتوقف عند نهاية كلّ واحد منها بل نراه محمولا على مواصلة القراءة ليتوقّف في غير المكان الذي تعوّد على التوقف عنده ويكون تنقّله في القصيدة غير الذي عوّدته على منواله القصائد العموديّة. وهذا يدلّ على أنّ الشاعر ليس مجرّد معارض ممتثل للتعامل السّائد مع الشعر العمودي بل هو يتصرّف داخل ذلك الفضاء المسطّر بتحرّر مقتدر على إعادة ترتيب مكوّناته وعلى إعادة تركيب جزئيّاته.
فتَرى الأَرْضَ وَقَدْ لاَحَتْ حُسْــــــــــنًا بِالنُّورِ تُنَضِّدُهُ
فِي لَوْحَــــــــــاتٍ هِيَ آيَــــــــاتٌ إِبْــــــــــــدَاعُ اللِّهِ تُمجِّـــــــدُهُ
بِلِسَانِ الطّيْرِ شَدَا سَحَـــــــــــــــرًا سِرْبًا سِرْبًا يَتَهَجِّدُهُ
نَغَمًا وَكَهَمْسِ الْبَحْرِ سَجَا مَا أَرْوَعَ مَوْجًا هَدْهَدَهُ
حُلْمُ الأشواقِ وَقَدْ سَرَحَتْ كَمْ بَاتَ اللّيلُ يُقَيِّدُهُ
وتعقب هذه اللوحة في رسم المنظر الطبيعي لوحة أخرى في رسم بورتريه عروس البحر ذات الوجه السّاحر والثغر الباسم والشعر الطويل والنظرات الآسرة. ولا يمكن هنا ونحن نرمق عروس البحر تخرج إلى الشاطئ في تلك الطبيعة الخلاّبة ألاّ نتذكّر “حورية الموج” وهي تنبثق من المياه البحرية في قصيدة من روائع الشعر التونسي لسيدي مصطفى خريف:
شفّ صدر البحر عن سرّ الجلال
وطفقـــــــــــــــــــــت فيــــــــــــــه الــــــــــــــــــلآلي
فوق موج فاض من سحر الجمال
فـــــــــاق تصــــــــــــــــــــــــوير الخيـــــــــــــــــــال
وإن كان مصطفى خريف قد احتضن حوريّة موجه واعتنقها فإنّ سوف عبيد قد تزوّجها بشهادة ٱثنين من الطّير وغمرها بالصّيد الوفير مهرا لها وعاش معها أحلى حلم.
ولم يلبث ذلك الحلم أن تبدّد ولفّته غيوم حالكة وعاد الشاعر يبكي وحدته وتمتلئ نفسه بالأصداء الشعرية بعد أن ٱمتلأت بالأصداف البارقة دليلا على أنّ حلم الشعراء يكمن في بحثهم عن الحلم وقَدَرِهم في مطاردة الأطياف البارقة واصطياد الصّور الشعريّة واللوحات البديعة والخيالات المجنّحة وسعادتهم الحقيقية أو شقاؤهم يتمثلان في بناء عوالهم الشعرية. وعرائس بحرهم وحوريّات موجهم لسن في نهاية الأمر سوى قصائدهم التي نذروا العمر عشقا لها وأنفقوا الدّهر تفانيا في حبّها والاتّحاد بها.
ورغم قدوم الشاعر من القصيدة النثرية وهو أحد أقطابها والمنظرين لها في تونس وعودته على أعقاب الكتابة الشعرية قاطعا مسافة طويلة ليعود إلى القصيدة العمودية فإنّه نجح في إنشاء نصوص شعريّة قيّمة وذات نفس شعري طويل فيها من الجوانب الإبداعية الشيء الكثير. ولم يكن مجرّد ناظم مقلّد بل كان داخل ذلك الإطار مبتكرا ومبتدعا لعدّة ٱستعمالات فنية ولعلّ اختياره لمعارضة أشهر القصائد وأخطرها رهان رفعه وتحدّ وضعه لنفسه ولقدرته على الكتابة والتجريب في مختلف الأنماط الكتابية عموما والشعريّة خصوصا فجاءت هذه القصيدة وغيرها طريفة نابضة بالحركة ومتدفّقة بالمعاني وجيّاشة بالصّور.
وربّما قد يعتبر بعضهم أوبته إلى القصيد العمودي ردّة وتعليقنا هو إن كانت نتائج الردّة إبداع قصائد فائقة الصّنعة والجمال فمرحى بالردّة وبجميع المرتدّين ولئن انتهى بعض الشعراء الثائرين على القصيد العمودي شعراء كلاسيكيين فإنّ النمطين الشعريين بقيا يتعايشان دون تنافر في قريحة سوف الإبداعية وعن هذا الموضوع يقول في كتابه “حركات الشعر الجديد بتونس” ص122: “التاريخ الإنساني أكبر وأشمل من كلّ النظريات وبالتالي فإنّ الشّعر عندي أوسع من العروض والبحور وأشمل من البلاغة والبيان وحتّى اللغة قد تضيق به أحيانا… فلا عجب إن كتبت في السنوات الأخيرة بعض الأشعار العمودية ربّما بسبب الحنين إلى الجذور أو بحثا عن طرافة القديم في خضمّ الجديد. لِمَ لا والشعر عندي لا يُحَدّ بأشكال ولا يعدّ بأنواع”…
سوف الجين أو النهر الكبير اسم شعريّ خالص فيه نبوءة تحقّقت فكان سوف نهرا كبيرا من الإبداع بل بحرا طاميا وزاخرا بالكتابة الأدبية الشعريّة وكانت أعماله تدفقّا عارما من الفعل والإنتاج الثقافيين يجتاح صحاري الجهل والواقع الرديء فتزهر بالقصائد وتونع وتثمر كتبا ودواوين وبحوثا أدبية.
حمام الأنف
25-26 نوفمبر 2019