رأى ما لا يُرى
سُوف عبيد
مداخل لقراءة سُوف عبيد
عبد المجيد يوسف
سُوف عبيد من روّاد قصيدة النثر في تونس بل من المؤسّسين ، وإليه كما لرفاقه يرجع الفضل في هذا سواء بالتنظير أم بالمُمارسة والإنتاج وفرض هذا النمط من الكتابة على ذائقة تعوّدت الإيقاع الجرْسي، بل جعلته واحدا من مقوّمات الشّعر .
تخرّج شاعرنا المحتفى به من كلية اﻵداب بتونس بشهادة ـ أستاذية الآداب العربية ـ ثمّ في سنة 1976 بشهادة ـ الكفاءة للبحث ـ حول ـ تفسير الإمام اِبن عَرْفَة ـ سنة 1979 …ونشر إنتاجه شرقا وغربا في الصحف والملاحق الأدبية وشارك في النّوادي والنّدوات الثقافية بتونس وخارجها وهو من مؤسسي نادي الشّعر بدار الثقافة “اِبن خلدون” بتونس سنة 1974 واِنضمّ إلى اِتحاد الكتاب التونسيّين سنة 1980 واُنْتُخِبَ في هيئته المديرة في دورة سنة 1990 أمينا عاما ثم في دورة سنة 2000 نائب رئيس فساهم في تنظيم مؤتمر اتحاد الأدباء العرب ومهرجان الشّعر العربي بتونس سنة 1991 وفي إصدار مجلّته ـ المسار ـ وفي تأسيس فروعه وفي تنظيم الندوات والمهرجانات الأدبية وشارك في الهيئة الاِستشارية لمجلة الحياة الثقافية في فترات مختلفة وأسّس منتدى أدب التلاميذ سنة 1990 الذي تواصل سنويا في كامل أنحاء البلاد إلى سنة 2010 ونظّم الملتقى الأوّل ثم الثاني لأدباء الأنترنت بتونس سنتي 2009 و 2010 وترأس جمعية ـ اِبن عرفة الثقافية ـ سنة 2013
صدر له
ـ الأرض عطشى ـ 1980
ـ نوّارة الملح ـ 1984
ـ اِمرأة الفُسيفساء ـ 1985
ـ صديد الروح ـ 1989
ـ جناح خارج السرب ـ 1991
ـ نبعٌ واحد لضفاف شتّى ـ 1999
ـ عُمر واحد لا يكفي ـ 2004
ـ حارقُ البحر ـ نشر إلكتروني عن دار إنانا ـ 2008
ثم صدر عن دار الثقافية بتونس ـ 2013
ـ الجازية ـ بترجمة حمادي بالحاج ـ 2008
ـ ألوان على كلمات ـ بلوحات عثمان بَبّة وترجمته ـ طبعة خاصة ـ 2008
ـ حركات الشّعر الجديد بتونس ـ 2008
ـ صفحات من كتاب الوجود ـ القصائد النثرية للشّابي ـ2009
ـ الضفة الثالثة ـ قراءات في الشعر التونسي والعربي ـ 2017
ـ كأنه الآن وهنا ـ شذرات من سيرة ذاتية 2022
ـ المعراج والخيول ـ قصائد مع عبد المجيد يوسف ـ 2020
نظرة سريعة على بعض مجاميعه الشّعرية
الأرض عطشى
هي من المجاميع المبكرة التي صدرت في نظام القصيد النثري. مواضيعها تبدو متنافرة أشد التنافر فهي بين المضامين اللصيقة بالواقع ذات التوجه الاشتراكي كالحديث عن الطبقات الفقيرة (الجوع) والإشادة بالحرية مطلبا إنسانيا أو المواضيع الغنائية المتعلقة بالطبيعة والحنين إلى الوطن والحب والتصوف.
امرأة الفسيفساء
تتركز مضامين هذه المجموعة حول أحوال الكائن وتقلباته في المَوْجِدِ وعلاقاته بحيثيات الوجود وهي صنفان: اجتماعية كالمواقف إزاء المرافقين والمتقاسمين الفضاء كالزوجة والابن والجار ورفيق القطار والعمارة والمحطة … أو طبيعية كالصحراء والبحر والنخلة والغزالة…. ولم تخل هذه المجموعة من اهتمام بالسياسة خاصة وقد صدرت في فترة ساخنة من حيث التحرّكات الاجتماعية وضجر الشعب من نظام سياسي مهترئ.
نوّارة الملح
قد يمكن القول إن هذه المجموعة دلّت على منحى آخر غير ما اتبع في المجموعتين السابقتين حيث توجه الخطاب نحو رمزية أكثر إحكاما وانحرفت عن الخطاب المباشر الذي لمسناه في المجموعتين السابقتين، وإن لم يكن هناك اختلاف كبير في المضامين مما قد يفسر ببطء التحولات التاريخية في المسار السوسيو– ثقافي وبطء التحول الاجتماعي في ظل نظام سياسي بدأ يأخذ طريقه إلى الانحلال… خاصة وقد صدرت بعد المجموعة “امرأة الفسيفساء” بسنة واحدة. ومما ظل مشتركا طبيعةُ الجملة الشّعرية، فقد ظلت قصيرة بلا امتدادات ولا تفرعات، تختزل الحالة الشّعرية وتقتصر في التصوير على الملمح السريع البسيط الخالي من التركيب.
صديد الروح
لعلّ هذه المجموعة التي حَظِيتُ بترجمتها إلى الفرنسيّة هي التي صادفت هوى في نفسي أكثر من مثيلاتها لما مثّلته من نضج أدبيّ واستمالة للقارئ بمقروئيّتها العالية وما فيها من توجه فاق المجاميع السابقة نحو المضمون الأنطولوجي المُحمّل بتجربة إنسانيّة عميقة ولما فيها من حسن التّصوير واستقصاء للحالة البشريّة المتفرّدة التي تظهر مثل التماعة خاطفة ثم تختفي أبدا.
جناح خارج السرب
تتميز هذه المجموعة في نظري بثلاث ميزات إحداهما شكلية واثنتان متعلقتان بمضامين الكتابة. أما الأولى فهي التواتر النسبي للأشكال الوجيزة ذات الموضوع المفرد المختزل الكثيف والصورة المفردة البسيطة. والشكل الوجيز قول قريب من الصمت، كأنه قول مستعجل يلقى إلى قارئ مُتدبّر، شبيه بأقوال الحكماء والكهنة، وأما الخصيصتان الأخريان فهما حضور تيمة الحكمة والقول الرصبن متجانسا مع الشكل الوجيز، يصوغ حقيقة ما من رواسب التجربة الطويلة، والتيمة الثانية هي تيمة الموت تصريحا ورمزا ويمكن أن يحتوي هذا الملف تيمة جزئية أخرى هي اختزال الحياة وتلخيص التجربة ( الزيارة، السمكة، برقية، حصان الطين…)
نبع واحد لضفاف شتى
صدر هذا الديوان كما ذكرنا سنة 1999 وبه اثنتان وعشرون قصيدة صنفناها حسب المحاور الدلالية التالية :
–التذكر واستحضار الماضي والحنين إليه ونقده: (أربع قصائ)
–الخرافات المحولة من سياقها إلى سياق فكري حديث: (قصيدتان)
–الغنائية: وفيها التغني بالوطن والموطن والحبيبة… (سبع قصائد)
–اقتناص اللحظة المكتنزة ذات المشهد البليغ المتوتر مثل رؤية زهرة على سكة القطار حيث نجد ست قصائد في هذا الباب.
–التأمل في زمانية الكائن وعبوره الموجز بدرب الوجود (أربع قصائد)
ويجوز لنا الجمع تحت عنوان واحد بين محور اقتناص اللحظة المكتنزة الموتورة وبين التّأمّل في زمنيّة الكائن في علاقته بالموجودات وبأحوال الوجود، ثم إذا اضفنا إلى كل ذلك نصوص التذكار والحنين صار التأمّل في زمنيّة الكائن هو السّمة الدّلالية الغالبة على هذا الدّيوان.
ملاحظة خاتمة
لعلّ ما يميّز سوف عبيد في كتابته قصيدة النّثر هو البساطة في الخطاب وبساطة المعجم وقصر الجملة وقرب التخييل رغم أنّ نصوصه لا تخلو من تعميق للتّيمات المتناولة وتضمينات وإحالات ورموز وأقنعة يتوسّل بها في بلوغ مأرب الدّلالة. ولعلّ مجاميعه الأخيرة أصبحت أميل إلى مضمونيْ الحكمة النّاتجة عن تراكم التّجاريب الوجودية ووفرة حصاد السّنين والحنين إلى وقائع الماضي وأحواله وفضاءاته.
عبد المجيد يوسف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــ لوحةُ الكتف ـــــــ
أمّي التي لم تقرأ
ولم تَكتُبْ أبدًا
أفصحُ منّي
تُسَمّي يومَ الأربعاء
– إرْبِحَاء –
مرّةً قلتُ لها
قُولي ـ أَرْبَعاء ـ
قالت
إربِِحَاء…إربِحَاء
إنّه يومُ الرّبح
رَحماكِ يا أمّي
*
كلَّ عام
فِي يَوم ثالثِ عِيدِ أَضْحَي
تأخُذ أمّي لَوحةَ كَتِفِ الشّاةِ الأيْمن
تُقلّبُها…تُمرّرُ عليها أناملَها وكفَّها
تَتأمّل خُطوطَها…تَتَملّاها
كأنّها تَتهجّاها
*
تَصمُتُ بُرهةً
ثمّ تبتسِمُ وتقُول
ثمّةَ في العام المُقبِل ـ إن شاء اللّه ـ
الخيرُ والبَركةُ
وسنَفرحُ مرّتين
أو ثلاثا
رُبّما بكذا أو كذا
وتَصْدُقُ نُبوءاتُ أمّي
*
آخرُ سَنةٍ
السّنةُ التي فيها أمّي رَحلت
رأيتُ وَجهَها مُكْفَهَِرًّا
كمَا لمْ أرهُ مِنْ قبلُ
لم تَبتسمْ ولمْ تَتكلّم
اِنشَغلنا نحنُ بالشّواء
*
اليومَ
اليومَ فقطْ
بعدمَا مَرّتْ سَنواتٌ …سنوات
من العُمر فَاتَ مَا فاتَ
تذكّرتُ
رأيتُ آنذاك تَجْويفَةً
رأيتُها ولم أدْرِ
أمِّي رأتْها
تَجْويفَةَ القَبْر
ـــــ كلامُ العُيون ـــــــ
رحمَ اللّه جدّي
كان لا يقرأ ولا يكتب
ويُصلّي بالفاتحةِ ـ بقراءته ـ
جَهرًا
وبما تيسّر من القرأن سِرًّا
لم تكن لجدّي ساعةٌ
غيرَ أنّه كان يعرفُ وقتَ السَّحور
بالنّجوم
ويُقرّر صلاةَ الظّهر والعَصر
بظلّ الجدار أو النّخلةِ
النّخلةُ التي إذا تحرّك جريدُها
يعرفُ حالَ الطّقس مِنْ غَدٍ
وإذا مرّ السّحابُ على حُوشِنا
يرنُو إلى الآفاق
فيعرفُ أينَ ينزلُ المطرُ
و من أخبار جدّي
أنّه إذا سكتَ
ثمّ نظر هُنا أو هناك
وحدَها
جدّتي كانت تفهمُ
ما يقول…
ــــــــ الدّنيا ـــــــ
كانتِ السّماءُ
بِشَمسِها وقَمَرها
ليستْ أعلى مِنْ شَجرةِ تِينٍ أَوْ تُفّاح
أوْ داليةٍ
نقطفُ منها حتّى النّجوم
*
العُيونُ والسّواقي كانت رَقراقةً
زُلالاً
نَسقي في أكفّنا منها العصافير
تُرفرفُ حولنَا
ثمّ تَحُطّ قُربَنا في سُرور وحُبور
*
كان جميعُ النّاس أطفالا
يَعرف بعضُهم بعضًا
حتّى إذا ما تَشاجرُوا
تَشاجروا على كُرة قَشّ
أو دُميةِ خَشبٍ
*
عاش النّاسُ أطفالا
لا تَتجاوز أعمارُهم السّابعةَ أو العاشرة
مَن يَشيخُ منهُم
يُعمّر عاميْن أكثرَ… أو ثلاثةً
ثمّ يُرفرفُ مع الملائكةِ
نحو جنّة السّماء
*
سنةً بعد سنةٍ
جاء على الدّنيا زمنٌ
فطالتْ أعمارُ أولئكَ الأطفال
حتّى برزت لِحاهُم وأظافرُهُم
سنةً بعد سنةٍ
طالتْ تلك الأظافر
صارتْ مخالب
فما عادتِ الأرضُ أرضًا
ولا الدّنيا
دنيا
ـــــــ وصيّة أبٍ إلى اِبنه ــــ
يَا أَبَتِ
أحببتُ عروسَ البحر
ــ كُنْ سفينةَ الصحراء
كيْ لا تغرقَ في مَوجها
*
إنّها تُشبهُ غزالة
ــ حسنًا
اِقتربْ منها
بخُطى السّلحفاة
لتلحقَ بها
*
يا أبتاهُ
اِقتربتُ
فطارت عاليا …وبعيدًا
ــ إذن
رفرفْ في سمائها
كالفراشة
النّسيمُ سيحملك إليْهَا
وسيلتقي جناحاك
بجناحيْهَا
ــــــــ النظّارة ـــــــــــ
في داخلنا طفلٌ يَبكِي
لا يرى دُموعَه أحدٌ
*
غُصَصٌ في صُدُورنا
تظلّ مَوْؤُودَةً في أعماقِنَا
لا يسمعُها أحدٌ
*
في غَياهِب عُيوننا
إذْ نُغمضُ جُفونَنا
تَتَراءَى لنا رُؤًى
لوْ كشفناها
لن يُصدّقَها أحدٌ
*
نبتسمُ
رغمَ الدّمعةِ تتلألأ في عُيوننا
نَصمُتُ
الآهةُ في صُدُورنا
نضعُ نظاراتٍ سَوداء
ونَمضِي
لا يعرفُنا أحدٌ
ـــــــ ثَرثرة ــــــــ
كُنّا صِغَارًا
نَتباهَى فِي عِيدِ الفِطْر
بِجَدِيدِ ثِيابِنا
وَألعَابِنا
وَنَنْتَظِرُ عِيدَ الأَضْحَى
لِنُفاخِرَ بِالقُرونِ الكبيرةِ لأكْبَاشِنَا
وَبشَدِيدِ نَطْحِهَا
*
كبُرْنا قَليلًا
صِرْنَا نَتَفَاخَرُ بِشُوَيْعِرَاتٍ
فَوْق الشّوَارب
ثُمّ مَرَقَتْ بِنَا السّنواتُ
فِي السّنواتِ
لَمْ نَدْرِ كَيْفَ مَضَتْ بِنَا الدّنيا
حتّى رَأيْنَا مَا رَأيْنَا
غَزانَا الشّيب
أمْسَيْنا نَفْخَرُ بِأَبْنائِنَا
وعُدْنَا نَتَنَافَسُ فِي السّباق
لكنْ
معَ الأحْفادِ
*
عِندمَا نَتْعَبُ
نجلِسُ بينهُم نُثَرْثِرُ…ونُثَرثرُ
نُفاخِرُ بآبائنا والأجدادِ
كانُوا وكانُوا
وَكُنّا فِي هَذا اَلْبَلَدْ
رُبّما يَأتِي زمَانٌ
…! وَلَا يَذْكُرُنَا أحَدْ
ـــــــ الرّأس ـــــــ
رَأسِي هَذَا
مُدَوَّرٌُ مُكَوَّرٌ
كُرَةُ قَدَمْ
يَحْمِلُ حُرُوبَ وَمَجَاعَاتِ اَلْعَالَم
وَكُلَّ مَا فِي اَلْعَالَم مِنْ ألَمْ
*
رَأْسِي هَذَا
مُرَبَّعٌ مُسْتَطِيلٌ
صُندُوقٌ قَدِيمٌ
مُلَفَّقُ الْألوَاحْ
بِالْقِصْدِير وَالْمَسَامِير
وَبإكْسِير الْجِرَاحْ
*
رَأسِي هَذا
أسْوَدُ أبْيَضُ
رُقْعَةُ شِطْرَنْج
بَيَادِقُهَا غَارقَةٌ فِي اَلدَّمْ
فُرْسَانُهَا يُسَوِّهَا اَلْهَرَمْ
*
تَعَالَوْا يَا أطْفَالَ الْعَالَم
هَذَا رَأسِي
فَاِلْعَبُوا بهِ
بَيْنَ أرْجُلِكُمْ
1972
ـــــــ الألوان الأخرى ــــــــ
تلُوحين
تتفتّح أزهارُ اللّوز قبل الرّبيع
للزّجاج رُؤيةٌ بيضاء
تلُوحين
ترقُص في نبضي الأشياء
نلتقي
تتوشّح البيوتُ في شارعنا بظلال رماديّة
الشّمسُ على سُطوحها تكنُس اللّيل
شيخُ المَسجد
يتلو أورادَه الصّباحيّة
صِبْيَةُ جارنا يُشاكسون الحِِمار
معًا نسير
تبدُو لنا الألوانُ سنفونية أخرى
نعُود
حافلةُ القرية عادت
شيخُ المَسجد
تدُقّ عَصاه
دَرجاتِ الصّومعة
1973
ــــــــ الكفُّ ـــــــــ
عَجفاءْ
من وهْج الصّيف وبرد الشّتاء
جاء الخريفُ
يا عُرس السّماء
مددتُ للمطر كفّي
قطراتٌ تجمّعت في كفّي
يا ظمأ كفّي للماء
رأيتُها غَيثا وحَرثا كفّي
رأيتُها بذرًا وزرعًا كفّي
في كفِّي
أفجّر الجدب
! يا تفجيرَ الجدب في الأكفِّ
1975
ــــــــ صباحُ الخير… صباحُ المِشنقة ــــــــــ
كتبت هذه القصيدة إثر أحداث ثورة الخبز بتونس سنة 1984 التي سقط فيها عشرات الضحايا من بينهم الشاعر فاضل ساسي وحُوكم فيها عديد الشبّان بالإعدام وقد نشرتها بجريدة ـ الطريق الجديد ـ بتونس بتاريخ 16 ـ 6 ـ1984
أيُّ حُزن
كأنّه إلى الأبد
في هذا البلد
مَضى شتاءُ ثورةِ الخُبز
والجراح
وأتى صيفُ صُفوف المَوز
والتفّاح
هذا الصّباح
لن أقول ـ صباحَ الخير ـ لأحد
لن أمُدَّ لأحدٍ يدِي
***
السُّكّر أسودُ مالح
الحليبُ بالبَرص
القهوةُ كالبَوْل
وخُبزُنا
مُغَمَّسٌ بالدّم
صباحُ الخير
بل صباحُ الويْل
***
هذا الصّباح
لن تُشرقَ الشّمس
لن يتنفّس الصّبح
هنالكَ
وراء الأسوار
خلف الأبواب
عَشرُ أزهار
مُلقاةٍ على الإسمنتِ
ذابلةٍ مُختنقهْ
طيورٌ عَشَرَهْ
ريشُها حَديد
مَناقيرُها صَديد
فَلا رَفْرفَهْ
ولا زَقزقَهْ
تنتظر
حَبلَ الْمِشنقَهْ
ـــــــ مقهَى العِنبة ــــــ
ـ باب البحر ـ جامع الزّيتونة ـ
أسواقٌ تَفتح على أسواقْ
مفاتيحُ تَلِجُ وتدُور في أبواب
باتتْ طول اللّيل ساهرةً
على اللّه الأرزاقْ
زُقاقٌ في زُقاقْ
وزقزقةٌ صباحيّة
*
عُصفورُ القفص
القفصُ مُعلّق في دكّان
دكّانٌ بابُه أخضرُ
خضراءُ أوراقُ الدّالية
تتدلّى على جانبيهِ
سماءٌ خضراء
مِنْ بين أشعّة الشّمس
*
في الدكّان إيقاعُ مِنسَج عتيق
يُراوح خُيوط ـ سَفْسَاري ـ حرير
قَبل أن أصل
يَقصِدُني النّادلُ مُسرعًا
بكأس الشّاي والنّعناع
أرُدُّ بصباح الخير
على صباحاتِ الخير
أجلسُ
لأنسُجَ أنا أيضا
سَوادًا على البياض
ـــــــ يَوميّاتُ الزّمنِ الضّائعِ ـــــــ
المَطَريّةُ السّوداءُ المَطْويّةُ
مُعلَّقةٌ خلفَ الباب
تقولُ له كلّ صباح
وهو يتجاوزُ العَتبةَ
ـ خُذْ بيدي سيّدي
واِفتحْ أجنحتِي
أمْ أنّكَ نسيتَ صُحبتِي
وألِفتَ السّيرَ
وحيدًا
تحتَ الشّمس… ؟
*
عادَ
أمْسَى القلبُ خاليًا
خاويًا
كسُوق السَّمك
في ضُحى عيدِ الأَضْحى
*
عَمِّ الطيّب
عمُّنا الطيّب
اليومَ أيضا
مَرّ تحتَ النّافذةِ قائلًا
ـ وينكمْ…وينكُم…؟
دَقّ الجرسَ
وقَبل أن أفتحَ البابَ
وضعَ سَلّةَ السّعف
فِيهَا ما فيهَا
فيها اليومَ من تِينِ وعِنبِِ حديقتهِ
ورجعَ مُسرعًا
عمِّ الطيِّبْ
تَجاوز الثّمانينَ
لكنَّ خُطاهُ أسرعُ
مِنْ فتَى الثّامنةَ عَشْرةَ
وعَمِّ الطيّبْ
كَسْبهُ في الحيّ مِن يديه
وما لديهِ… ليس إليهِ
*
كلُّ ما غَنِمَ عمِّ الطيّب من الدّنيا
– ربحٌ –
أمُّنا – ربح – زوجتُه
أنجبتْ له تسعَةً من البَنينِ والبنات
ضَحِك عمِّ الطيّب مرّة قال لي
ـ في السّبعينَ هي كالمُهرةِ
ما تزالُ قادرةً وزيادةً
قلتُ
ــ بفضل بَركاتِكَ يا عمِّ الطيّب
*
تَغيّر كلُّ شيءٍ
لا شيءَ كما هًو ولا كمَا يجبُ أن يكونَ
الرّفيقُ القديمُ…اِلْتقَيْنَا
وَقفنَا زمنًا
ثمّ اِنصرفَ قائلًا…كالعِتابِ
ــ هنيئًا لكَ القَميصُ الجديدُ
أراكَ غيّرتَ لونَهُ
مع تَغيُّر البلاد من حال
إلى حال
قلتُ لهُ ما قال صديقي
ــ ليتك حافظتَ أنتَ
! علَى السِّروالِ
*
مِنْ باب تَركِ المرءِ ما لا يَعنيه
السيّدُ الجالسُ أمامي في القِطار
يضعُ ساعتَهُ في مِعصَمهِ الأيمنِ
هَل هُو أدرَى
مِنَ الذين اِخترعُوهَا
والذين صنعُوها
وجعلُوها
لتكون أنسبَ وأصلحَ
في المِعصَم الأيسَرِ ؟
*
رحِمَ اللّه أبِي
كنتُ في العاشرةِ
عندما وضعَ ساعتَه الجديدةَ
في مِعصمي
ذهبتُ مُلوّحًا طول الطريق بيدي
إلى المدرسةِ
حتّى المُعلّمُ يومَهَا
سألني مرّتيْن
ـ كَمِ السّاعةُ الآن
في تَمام مُنتصَف النّهار
بالضّبطِ
صَفّر المُديرُ
*
يرجعُ الحديثُ بنا إلى القِطارِ
قِطارِ الضّواحي الجنُوبيّةِ
اليومَ
اِنطلقَ من إحدى المَحطّاتِ بدُون سائقهِ
نعمْ
بدُون سائقهِ
حَضْرتُه نزلَ لإصلاح أحَدِ الأبوابِ
حينما اِستعصَى عنِ الإغلاق
ما كادَ يُغلقُهُ
حتّى اِنطلقَ القطار
مِنْ دُونهِ
*
قَبلَ يَومَيْنِ
لَقِيتُ مَنْ هُو أفصحُ مِنَ الجاحظ
ومِن أبِي الفَتح الإسكندريّ
وحتّى مِن أبِي العَلاءِ
إنّه جَاري الجَديد
منذُ أسبوع يَركُنُ شاحنتَهُ الكبيرةَ
حِذْوَ نافذتِي
عندَ باكر كُلِّ صباح
يترُك مُحرّكَها المُزَلزِلَ يُدوّي مُدّةً طويلةً
اليومَ
خرجتُ`إليه
ـ صباحُ الخير
ردّ ـ السّلامُ عليكم ـ
قلتُ ـ يا جاري مِنْ فضلكَ
وأرجُوكَ
أبْعِدْ شاحنتَك قليلا عن نافذتِي
فقال ناصحًا
ـ كان عليكَ أن تَشكُرَني
لتُصليَّ الصُّبحَ حاضرًا
*
في مَوسِم المِشْمِشِ
كنّا نُرصّفُ القُلوبَ أهراماتٍ أهراماتٍ
ثُمّ نَرشُقُها بأكبر قَلبٍ
كمْ مِن قلوبٍ ربِحنا
كمْ خَسِرتْنا قُلوبٌ
عند الغُروب
نُهشّمُها بحَجَر الصَوَّان
فمَا ألذَّ حتَّى المُرَّ منها
*
أنا أيضًا
صِرتُ لا أكرّرُ طرَفَ عينِي
نَحْوَ مَن يُطأطِئُ رأسَهُ
حِينَ يلقاني
كثيرُون حَفِظتُهُم في القلبِ
لكنّهُم
سَقَطوا في طريقي مِنْ جَيبِ الصَّدر
*
زَمنًا
ظلّ يَلتقِيهَا
عِندَ ساعةِ الميدان
ثُمّ يَفترقانِ
ليتَ أنّهُمَا
مِثلَ ذَيْنِكَ العَقْربَيْن
بعدَ كلّ ساعةٍ
يَتعانقانِ
*
على غير هُدَى
قادتْه قَدمَاهُ إلى حَيّ ـ بابِ الجديد ـ
صَفْصَافةٌ هُنا…وكانتْ
وسَط البَطحاءِ
رأَى جِذْعَها…لم يَرَ
ظِلَّها…لا
ولا حَنفيّةَ الماءِ تَجري كانتْ
مِنَ الصّباح إلى المَساءِ
والسَّقّاؤُون حولها بعرباتِهم الخَشبيّةِ
أزيزُ عَجلاتِها سِنفُونيّاتٌ
فِي عِزّ قَيلُولةِ الصّيفِ
يَتزاحمُون يَتشاجَرُون
يَهْرعُ إليهِم شَيخُ المَسجدِ
ـ يا أولادْ…يا أولادْ
يَصمُتُونَ في خَجَل
حتّى إذا عادَ أحدُهُم فِي آخر اللّيل
مُتأرجحَ الخَطواتِ
لا يمُرّ أمامَ المَسجد
رَحِم اللّهُ الشّيخَ
لمْ نَسمعْ أذانَهُ العذبَ
رَقراقًا
يَنسابُ سَلْسَبيلًا
مُنذُ يَومِ رَأينَا مُكبّراتِ الصَّوتِ
فِي أعْلَى الصّومعةِ
*
لا يُزاحمُ عندَ صُعُودِهِ القِطارَ
يترُكُ الأولويّة للتّلاميذِ والطّلبة
للعاملين والعاملاتِ
يَفسَحُ المجالَ للمُتعجّلينَ
وللجَميلاتِ طبعًا
لا بأسَ…صار لا يُبالِي إن تأخّرَ القِطارُ
أوْ توقّفَ ولمْ ينطلقْ
أوْ لمْ يأتِ
فهو لمْ يعُدْ يَنتطرُ أحدًا
ولا أحدٌ ينتظرُهُ
فاتتهُ كلُّ المحطّات
*
مَنْ يُريدُكَ
سيجدُ إليك سَبيلا حتّى
مِنْ شَقِّ الباب
ومَنْ يتجنّبُكَ
يتوارَى مِنكَ حتّى
في ثُقْب المِفتاح
*
سيقولُون كانَ
وكانْ
ولكن بعد
فَواتِ الأوانْ
2018
ــــــ مازلت لم آت ــــــ
مَازلتُ لمْ آتِ
لَا الشّمسُ …لا اَلْقَمر
لَا النّجُومُ
أظهَرتْ فِي هَذَا الزّمَن
آيَاتِي
*
مازلتُ لم آتِ
حتّى ضاربُ الرّمل
لا يعلمُ
ولا قارئُ الكفّ
ولا عرّافةٌ
من العرّافاتِ
*
مازلت لم ٱتِ
وَحدَها جنيّةُ النّبع
في جُزُر واقِ الواقِ
تَعْرفُ أوْصَافِي
وَمِيقَاتِي
*
ما زلتُ لم آتِ
عاليًا وبعيدًا
حَرْفًا حَرْفًا
تَحْبُو على الأوراق
مازالت كَلِماتِي
*
مازلتُ لمْ آتِ
حِبْري يُخْضُورٌ
ونَسْغٌ في الجُذُور
قَطرةً
يَرْشَحُ قطرةً فِي دَواتِي
*
وإنّي آتٍ
لستُ على عَجَل من أمْري
بِالخَطوةِ الأولَى
تبدأُ كُلُّ المَسافاتِ
*
إنّي آتٍ
مُرَفْرفًا
خافقَ الجناحين
معَ المَدَى تِلو المَدَى
من كُلّ الجِهاتِ
*
إنّي آت
فِي حَفِيفِ النّسيم
في صَخَب البَحْر
في همْس الصّحرَاء
فِي هَسِيس الغاباتِ
*
آتِ
كالعَواصف مُدَمْدِمًا
كالزّلازل مُهَدّمًا
حَجرًا عَلى حَجَرْ
لَا أُبْقِي ولا أَذَرْ
عَلى كلّ الطّغاةِ
*
آتٍ
نَحْوَ العابرينَ من الأقاصِي
في زوارق المطّاط
فإذا البحرُ هاجَ وماج
أرمِي إليهم
قواربَ النّجاةِ
*
آتِ
كَوَهْج لذيذِ الجَمر
في صَقيع الفَجر
للكَادِحين والكادِحات
يَسْعَوْنَ فِي الظّلُمات
*
آتِ
في القحْطِ.. أنا أخضَرُ
في الصُّخور… أنا أَبْذُرُ
ومن سَحِيق السِّباخ
أحصُدُ صَاباتِي
*
آتِ
من بعيدٍ… بعيدٍ
لا رفيقَ لي
إلا ظِلّي والعَصَا
ومِخلاتِي
*
آتِ
مع شَمسِ الصّباح
للسّوسَن والأقاحِي
للنّسرين والياسمين
أنشرُهُ على الطّرقات
*
آتِ
بالجديد
بِمَواعِيدِي وَأنَاشِيدِي
بِوُعُودِي وَعُهُودِي
وَبُشرَى فُـتُـوحَـاتِي
*
آتِ
مع هوادج الأعراس
مع أفراح الناس
بالطبول والبارود
والزّغرداتِ
آتٍ….آتٍ…آتِ
!…فاِنتظرُوني
ــــــ القُرط القديم ـــــ
إلى الشّاعر الميداني بن صالح اِستلهامًا من مسيرته بمناسبة بلوغه السّبعين من عمره
هِيَ ذِي خُطاهُ
تُوصِلُني إلى مَشاهدِهِ القَديمةِ
وَقفتُ أمامَ البوّاباتِ
صَلدةِ الصَّخرِ
على هَيْأةِ الأقواس
مِنْ أعْمِدةِ المَرْمَرِ قُدَّتْ
قرأتُ نَقِيشَتهُ : الاِسمَ والعُنوانَ
حَملتُ زادِي… واصَلتُ الطّريقَ
عِندَ كُلّ فَرْسَخٍ أسألُ عنهُ
نَفْسُ مَا يُقالُ ومَا قيلَ
كانَ قد مَكثَ هُنا قَليلا
ثُمّ شَاقهُ السّفَرُ نَحْوَ البَعيدْ
تُرى أينَ ألقاهُ هُوَ الرّاحِلُ دائمًا
مِنْ بِيدٍ إلَى بِيدْ
(2)
هِي ذِي خُطاهُ
ضاربةٌ في ثَنايَا القَفْر عندَ السّباسبِ
على مَدى البَصَر
خُطاهُ
قارعةٌ رَصيفَ المُدن مِنْ شَرقٍ
إلى غربٍ
مِنْ غُروبٍ إلى شُروقٍ
كلّما شَدّهُ خيطٌ
أَوِ اِنقطعَ وَتَرْ
عَجّل بالرّحيل
إذْ تصغُرُ حَوْلَهُ السّاحاتُ حتّى تَضيقَ
هو الحُرُّ الطّليق
لا يَنامُ على مُستقَرْ
(3)
كَشفْتُ رُؤاهُ
اللّيلُ والأحلامُ… والطّريق
مِنْ أقصَى الواحاتِ
مِنْ آخِرِ نَخلةٍ في الصّحراء
جَاء يَسْعَى
أيُّ آتٍ من الأيّام سَيَلقاهُ الفتَى
وأيُّ قِطافٍ مِنَ السّنواتِ سَيقبِضُهُ
بَدَلَ حَفْنةِ التّمر
والقُرطِ القَديم ؟
هُوَ ذا لِمَنْ يَراهُ
نَحيفٌ كرُمح
خافقٌ كمِثل جَناح
وَهْوَ في السّبعينَ إذْ يحُثُّ خُطاهُ
يَبدُو كطِفل السّابعةِ
يُسَابقُ في مَداهُ
(4)
أتْعَبْتَنا يا سيّدِي
فأنتَ الجَمُوحُ
مُهْرٌ بِلا لِجام ولا سَرْج وَلا رِكابْ
وِهَادٌ قَطَعْتَها أنهارًا وشِعابْ
دُونكَ المَمالكُ وَالمَسالِكُ
لَمْحُ سَرابْ
كُنتُ ثَانيَ إثنينِ مَعَكَ فِي الطّريق
الإسْفَلْتُ
وَالمَسافاتُ
وَهَذا الجَنوبُ
(5)
فِي مَا مَضَى
مِثلَ صِغارِ العَصافير
كُنّا نُزقْزقُ الحُروفَ
نَتهَجَّى سِرْبَ الكلماتِ
عَلى أجْنحةِ اللّغةِ العَذْراء نَنطلِقُ
نَمْتَشِقُ الفَضاءاتِ الجديدةََ
نَطيرُ عَاليًا وبعيدًا
لا نَعبَأ باِحتِراقِ الرّيشِ في الشّمسِ
وَلا بِتَمْزيقِ الوَرق
حَوْلهُ نَجتَمعُ
فَمِنْ أجْل رَبيع الفَراشَاتِ
كُنّا نأتلِقْ
هُوَ الصّقرُ الذي حَلّق قَبْلَنَا
وَطَواهَا مِنْ مَداهَا إلى مَداهَا
أبعادَ الأفُقْ
(6)
مِثلَ نَجم يَأتَلِقْ
مَازلتَ يا سيّدي تَهدِي السَّفائنَ
والقَوافلَ
نحوَ الأقاصِي عَبْرَ التُّخُوم والسَّباسبِ
وبَدَلَ أنْ تَستريحَ وتَتْرُكَنَا في الخلاءِ
عِند مَهَبِّ الرّيح
هَا أنتَ تُمَدِّدُ جَناحَيْكَ مِنْ جَديد
وتأخُذُنَا مَعك
(7)
يا عُروةَ الشُّعراء
دَمِيَتْ يَداكَ مِنَ الشَّوْكِ ولمْ تُخَلِّصِ اَلْحَريرَ
مِنَ العَوْسَج
فَأيُّ جِراح سَتُناوِبُنا إيّاهَا
يا عُروةَ الشّعراء
هِيَ ذي خَيمتُكَ مُشْرَعةٌ للأحبّةِ
الظِلّ والرِّفْدُ فيها والمَاءُ
لِمَنْ ضلّوا إليكَ الطّريقَ
ولِمَنْ ضَاعَ في المَدائن بين الحَوانيتِ
والواجهاتِ
جاءكَ مُرتجفًا يَسْعَى يَطرُق الباب
آمِنًا يدخُل نحوَك عليه السّلام
تَمسحُ الأحزانَ عنه
فتُرفْرفُ حَولهُ حمامةُ الرُّوح
تُناولهُ الزّادَ وعناوينَ الكُتبْ
فَمِنْ أوراقِكَ يا ـ أستاذُ ـ
اِشتعلَ جِيلُ الغَضبْ
(
وَاحَرَّ قَلباهُ ـ قُلتَ
آهٍ مِنْ زمنِ العَرَبْ
آهٍ مِن صَحْوي وسُكري
ومُروقي ولِجَاجِي
وسُكوني وظنُوني
واِنطلاقِي وَهِياجِي
أهٍ مِنْ عَقلِي
ــ إذا مَا ثَارَ بُركانًا
عَلى كُلّ الأحَاجِي ـ
(9)
مِثلَ كلّ مُسافرٍ فِي الفَيافِي
ينُوشُهُ الغُبارُ حَتْمًا مِن وَعْثَاءِ الطّريق
لكنّهُ عندمَا يتكدّسُ على الدُّروب
يَمْسحُ بِلا خَجل نَظارتَيْهِ
فَيرَى مَا لمْ نَر
إذْ يَتَبَيَّنُ الظّلامَ والذّئابَ
غيرَ أنّه في الدّياجِي
يُشْعِلُ بَسْمةً
عندمَا يُطفِئُ شَمعةً
(10)
هُوَ ذَا أشْهَى التّفاصيلِ وأَحْلَى
كلّما تَاهَ فِي مُروج العِنبِ
وراءَ سَانِحةٍ لِذكرَى وتَجلّى
فَإذا أخْطأتِ الكأسُ شَفتيْه
اِبتسمَ وقَال
ــ تُخْطئُ البَوْصلةُ ذاتَ ريح
أوْ ذاتَ حَريق
ولاَ يُخطئُ قلبِي
هُو دَربي
وذاكَ الأفُق
ــ شِعْري لُهاثُ الكادِحينَ على الدُّروب
شَدْوِي أهازيجُ الشّعوب
مَنْ صَارعُوا الأمْواج
والبحرَ الغَضُوبْ
مَنْ غالبُوا الأقدار
واِقتحمُوا الخُطوبْ
مَنْ عبّدُوا الطّرُقَ المَديدةَ
فِي الجِبال ـ
(11)
مَرّةً ونحنُ على الجِسر قال
إنّنا لا نقطعُ النّهرَ مَرّتين
قلتُ: أريدُ أنْ أقِفَ على الضَّفَّتَيْنِ
قال : مُسْتحيل…لا بُدّ أنْ تختارْ
فَإمّا يَمينٌ…وإمّا يَسارْ
قلتُ عَنيدًا : عِندَئذ أَخْتارُ الوسَطْ
قال: إذن سَيَجْرُفُكَ التيّار
ثُمّ في الأمْواج تَضيعْ
فَلا السَّاحلَ أدْرَكْتَ
وَلا سَقَتْكَ الينابيعْ
(12)
مَرّةً عندمَا اللّيلُ سَجَا
سَاءَلتُهُ عَن الأصدقاء
ــ إنّهُم كَمَنْ يُغَربلُ الماء
: زِدتُهُ قائلا
ــ والنّساء ؟
صَمَتَ لَحظتين ثُمّ قال
– أوّلُهُنَّ…آخِرُهُنّ أمّي
فَمَنْ يَبِعْنِي اليَوم
ذلكَ القُرط القَديم
وبَكَى
(13)
هِيَ ذِي نَخلتُهُ مَا تَزال
كم زَحفتْ عليها رمال
كم رياحٌ عليهَا عَصَفتْ
كم رماحٌ فيها رُشِقَت
ويُمْطرُ السَّحابُ
أوْ لا يُمطرُ السَّحابُ
فَقيرةٌ أوْ جائعة
ليستْ ذليلةً أوْ طامعَهْ
يَا نَخلتَهُ الصّامدَهْ
مَا سِرُّ خُضرتِكِ الخَالدهْ ؟
(14)
وَيْلِي مِنْ زَمَنٍ
البَسمةُ فيهِ بالأنيابِ
المُصافحةُ بينَ الأحبّةِ كَفِعْلِ الْمِقَصْ
قلتُ له وقدْ تَجرَّعتُ الغُصَصْ
كَيفَ نُزَاوجُ ألوانَ قَوْسِ قُزَح
وَكيفَ نُوالفُ بينَ الحَمَائمِ والفَضاء
عندَ بابِ القَفصْ
أجابَ : عندمَا نَرسُمُ حبّاتِ المَطر
علَى الشّجرْ
عندمَا نَسْتهْدِي الأمواج
إلى السَّواحل دُونَ أنْ تنكسِرْ
وعندمَا نَنْظُمُ شَتَاتَ اللّآلِي
فِي الخَيْطِ الدّقيق
وقتَها نَبْنِي الفُلكَ
لِنَجْتازَ المَضيق
فَمَا أطولَهُ طريقْ
فَمَا أطولَهُ طريقْ
(15)
تلكَ خُطاهُ
تُوصِلُنِي إلى مَشاهدِهِ القَديمةِ
وَقفْتُ أمامَ البوّاباتِ
صَلدةُ ذَاتِ الصَّخر
على هَيأةِ الأقواس
مِنْ أعمدةِ المَرمر قُدَّت
قرأتُ نَقيشتَهُ : الاِسمَ والعنوان
حَملتُ زَادِي…وَاصلتُ الطّريق
عِندَ كلّ فَرْسَخ أسْألُ عنه
نَفْسُ مَا يُقالُ ومَا قِيل
كانَ قدْ مكثَ هُنا قليلاً
ثُمّ شَاقهُ السّفرُ نَحْوَ البَعيدْ
تُرَى أينَ ألقاهُ
هُوَ الرّاحلُ أبَدًا مِنْ بِيدْ
إلى بِيدْ
وَفِي كلّ عَامٍ تَراهُ
بِعُمْرٍ جَدِيد
تونس ـ شتاء 2000
ــــــ الشّامُوراي الأخير ـــــــــ
إلى الشّاعر يحي السّماوي
قَدْ يَحُزُّ السّيْفُ الصَّقيلُ غِمدَهُ
ــ أَدْخِلْهُ بلُطفٍ
الحِصَانُ إذا حَمْحَمَ
ــ لا تَلتفِتْ
الرّفيقُ هُو الطّريقُ
إذا دَبَّ البردُ إلى قدميْكَ
اِنهَضْ
أَسْرع ِالخُطَى
*
قبل الفجر
السّامُورَايُ قفز على حِصانِهُ ومَضَى
أخذَ العَتادَ والزّادَ
جَاوزَ النّهرَ
شَقَّ الجَبلَ
عَبَر البحرَ
قَطعَ البيداءْ
وأَثْخَنَ فِي الأعداءْ
*
عندمَا عادَ
عاد بالنّصر
عادَ
مَا فيه شِبرٌ إلّا وبهِ ضَربةُ سَيفٍ
أو طعنةُ رُمح
أو رَمْيةُ سَهْمٍ
عادَ
علّقوا على صدره كلّ الأوسمة
أقامُوا لهُ تِمثالا كبيرًا
في المَيدانِ
*
شَاخَ السّامُورَاي
التّمثالُ عَلاهُ الصّدِيدُ
أَتَى زَمانٌ
فَإذا البلادُ غيرُ البلادِ
كلُّ شَيءٍ صَار يُباعُ
في السوق السوداء
أو بالمزادِ
مِنَ الحليبِ والسّمادِ
حتى شَهائدِ العِلْمِ
والميلادِ
*
ضاق الحديدُ بالسّامُوراي يومًا
خَرج مِنْ تِمثَاله
شاهرًا سيفَه
شاكيًا رُمحَه
أوْقفَ حَركةَ المُرور فِي المَيدانِ
ظلّ يُنادي : هذا أنا …هذا أنا
البلادُ بلادِي
البلاد بلادي
باعُوها للأوغاد
*
لَمْ يَسْمَعْهُ أحدٌ
فقط
شُرطيُّ المُرور قَصَدهُ مُسرعًا
يصرُخُ في وجههِ
ــ اِرجعْ إلى مكانكَ
ــ ارجعْ إلى مكانكَ
ـــــــ صفحة من كليلة ودِمنة ــــــــ
كبشُ الغَنمِ
وما أدراكَ مَا كبشُ الغَنم
كبشُ الغَنم منذُ الولادةِ
يُعزَلُ عن أمّه
وتُرضعه أتانٌ
يُلازمُها
يَكبُرُ
حتّى يَطولَ قَرناهُ
لا تُجَزُّ صُوفُهُ
إنّما يُجَزّ ـ شيئُهُ ـ الآخرُ
ويُعلَّقُ بَدَلَ مِنهُ ناقوسٌ كبيرٌ في رَقبتِه
فَإذا دَنْدنَ وجَلْجل
وسَارْ
سَارَ في هَيْبةِ فَحْلٍ ووقارْ
فَيتبعُهُ القطيعُ
والجميعُ
خلفَ الحِمارْ
ــــــــ دم الرّبيع غزّة ــــــــ
السّادسةُ صباحًا
دُون أن أغسل وجهي
أفتحُ التلفزيون
للصّباح حُمرةُ الشّفق القادم من الشّرق
اليومَ أيضا
تُشرقُ الشّمسُ دمًا
في غزّة
لغزة النارُ والحصارُ والدّمار
الجوع لغزّة والعطشُ
فاِسْعدوا بغزّةَ ياعرب
وٱهنؤوا بالمواكب والجحافل
بالمهرجانات والأسفار
بالفنادق والرّقص
بالفصاحة والشّعر والجوائز
هنيئا لكم بالنّفط والزيتون
هنيئا لكم بالعمائم وبالمذاهب والمِلل
هنيئا بفَتوى الرّضاعة والمِسيار
وجهاد النّكاح
هنيئا باِقتصاد السّوق وسباق النّوق
هنيئا بالشّقاق والنّفاق
هنيئا بالثّورات الخاويات
يا وطن
نفديك بالرّوح والدّمْ
من أجل كرة القدمْ
إذن
صباحٌ آخرُ من حِصار
وموجةٌ أخرى
من… ألمْ
ـــــــ صفصاف وصفصافة ــــــــ
صَفصاف وصفصافة
مُتقابلان
واقِفان
إلى بعضهما ينظران
الجذعُ نحو الجذع
الأغصانُ نحو الأغصان
الأوراقُ نحو الأوراق
بالجذور يتعانقان
تحت التّرابِ والأحجارِ
فتتزيّن جنباتُ الطريق
بالأزهارِ
ـــــــ حرثٌ ـــــــ
مِحراثُ الحديدْ
شديدٌ…مديدْ
يشُقّ الأديم
يصل إلى الثّرى
دافقًا
خافقًا
يسقِي الجذورَ العطشى
حتّى تنتشِيَ براعمُ الأغصانْ
فتُزقزقُ العصافير
في البُستانْ
ـــــــــ الكَفُّ ـــــــــــ
عَجفاء
من وهج الصّيف وبرد الشّتاءِ
جاء الخريف
يا عُرسَ السّماء
مَددتُ للمطر كفّي
قطراتٌ تجمّعت في كفّي
يا ظمأ كفّي للماء
رأيتُها غيثًا وحرثًا كفّي
رأيتها بذًرا وزرعًا كفّي
في كفّي
أفجّرُ الجدبَ
يا تَفجيرَ الجدبِ في الأكُفِّ
1975 مجلّة الحياة الثقافية العدد الأوّل ـ تونس ـ
ــــــ سندبادة ـــــــ
1
بين الأزرقِ والأزرق
على ناعمٍ أصفرَ
سندبادةٌ
2
لاحت غمامةٌ في الأفق
تَضعُ نظّارةََ شمس
سندبادة
3
سَمكةٌ
على الرَّمل تَصطلي
تتمدّدُ سندبادة
4
صار البحرُ عَذبًا
بين الأمواج
تسبحُ سندبادة
5
أمسى البحرُ سَرابًا
خرجتْ من البحر
حُوريّة
ـــــــ لاعب الورق ــــــــ
لاعِبُ الورق المَاهِر
ليس ذاكَ الذي
يأتيهِ الحَظّ
بالأوراق الثّمينةِ
دُفعةً واحدةً
أوْ وَاحدةً…تِلْوَ واحدةٍ
المَاهرُ حَقًّا في اللّعبِ
هُو ذاكَ الّذي
يُحْسِنُ تَنسيقَ الأوراق في كفّهِ
كَيْفمَا جَاءتْ
وينتظرُ الورقةَ الحَاسمَهْ
فإذا جاءتْ
هيّأ لها مكانها المناسب
في كفّه
ثمّ
ينظُر نَظرةً
نَظرتيْن
في العُيون المُقابلَهْ
ويَفرُشُ أوراقه
على الطّاولَهْ
ـــــــ طائر اللّهب ــــــ
غابةٌ تحترقُ
ورقةً ورقةً
غُصنًا غُصنًا
جِذعًا جِذعًا
شجرةً شجرةً
َلم يَبق
إلا رمادٌ أو حطبْ
حينذاك
رَفْرفَ بين يديها طائرٌ
ريشُ جناحيه
يُخْضُورُ اللّهبْ
ـــــــ الشّاي ــــــــ
إلى صديقي الرّاحل عبد المجيد يوسف
الطّاولة
الكرسيّ
جلسَ
حيث جلستْ
طلب
ما طلبتْ
الآن وهنا
كأنّه بين يديْها
ظلّ يترشّف
!…شَفتيْها
.
ــــــ تحت الشّمس ـــــ
لا أحدَ يُلازمك
ويُشبهُك أكثرَ من الجميع
مثلُ ظلّك
ظِلّك أنتَ
تسيرُ يسيرُ
تقفُ يقفُ
تمُدُّ يدَك يمُدُّ يدَه
يُطيعُك يُطاوعُك
رفيقُك أنيسُك
أنتَ هُو…هو أنتَ
إذا غابت الشّمس
يتخلّى عنك
تجدُ نفسَك وحيدًا
وحيدًا
يُداهمُك الزِّحامْ
فتمضِي وحدَك
بدونه
…! إلى الأمام
ـــــ شِباك ــــــ
أسماكٌ
تلتهم أسماكْ
والجميع
في الشّباكْ
ــــــ سباق ــــــ
الشّابُ أَسرعُ في خَطوه
الشّيخُ
يعرفُ الطريق
ـــــــ قاب قوسين ـــــــ
يا نارُ
كوني بردًا وسَلاما
فالفَراشُ قابَ قوسين منكِ
أو أدنَى
ــــــــ اللّوزة ــــــــ
رفقًا بهِ
يا لوزةَ القلبِ
قَشّريهِ
ولا تُلقي بالنّواةِ
ــــ العقد الفريد ــــ
أنتِ دُرّةٌ
قال
وأنتَ…قالت
عِقدُها الفريد
ـــــــ اِحتراق ــــــ
لا عزاءَ للشّجرةِ
عند الاِلْتهابْ
فَمِن خشبها
عُودُ الثّقابِ
_____ اِنتظار ______
مِن حينٍ إلي آخر
ينظرُ في ساعته
يُحرّك السّكّر
حتّى ذابت المِلعقة
! في الفِنجان
ـــــــ العاشقان ـــــــ
أروعُ عاشقيْن
سيجارةٌ تحترقُ من أجل حَبيبٍ
يمُوت هو أيضا من أجلها
! عند كل نَفَس
ــــــــ أبجدية ـــــــ
شفتاها أبجديّة
سيظل أبكمَ
طول العُمر
ما لم يَنطقْ بهما
ــــــــ أجندا ـــــــ
يومُ أحد
وحيدٌ
وحيدةٌ
ضربَا موعدًا
ليوم الإثنين
ــــ سماء ــــــ
تُونسُ ـ بغداد
على القَدمين
ذَهابًا وإيّابًا
مُضيّفةُ الطّائرة
ــــــ شارع الرّشيد ــــــ
على صُندوق ماسِح الأحذية
وبالخط الدّيواني
تمامُ الأناقة لمَعانُ الحِذاء
ـــــــ أمواج ــــــ
تقول الموجةُ لصخرة السّفح
كلَّ مدّ وجزر
ـ مهلًا … مهلًا
ستذُوبين ذرّةً….ذرّةً
في حلاوةِ المِلح
ــــــ صباحية ـــــ
أصبح أبكمَ
لم يقلْ لها
صباحَ الخير
حروفُه باتت كلَُها
على شفتيها
ــــــــ فَصَاحَةٌ ـــــــ
أَبْكَمُ وبَكْمَاءْ
جَلَسَا
نظر إِلَيْهَا…نظرتْ إلَيْهِ
تَلَعْثَمَا… هَمْهَمَا
تَكَلَّمَا… مَا تَكَلَّمَا
ثُمَّ أَفْصَحَا… مَا أَفْصَحَا
فِي قُبْلَةٍ عَصْمَاءْ
ـــــــ مسافات ــــــ
من يَقترب منكَ
شِبرًا
اِقتربْ منهُ
مِترًا
من يبتعد عنك مِترا
اِبتعدْ عنه
عُمرًا
ــــــ كبرياء ــــــــ
الوردةُ البهيّةُ الشَذيّةُ
في غٌصنها العَالِي
ذِي الخُيَلاءْ
إن لمْ تَستطعْ إليها صُعُودًا
أنزلْ إليها
مِنْ سَماءْ
ــــــ الآن وهنا ـــــــ
وهي تغادر
قالت متى وأين سنلتقي؟
فأسرع بالجواب
ــ الآن وهنا
وأرجعها من الباب
ــــــ إكرامية ــــــــ
منذ أربعين عامًا
أزيدُ الإكراميةَ إلى حَلّاقي
لم يشفعْ لي مُشطُهُ ذلك
كلّ مرّة
لا يزيدُ شَعري
إلّا…بياضًا
ــــــ حنان ـــــــ
فَتحتْ رَبْطةَ عُنقهِ
أزرارَ القميص
ورباطَ الحِذاء
كطفل وأُمْ
ثُمّ
لَبِستهُ
مِنَ الرّأس
إلى القَدمْ
ــــــ اِنحناء ــــــــ
…نعمْ
قد تراني أنحني
يا صديقِي
فقط
كي أرفع حَجرًا
من طريقِي
ـــــــــ إعجاز ــــــــ
معادلة صعبة
أعجزتْ حتّى أنشتاين
ـ كيف لا يشتكي الرّاعي
ولا يجوع الذئب ؟
ــــــــ السّلحفاة ـــــــــ
ألا يَا سابقَ الرّيــح * رُويدًا…أين مَنْ فاتُوا
هُنا مَرُّوا بلا ذِكرى * وتَسبُقُ السُّــلحْــفَاةُ
ـــــــــ محكمة ـــــــــ
بحُكمكِ في الحبِّ راضِ * بِصكّ على بيـــاضِ
أجِيري…ومنكِ إليــــــكِ * كعدلٍ وظلمٍ لقاضِ
ــــــ وثَغرٍ ــــــــ
وثـَغـرٍ تَبسّم زَهـرًا * شَقائقَ حُمْرٍ وفُــلَّــهْ
فَأغْرَى بِشَهْدِ اللّآلِي * ونَادَى لِرشْفٍ بِقُبلَهْ
ـــــــ شتاء ــــــ
كَانَ يَوْمًا زَمْهَرِيرًا فِيهِ ثَلْجُ
اِلْتَقَيْنا فَاِصْطَلَيْنَا ذَاكَ وَهْـــجُ
شَوقُنا جَمْرٌ فَكنّا نَـتَـلَظَّى
فِي بِحَارٍ عَذْبَةٍ وَاَلْعِشْقُ مَوْجُ
ــــ النخلة القديمة ــــ
هي نخلة باسقة تعترضني عندما كنت أمرّ بجانبها في طريقي إلى ـ النادي الثقافي الطاهر الحدّاد ـ في مدينة تونس العتيقة ولاحظت في السّنوات الأخيرة أنها باتت مَوضعًا للنّفايات والفضلات ممّا جعل مرآها يحزّ في النّفس فقلت
وَنَخلةٍ قَامتْ عَلى الهُــزالِ * رأيتُـها تَــنُـوءُ فِي اِنْـعِـــزَالِ
مَا بَالهُمْ قَد أهمَلُوا حِماهَـا * ولا يُبالونَ فلمْ تُـــــــبَـــــالِ
هَانتْ عليهِمْ ما دَرَوْا جمَالًا * ومَا بِهِمْ حِسٌّ إلى الجَـمــالِ
فَلا جريدٌ باسقٌ تدلّــــــى عُــــرجُونهُ يَميلُ في اِنـثِــيَـالِ
ولا حَمامٌ ساجعٌ يُـناجـــي * مُرفْرفًا يَـحِـنُّ لِلـــوصَــــالِ
يا واحةَ الجنُوبِ,اُذكُـريـهَا * بينَ سَــواقِــي مائِـكِ الـزُّلالِ
إلى خَريرِهَا تَحِنُّ شَوْقًــا * بِرغم عَصْفِ الرّيح والرّمــالِ
إنّي الغَريبُ جِئتُها مُعَنّـى * صَبري كصَبرِها على النّــبَـالِ
لمّا رآني جِذْعُها تَــدَانَـى * وضـمَّـنِـي فَـحَالُــهُ كَـحَـالِـي
ــــــــ أمام الإسكافي ــــــ
تحيةً إلى الإسكافي الذي أصلح لي حذائي عندما زرتُ مدينة صفاقس سنة 1994 حيث كنت أتجوّل في حيّها العتيق وإذا بحذائي يبتسم بل يضحك مٌقهقها ممّا أعاقني في السّير وإذا بي أرى بجانب السّور إسكافيًا فتقدّمت منه وتعجّبت كيف يحمل نظّارة سوداء والحال أنّه يحتاج إلى إمعان النّظر في قيامه بعمله وما كدت أقترب منه حتى رحّب بي سائلا مطلبي فمددت له الفردة الأولى فجعل يجُسّها ثمّ يدقّ فيها المسامير حيث يجب وبعد متابعتي لحركاته تفطّنت أنّه كفيف البصر
كمْ مِنْ طريقٍ بِي مَضَى * كمْ طوَّحَتْني اَلْقــدَمُ
أَهْــلًا وَقــالَ مَــــرحَـبَا * كـيــفَ رَآني أقْــــدِمُ
حَيَّـيْــتُهُ…قلتُ الــــحِذَا * النّــعـلُ مِنهُ يَـبْــسِمُ
تَبَـسُّـمًا مِثلَ البُـــــكَــا * رُبَّ اِبـتِـسـام أَلَــــمُ
يَا صَاحبـي إنّ الْـــوَرَى * فِي حَقكَ قدْ ظــلمُوا
يَا ويحَهم هُـمُ العَـــمَـى * أصَـابِـعُــك الأكْــرَمُ
أصابعٌ هُــــنَّ الضِّــــيَا * لا تَـعَــبٌ لا سََـقَــــمُ
اَلشّمسُ هُـنّ والضُّحَى * في لمْسِـهِـنَّ أَنْـجُـمُ
يَــا مَـثَــلا لــمـــنْ رَأى * عيناكَ عِنـدي تُـلْهِـمُ
ــــ ساقُ الخشب ـــــ
رُوحي فِدَى شيخ بساق الخَشبِ
في الشّمس أو في البرد يقرعُ الحَجرْ
تـراهُ صَلـدًا شامـخًا لا يشتـكِـي
ورافـعَ الرّأس عَلى كُــلِّ الـبــشــــرْ
ــــــــ الفطيرة ـــــــــ
تحيّة إلى الكرام من ـ غمراسن ـ بالجنوب التونسي الذين عُرفوا منذ القديم بصناعة الفطائر والمخارق والزلابية ونشروها في جميع أرجاء تونس وفي سائر بلدان العالم وقد كانوا رمز الصّدق والشّهامة والوفاء والتّضحية وبكسبهم الشّريف تمكّن أبناؤهم وبناتهم من التقدّم في سُبل العلم والمعرفة وفي مختلف الوظائف والمهن والأعمال
فالأمل أن لا ينسى الجيل القديم وأن يحافظ الجيل الجديد على القبم ـ الغمراسنية ـ الأصيلة بما فيها من عرّة وإباء وصبر وحبّ للخير لجميع النّاس
تَوَكَّلْ عَلَى اللّه خُذْ بِالـلُّجَـيْـنِ * أََدِرْهُ بِلَمْسٍ يَصـيرُ فَـطِيـرَهْ
أَنَامِلُكَ السِّـحْـرُ مِنْهَا اَلْحَـــلَالُ * بِِـفَـنٍّ تَـلُوحُ كَتَـاجِ الأمِـيـرَهْ
بِزيْتٍ وَقَمْحٍ وَعَزْمٍ عََـجَــنْــتَ * جِـبَالا وََجُبْــتَ بِلَادًا كَـــثِيـرَهْ
إِلَى الرِّزْقِ تَسْعَى بِشَرْقٍ وَغَرْبٍ * تَطُوفُ بِهَا وَنِعْمَ اَلسَّفِيرَهْ
لَكَمْ جَاءَكَ اَلْجَائِعُ وَاِشْـتَـهَـاهَا * هَنيئًا مَريئًا ـ مَلَاوِي ـ كَبِيــرَهْ
وَشَــهْـدُ اَلْمَخَارقِ مِثلُ الـزَّلَابِي * كَلَمْعِ الكَواكبِ تَبْدُو مُنِيرَهْ
تَرَى اَلنّاسَ فِي كُلّ شَكْلٍ وَلَوْنٍ* وَوَاحِدٌ أَنْـتَ فِي كُلّ سِيـرَهْ
لَـئِنْ طَوَّحََتْـنَا اَلـدُّرُوبُ فَنَحْـنُ * نَحِنُّ جَمِيعًا لِتِلْكَ اَلْـعَشِـيـرَهْ
ـــــــــــ العُــود ــــــــ
تحية مودّة إلى الصديق الفنّان الأستاذ ـ عبّاس مقدّم ـ
بمناسبة مساهمته في ندوة تكريمية للشّاعر وقد أدّى الفنّان
قصيدين للشّاعر من تلحينه وذلك بالمكتبة الجهوية
ببنعروس يوم الأربعاء 3 مارس 2021
عَبّاسُ والْــــعُـودُ * واللّحنُ إذْ يَسْــري
سِحرٌ ويَنسَــاب * مِن لَمسةِ الوَتْـــــرِ
فَالفنّ مِحـرابٌ * بالنُّـور والطُّــــهْـــرِ
واللّحن أحيانِي* كالزّهر في الصَّـخــر
إذْ لاحَتِ الذّكرى * كالنُّور في الفَـجـر
ذكـرَى لأحبابـي * غـابُـــــوا ولا أدري
! يا ليـتَ ألـقـاهُم * في ليلةِ الـقَــــدْر
ـــــــــ مَعَ صَدِيقٍ نَحْوِيّ ــــــــ
إلى الصّديق الشّاعر حكيم زريّر
لَقِيتُ صَديقًا وَشَقرَاوَتَـيْــنِ * وفِي النَّـحْو إنّـهُ لَا يُقهَرُ
فَقالَ لِتُصْلِحْ مُثـنَّاكَ عَـجِّـــلْ * فقُلتُ أَلا مَـرَّةً تَـغْـفِــرُ
لمَاذا تُلاحِقُ صَرْفِي ونَحْوِي * وتَتْرُكُ حُسْنًا ألَا تُبْـصِـرُ ؟
يَمينُك شَمْسٌ يَسَارُك نَجْمٌ * وبَيْـنهُمَا أنتَ يَـــا قَمَـــرُ
تَرَكْتُ ثَلاثـتَهُم فِي وِئَـــــامٍٍ * وَبعْـدَئِـذٍ نَـزلَ الْـمَـطــرُ
ـــــ مجلس السّكلمان ـــــــ
هو مجلس أدبي بأحد مقاهي ضاحية ـ حمّام الأنف ـ أزوره من حين لآخر ويضمّ خاصة الأصدقاء جلال المخ وعبد الحكيم زريّر وفتحي جوعو وصالح الطرابلسي
أَحِـــبَّـــةٌ صَــفْـــوَهْ * تَـوَاعَدُوا ضَـحْـوَهْ
لِــقَـاؤُهُــمْ نَــخْــوَهْ * فِي جَـلْسَـةٍ حُلْوَهْ
بِاَلـشَّايِ وَاَلْـقَـهْــوَهْ * وَأطْرَبَـتْ غِـنْــوَهْ
مَـا أَمْـتَــعَ اَلــنَّـدْوَهْ * حَتَّى إلَى الْعَشْوَهْ
شُكْرًا عَلَى اَلدَّعْوَهْ * فَــإنَّـهَـا نَـــشْـــوَهْ
ـــــــ بيني وبين الشاعر نورالدين صمّود ــــــــ
علمتُ بتعرّض الصّديق الشاعر الكبير نورالدين صمّود إلى بعض الرّضوض إثر سقوطه في إحدى ردهات منزله ممّا لزم نقله إلى إحدى المِصحّات فأرسلت له هذين البيتين يوم9 جانفي 2020
أبَا النُّورِ هَبْهَا كَسَقْطِ العَرُوضْ
فَقُمْ للبُحُور بِرغْمِ الرُّضُــوضْ
طبيبٌ لِكُلِّ الزّحَافاتِ أنـــتَ
وأنتَ العليمُ بِسَبْكِ القَريضْ
وبعد أيام قليلة إثر تماثله للشّفاء أرسل لي هذه الأبيات
شكوتُ إلى اللّه شكوَى المريضْ
من الزّمن المُتعدّي البَغيض
رآني طبيبًا لكلّ القوافِـــــــــي
وراسخَ معرفةٍ بالقَريـــــضْ
وأبصرني كالخلبل بصيـــــــــرًا
بكلّ رحافات عِلْم العَـروضْ
إذا ما أردتُ النّهوضَ اِستعنتُ
بطفلٍ صغيرٍ بذاكَ النُّهـوضْ
وناديتُ عزمي: رجوتُك عُدْ لِي
ولا تترُكْنِي ضعيفًا مَهيــــضْ
ـــــــــ بيني وبين الشاعر الشاعر عبد الرحمان الكبلوطي ــــــــــ
اليوم وقبل أن أدلف إلى بيتي قابلني كتاب في صندوق البريد فإذا هو آخر ما أصدر صديقي الشاعر الأستاذ عبد الرحمان الكبلوطي كتاب بهيّ في طبعة جميلة أنيقة بعنوان – من شعراء القيروان على مرّ الزمان – وعندما
فتحتُ الصفحة الأولى وجدت إهداءً باذخا دبّجه في الأبيات التالية
حيـثـما كنتُ بـخضرائي أطوفْ
طالعـتـنـي ذكرياتي مع سُوفْ
فـأنـا كنــتُ ومازلــتُ وأبــقَى
بـصدـيق العمر واللّه شَـغوفْ
ولهذا كـلّـما أكـتُـبُ شِـعْــــرا
نحوهُ يسعَى كلامي والحُروفْ
شكرا جزيلا صديقي الأديب والشاعر الكبير الأستاذ عبد الرحمان الكبلوطي وكتبت إليه في نفس اليوم ليلا أقول
يَــا صـديقي أنـتَ خِـلٌّ ورَؤُوفُ
وهَــدِيّـاتُــك مِـنهُـنّ الــرُّفـوفُ
فَــدَواويـنُــكَ بَـــاقــــاتُ وُرُود
رُبَّ وَرْدِ مِنهُ كمْ فَاحَتْ حُـرُوفُ
أنـتَ غَـوّاصُ لَآلِيـهَا الـقَوافِــي
يا زَمانًـا مُـلِئتْ زَيْـفًـا كُــفُـوفُ
تونس 3 ـ 5 ـ 2023
ــــــ أنجزتْ حُـرّةٌ وَعدَها ـــــــــ
أَنْــجَــزَتْ حُـرَّةٌ * وَعْـدَهَا رَاضِـيَـهْ
وَشَفَتْ شَـوْقَنَا * إِنَّـهَا اَلـشَّافِـيَــهْ
أقْـبَلَـتْ تَـرْفُـلُ * بَــاقَــةً زاهِــيَـهْ
دَقَّــــةً دَقَّـــــــةً * كَـعْـبُــهَا آتِـيَــهْ
سَلَّمَــتْ فَرَنَـتْ * نَـغْــمَةً شَادِيَــهْ
سَلْسَبِـيـلًا جَرَتْ * رَقْرَقَتْ صَافِيَهْ
وَسَـقَتْ فَنَمَـتْ * تِـلْكُمُ اَلـدَّالِــيَـهْ
إِذْ هَفَـا ظِـلُّــهَا * مَـوْجَـةً حَانِــيَــهْ
شَــقَّـهَا زَوْرَقِي * شَامِخُ اَلسَّارِيَـهْ
فَسَبَــحْنَا اَلْهَوَى * لُــجَّـةً حَامِــيَـهْ
ـــــ آية الحُسن ـــــ
حُورِيَّةُ اَلْإِنْـسِ جَـاءَتْ * وَوَجْـهُـهَـا مِحْـرَابُ
كَأَنَّهَا اَلشَّمْسُ لَاحَـتْ * نُــورٌ وَفِـيـهِ تُـذَابُ
تَـنْـدَاحُ فَـهْــيَ رَدَاحٌ * رَقْرَاقَـةٌ وَاِنْـسِـيَابُ
تَمْشِي بِوَقْعٍ خُـطَــاهَا * أَلْـحَانُـهُـنَّ ربابُ
كَأَنَّ مِنْ خَطْـوِهَا قَـــدْ اِسْــتَلْـهَـمَ زِرْيَابُ
وَاَلشَّـعْـرُ جَـذْلَانُ رَفَّ * مِثْلُـهُ رَفَّـتْ ثِيَابُ
فَشَالُهَا فِي اِنْـثِـيَالٍ * مُهَفْهَفٌ واِنْسِكَابُ
مُوشّــحٌ كَالـــرَّبِـيــع * وَرَفْرَفَتْ أسرابُ
فَاِخْضَرَّ حَتَّى اَلرَّصِيفُ * وَنَــوَّرَتْ أَعْشَابُ
حَـتَّى اَلْبِحَارُ تَحَـلَّـتْ* أمَّا الضِّفَافُ رُضَابُ
حَتَّى اَلصَّحَارِي رَوَتْـهَا * فَمَادت الأعنابُ
فَـاِزَّيَّـنَـتْ وَاحَــــاتٌ * بَـنَـانُــهَا عُـنَّـــاب
وَاَلصَّابَـةُ قَـدْ جَادَتْ * وَزَالَ ذَاكَ اَلْـيَـبَابُ
آلَاءُ خَـيْرٍ وَعَمَّتْ * مِنْ حُسْنِهِا كَمْ عُجَابُ
آيَـاتُ حُسْنٍ تَــرَاهَا * وَاَلْلُّـطْـفُ وَاَلْآدَابُ
فَــإِنَّــهَـا اَلْإِبْـدَاعُ * لَا يَـحْـتَـوِيــهِ كِـتَـابُ
تَبَارَكَ اَلْـلَّهُ خَـلْقًا * لَا شَيْءَ فِـيهَا يُعَابُ
يَا عَاشِقًا تَتَمَنَّـى * وَاَلْوَصْلُ هَلْ يُسْتَجَابُ
ثَـغْرٌ هُوَ اَلْكَوْثَـرُ اَلْعَذْبُ لَـيْـتَــهُ أَكْــــوَابُ
! ظَمْآنُ أَنْتَ وَلَكِنْ * هَيْهَاتَ يُرْجَى اَلسَّرَابُ
ــــــــــ قدماها ــــــــــــ
وَصَفُوا الحُسنَ بِرسْمٍ وبِشِعْر* كلّها الأوصافُ قالتْ :قَـدَمـاهَــــا
قَدمَاهَا وَهيَ جَذْلَى فِي خُطاهَا * زَهَراتٌ مَائساتٌ فِي رُبَـــاهَــــا
قَدماهَا سِنْفُنِيّاتٌ تَهادتْ * لَحْنُها العذبُ إلى قلبِي تَــــنــاهَـــــــى
قَدمَاهَا مَرمرٌ صافٍ صَقيلٌ * وينابيعُ زُلالٍ قَــــدمَــــــاهَــــــــــا
قَدَمَاهَا رَشْفُ شَهدٍ…لُطفُ وَردٍ * لَيْتنِي قَبّلتُها…حتّى حِـــذاهَــــا
ـــــــــــ شفتاها ـــــــــــ
شَفتاهَا قَطفُ وَرْدٍ شَـفَتـــاهَا * شَفَتاهَا رَشْحُ شَهدٍ شَفتـاهَا
اَلْحَــلاواتُ جميعًا مِنْ ثِــمَـــارٍ * وغِلالٍ أَعذبُها شَفـتـــاهَـــا
وإذا ما اِبتسمتْ تلكَ شُمُوسٌ * أشرقتْ مِن سَناهَا شَفتاهَا
فإذا الكونُ ســلامٌ وجَـمـــالٌ * وفَراشــاتُ رَبيعٍ شَـفتـاهَــا
ذَاكَ ثغرٌ مِثْلُ رَشْفٍ مِنْ كُرُومٍ * إذْ عَصْرنَا فَشفانَـا وَشَفاهَا
ــــ اِسْقِني ــــــ
اِسْقِني…ورَنَتْ اِسْقِنِي * طَفَحَ السّيلُ لَمّا سَقَا
صَبَّ فَيضًا على ظمًإ * فَاِرتوَى الزّرعُ وائْتلَــــقَا
والْبَـسَاتِــينُ اِزّيَّـنَـتْ * حُسنُها لاحَ إسْـتَـبْــــرَقَـا
ضَمَّها ضمَّةً هَــــزَّهَا * قَـدُّها مَائسٌ مِـنْ نَـــقَــا
وَرْدُها فَتَحَ…واِنتَشَى غُصنُها… بَـعْـدمَــا أوْرَقَـــا
مِثلُهُا شَهْدةٌ رَشَحَتْ * قَطرَةً…قَطـرَةً…شَبَـقـا
ــــــ شَوقٌ على شَبَق ـــــ
شـوقًـا سَـارت بخُـطى الخَـبَـبِ
طـرَقـتْ بابـِي بـيـن الـــطّــرُق
بـاتــت مـــــا بـاتـت لـيـــلـتَــها
مــا أطولَـه الـلّيـلُ فـــي الأرق
جاءت أشرقَ العشقُ في عينها
لمّــا بـاحـتِ الـعـيـنُ بالـشّـبَـق
مثلَ بُهرة شمس الضُّحى حِيـنًا
أو كـمِثـل أفُولٍ فــي الغـسَـق
قـلـتُ أهْـــلا مولاتِـي مَـرحـبًـا
واّرتمـتْ بيـن صدري والعُـنُـق
عـانقـتني فـي وَلَــهٍ وبَــكَـــتْ
رُوحِـي تَـفـدِي دمعـةََ الـحَـدَق
عــانقـتـني عـانـقـتُــها صِــرنَا
كـجناحـيْـن طــارَا فـي الأفُـق
ــــــ بَيْنَ اَلْعَيْنِ وَهُدْبِهَا ــــــ
يَا عَيْنُ دَمْعُكِ صَــعْـبُ * فَاِبْكِي أصَابَـكِ هُـدْبُ
مَنْ قَدْ حَمَاكِ رَمَــــاكِ * فَـلَا يُفِـيـدُكِ عَـــتْـبُ
إِنَّ الْوَدُودَ تَـجَــافَـى * كَمْ كانَ يُسْـلِيـهِ قُــرْبُ
أَصْبَحْتِ ذَاكَ اللَّــــدُودَ * فِيكِ اَلْمَخَالِبُ نَشْبُـ
وَقَالَ : قِـيـلَ وَقَــالُـوا * وَكَمْ تَـحَـدّث صَحْبُ
فِي كُلّ شِعْبٍ مَشَـيْــتِ * رَآكِ دَرْبٌ… وَدَرْبُ
كُلُّ الذّنُوبِ اِدَّعَوْهَا عَــلَيْـــكِ, لَـمْ يَـبْــقَ ذَنْـبُ
هَذِي السُّيُوفُ وَسُلَّتْ * وَاَلسَّهْمُ نَحْوَكِ صَوْبُ
هَيْهَاتَ يُجْدِي الْـوَفَــاءُ * لَا شَيْءَ فِيكِ يُحَـــبُّ
إِلّا شِـوَاءَكِ لَـحْـــــمًا * وَكَأسُ دَمْعِكِ عَـــذْبُ
فَلْيَشْرَبُـوا بِاَلـشِّفَـاءِ * مَرْحَى لَهُمْ ذَاكَ نَخْــبُ
كَـلَّا ! أَيَا عَيْـنُ كُـفِّــي * ربَاطُ جَأْشِكِ صَـلْــبُ
مَا أهْوَنَ الدَّمْعَ مِنْــكِ * عَمَّا يُـجِيشُـهُ قَــلْــبُ
قَلْبٌ شُجُونُـهُ حَطَّـتْ * بِكَـلْـكَلٍ ثُمَّ سُـــحْـبُ
قَلْبٌ وَبَيْنَ اَلْمَحَطّاتِ * ضَــــاعَ مَـا لَـــهُ أَوْبُ
قَلْبٌ حَوَتْهُ اَلْــبِـــلَادُ * ضَاقَتْ بِـهِ وهيَ رَحْبُ
فَلا اِخضِرارٌ بَـهِـيــــجٌ * وَلا زُهُـورٌ وعُـشْــــبُ
وَلَا تَبـــاشِـيـرُ خَــيْــرٍ * إلَّا اَلْجَـنَـازَاتُ رَكْــبُ
أعْوامُ قَحْطٍ تَوالَتْ * عَمَّ الفَــسَـادُ وخَـطْـبُ
فِي كُلِّ يَوْمٍ جَدِيـــدٌ * شَيْءٌ غَريبٌ وَعُجْـــبُ
وتُـونِــسٌ أوْحَـشُـوهَا * وبالشّعَاراتِ صَــخْـبُ
أَبْـنَــاؤُهَـا أَهْـمَلُـوهَـا * فَــمَــا أَشَــدَّهُ كَـــرْبُ
فَــكُـــلُّ سَــاعٍ إلَيْـــهَـا * إلّا وَسَــعْــيُــهُ إرْبُ
مِنْ مَشْرقٍ ذَا يَـكِـيــدُ * وَذاكَ مَكْـرُهُ غَـــرْبُ
كَاَلْكَعْـكَةِ اِقْـتَـسَـمُوهَا * فَأرٌ وأفْـعَـى وَذِئْــبُ
وَيْحِــي أَضَاعُوا اَلْبِـلَادَ * يَا لَوْعَتِي أيْنَهُ شَـعْـبُ؟
! نَادَيْتُ ـ وَاَلصَّوتُ بَـحَّ ـ * وَاحَـرَّ قَلْبَاهُ هُـبُّــوا
ــــــ الحمامة الظامئة ــــــــ
مِثْلُهَا فِـي اَلْحُسْنِ وَرْدَهْ * عَذْبةُ الثَّغْرِ كَشَـهْدَهْ
شَـعْـرُهَا ذاكَ الحَـريـرُ * ليسَ سَهْلًا أنْ تَـصُدَّهْ
إذْ تَهَادَى فِي اِنْسِـيَـابٍ * كَـنَـسِـيمٍ مَـسَّ خَـدَّهْ
مِــثْـلَ رَفٍّ لِلْـحَـمَـــامِ * ظامِـئًـا يَـنْـهَـلُ وِِرْدَهْ
فَـــرَوَاهَـا مِــــنْ زُلالٍ * بِـحَــــنَـــــانٍ وَمَـوَدَّهْ
ثُمّ آواهَا بِِـلُـــطْــــــفٍ * صَدرَهُ لاقَـتْ…وَزِنْـدَه
إنّـمَا الـدُّنــــيَـا أمَـانٍ * كُلُّهَا الدُّنيَا… وَعِــــنْـدَهْ
ــــــــ دُرّة المحفل ـــــ
رُبّ عينٍ رَمت * سحرُها يفعلُ
إذْ أصابت رشًا * حُسنُها أكمـلُ
فالْتوى كعبُها * ثِـقَـلا يـحمـلُ
من كثيبِ النّقا * قدُّها سَرولُ
مائسٌ خطوُها * مَيسُها جدولُ
فــإذا بَسمت * ثـغرُها مَـنهلُ
دُرّةُ المَحفل * لـيـتـها تـحفـلُ
وترى عاشقًا * إنّـها المَأمــلُ
ــــــــ النّجمُ والهِلالُ ــــــ
حَنانـيْكِ طـالَ الــدَّلالُ * فَحَسْبُكِ هَذا الجَمالُ
وسُبحانَ مَنْ قد بَراكِ * أَبَـعْـدَ الكمال كمـالُ
فَتِيهِي بِعُجْبِ الحِسَان * كمَا جَال ذاكَ الغَزال
وزيدِي شُموخَ الجَلال * فَـما طـاوَلتْكِ الجِبال
فحتّى شديدُ الصُّـخُور * تَرَقْـرقَ مـنـهُ الـزُّلال
وصارَ يُروّي الفَـيافِي * ثِـمـارٌ لــهَا واِنْـثِـيَــال
حَنـانـيْك جُودي بلَمْح *وحـتّـى بِحَـرفٍ يُـقـال
وإمّا دعـاكِ الـغُــرور * حَـذاري فذاكَ الوَبـال
فإنّـي أبِــيٌّ عَــصِـيٌّ * أحِـبُّ الـتَـحدّي أنَــال
إذا كنـتِ نجمًا فَـإنّي * وفَـوقَ النّـجُـوم هِـلال
ـــــــــ كوكبُ الحُسن ـــــــــ
رُبَّ حُـسْـنٍ غَـدَا * مَـثَـلًا يُضْـرَبُ
مَا رَأَى شِبْـهَـهَا * مَـشْرِقٌ مَغْرِبُ
فَإلَـيْـهَا اَلْـبَـــهَا * دَائِـمًا يُـنـسـب
إِذْ سَنَاهَا بَـدَا * فِي السَّمَا كَوْكَبُ
حُـسْـنُـهَا آيَــــةٌ * بِـدْعَـةٌ عَـجَـبُ
أَقْبَلَتْ تَـرْفُــلُ * مِـثـلُهَا مَـوْكِــبُ
نَشَرَتْ شَعْرَهَا * نَسْمَةً تَلْـعَـــبُ
عَقَدَتْ شَالَهَا * إنْ نَـضَا تَسْـحَبُ
وَالْخُطَى نَغْمَةٌ * كَـعْبُـهَا يُــطْرِبُ
فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ * دُمْ وتَـاكْ تُضْرَب
مَـائِـدٌ غُصْـنُـها * رَقَـصَتْ رُطَـبُ
قَدُّهَا هَـيَـفٌ * فِي الْمَدَى مَرْكَبُ
بَـحْـرُهُ زَاخِـــرٌ * هَائِــجٌ يَصْـخَب
مَـــدُّهُ جَــزْرُهُ * سَـاحِـلٌ أرْحَبُ
بِكَثِيـبٍ النّـقَـا * قـد عَـلا كَعْـثَـبُ
قَـدْ حَوَى دُرَّةً * غَوْصُهَـا يَصْـعُب
نَظَرَتْ رَشَقَتْ * نَـبْـلُـهَا أصْـوَب
مِثْلَ رِيمِ اَلْفَلَا * مَا لَــهَا مَـقْـرَبُ
وَرْدَةٌ خَدُّهَـا * وَالـشَّذَى أَطْـيَـبُ
ثَـغْـرُهَا كَـوْثَـرٌ * عَـسَلٌ يُسْـكَبُ
والجبـينُ صَـفا * صفحةً تُحسـبُ
فكتبـنا الـهوى * والهوى يُكـتـب
أحرُفًا من سَنَا * نَـقـطـها ذهـب
حُسنُـها كــامل * تَــــمَّـهُ الأدبُ
ــــــ الفُـســتـان ــــــ
فُـستانُها بُـستـانُـها * تَنـاسقتْ ألوانُـها
أزْرَارُهُ أزهَــــارُها* كــأنّــهُ جِـــــنَـانُــها
وأيْـنـعَــتْ ثِـمـارُهُ * فـقـدْ بَـدَا زمانُــها
مِـنَ الغِـلالِ كُـلِّــهَا* تَمَايـلتْ أغـصَانُـها
تأرْجَحَتْ تَرَجْرَجَتْ* ومُنـعِـشٌ رَيْـحانُـها
بَعدَ اِنتـظار هِـيـتَ لَكْ * الآن ذَا أوَانُـــها
بِالاِبتِسَام أقْبَـلـتْ * وقَدْ دَعَتْ أحْضانُـها
فَبَعْدَ عُسْر أيْسَرَتْ * وَلَانَ لِـي حَنـانُــها
حَتّى الدَّوالِي رَقَصَتْ * ورَفْرَفَ رُمَّـانُـها
تَـعـسَّـلـتْ تَرَقْرَقتْ * تَـرنَّـمَتْ أفنـانُــها
لِقَـطـفِهَا تَغـنّـجَتْ * وَاِسْتسْلَمَ عِـنَـانُـها
فاِنطلقتْ كالمُهْرةِ * إِذَا اِسْـتوَى مَيدانُـها
وقَدْ عَـــلَا صَـهْوتَها * مُـفَرَّسٌ وَلْـهَــانُـها
وشَدّ شَـدّا سَرْجَها * تزَعْـزَعَتْ أركاتُـها
فَحَمْحَمَـتْ ضَابِحَـةً * تأجَّـجَتْ نِـيـرَانُـها
حَــامِـيةٌ آهـاتُــــها * حَـالـمِـةٌ أجفَـانُــها
تَــلـهّـفت لَــذَاذَةً * أنَّّـى لَـهَا كِـتْـمَـانُـها
واِنتفَضتْ من نَشوةٍ * فِي عَينِها لَمْعَانُها
أَمِـــيــرةً بَـايَـعْـتُـها * قَالتْ أنَا سُلطانُها
٠
ــــــــ كمال الجمال ــــــــ
إلى الصديق محمد علولو
نِصْفُ الجَمال بَياضٌ * ونصفُه قِيلَ طولُ
في وَصفِها يا صديقي * ماذا تَراني أقول
قد أبدع الله حُسنًا * فـليسَ منها مَثيـلُ
فالوَجْـنَــتـان كَـــوَرْدٍ * لا يَـعْـتَـريهِ ذُبول
مُــفَـتَّـحٌ وبَـهِـيـــحٌ * مَهْما تَوالتْ فُصُول
وثـغـرُها لُـؤلـؤاتٌ * بَسْماتُهـا سَلسَبيلُ
في كلّ يـوم تُمنِّـي * ومَـا إليـها وُصُـول
وإنّـها فِــي بُــرُوج * وحِصنُـها مُستَحيـل
!ولا صُــعُـودٌ إلـيْــها * فليتَ منها نُــزُول
ـــــــ قيل وقالوا ــــــ
تـقُوليـن عنّـي * بِـأنّـي وأنّــي
يطـولُ العتابُ * وزادَ التّـجنّي
لمَاذا الشّكوكُ * ألا فَاِطمَئـنّي
فَـــإنّـي إلـيـكِ * وإنّـكِ مِــنّـي
جناحَان نـحـنُ * وطارَا بـلحْن
بَـعـيـدًا بَـعـيدًا * وفي كلّ فَنّ
فأنتِ الأمـاني * ونِعمَ التّمنّـي
ـــــــ والفجر ـــــــــ
رأيتُ الفجرَ إنْ أتَى * مَعَ الغُروب مَاضيَا
ألا هيهاتَ أن تـرَى * لكَ الزّمانَ بَاقِـــيَا
فَودِّعْ يا فتَى الْورَى * وقُلْ أنْ لا تَلاقِــيَا
تُراب اللّحْدِ قد دعَا * فعَفوًا يا إلاهِـــــيَا
ـــــــ أنُو شَروان ـــــــــــ
في عَامهِ الخمسين
لجُلوسه على العرش
اِنتصب أنو شروان في صدر الإيوان
بين يديه الأمراء والوزراء والأعيان
والجواري والغلمان
*
صامتًا ظلّ أنو شروان
لم ينبس ببنت شفة
ولا حتّى اِبن لسان
أطرق زمنا
وجم الحاضرون في أماكنهم
لا أحدَ يجرُؤ على الكلام
طال إطراق أنو شروان
فجأةً هزّ رأسه كسرى أنو شروان
وقال ـ أتدرُون ما ألذُّ شيء في الدنيا ؟
لا أحدَ عزم أمره أجاب
*
حينذاك قال كسرى أنو شروان
ـ أخذتُ من الدنيا كلّ شيء
شربت حُلو الشّراب
أكلتُ شهيّ الطعام
لبست فاخر الثياب
أنا الذي سلطانه من هنا
إلى أقاصي البلدان
نلتُ من كلّ حُسن وجمالْ
فلم أجدْ في الدّنيا
ألذَّ
! من مُحادثة الرّجالْ
ـــــ السّبعُون ــــــ
سَنةٌ فِي سَنةٍ يا سَنواتْ
هذه السّبعونَ لاحَت
كيفَ مرّتْ سنواتْ
ذكرياتِي تَتَوالَى
لحَظاتٍ لحظاتْ
لَكانّي الآنَ طفلٌ
تِلكَ أختِي
بعَرُوس منْ قُماش
يحملها هَوْدجٌ من قَصَبْ
بأهازيج الغِناءْ
هَدْهَدَتْنِي
والصّدَى تِلْوَ الصّدى
شَقّ المَدى
زَغْرداتٌ زغرداتْ
***
سَنواتٌ سَنواتْ
غَارُنا والحَوْشُ رَحْبٌ
فِيهِ أُولَى الخَطواتْ
عَثَراتٌ عَثراتْ
كمْ سَقَطْنا
ونَهَضْنا
وَسَقَطْنَا
فَوَقَفْنا
ثمّ سِرْنا
فأمامٌ
وأمامٌ…وأمامْ
وعَلى الشّوْكِ القَدَمْ
أوْ حُفَرْ
لا نُبالي بالخَطرْ
وعَلى حَادِّ الصُخُورْ
كمْ حُفاةً قد جَريْنا
وإذا الأقدَامُ سَالتْ بالدّماءْ
فَبِشِيح وَبِرَمْلٍ نَتَداوَى
مِن أعَال كمْ قَفزْنا
فاِنخَدَشْنا واِنكسَرْنا واِنجَبَرْنا
وأعَدْنا القَفزَ دَوْمًا
بسُرورْ
كمْ قَطَعْناهَا البَرارِي
وسَلَكْنَاهَا البَوادي
في دُروبٍ ودُروب
وتَسلّقنا الجِبال
فَعَجِبْنَا مِنْ رُسُوم
لغَزالٍ
وَلِفِيلٍ
فِي كُهُوفٍ ومَغَاور
وعَجِبْنا
مِنْ خُطُوطِ ونُقُوشٍ
لأيَائِلْ
بقُرُونٍ مِثْلَ أغْصَانِ الشّجَرْ
وَلِصَيّادٍ بِسَهْم وَرِمَاح
بَيْنَ عُشْبٍ يَتَخَفّى
وَعَجِبْنَا مِنْ رِجَالٍ ونِسَاءٍ
كالعُرَاةِ
فَضَحِكْنا
مَا عَلِمْنا وَقْتذَاكَ
أنّ عَصرًا منْ زَمانٍ قد مَضَى
كانَ…قَدْ كانَ اِخْضِرَارًا
وَبِغَابَاتٍ تَوالتْ فِي المَدَى
وشِعَابٍ سَامِقَاتٍ
وسُيُولٍ كَالْعَرَمْرَمْ
ثُمّ جَفّتْ
يَا جَنُوبًا صَار قَفْرًا فِي قِفَار
مَا عَلِمْنَا وَقْتذاكْ
أنّ فِي هَذا الجنُوب
كانَ عاشَ الدّينَصُورْ
مُنذُ أحْقابِ الزّمَانْ
فخُطَانَا ـ يَا عَجَبًا ـ
وَطَأَتْ أو شَابَهتْ مِنهُ الخُطَى
كمْ عُصُورٍ قَدْ تَوالتْ وعُصُورْ
يَا زمانًا قدْ مَضَى
سَنواتٍ سَنواتْ
***
سَنواتٌ سنواتْ
بِئْرُنا والدّلوُ فيهَا
فِي نُزُول وصُعُود
والثّقُوبُ
قَطراتٌ قطراتْ
كَمْ سَقَيْنا مِنْ شِياهٍ في الْحِياضِ
وَحَلَبْنا بالأيَادِي
لَبَنًا مِثلَهُ شَهْدُ
كمْ مَلأنا مِنْ دِلاءٍ للرُّعَاةْ
ثمّ سَارُوا فِي الفَيافِي
بِسَوِيقٍ وتُمُور
في المَخالِي
مِزْوَدُ المَاءِ رفيقٌ والسَّراب
***
سَنواتٌ سَنواتْ
كمْ كِلابٍ نَهشَتْنا
كمْ أفَاعٍ لَدَغتنا
فَشُفِينا ونَسِينا
سَنواتٌ سنواتْ
كَمْ عَجَنّا الطّين خَيْلا صَافِناتْ
عَادياتِ ضَابِحَاتْ
وعَلى الكُثبان راحَتْ
سَابقَاتْ
فَإذا كلّتْ أَرَحْنا
وجَلسْنا في الظّلالِ
لا نُبالِي
كمْ شَدَدْنا من حِبَالٍ
لِلْأراجيحِ صباحًا
أوْ مَساء
فَترَانا فِي الأعَالِي
بينَ أغصانٍ وريحْ
لكَأنّا قَدْ صَعِدْنا بجَناح وجناح
فِي الفَضاءْ
***
سَنواتٌ سنواتْ
كمْ بَنيْنا من صُخُور عَرباتْ
بسُقُوفٍ مِنْ جَريد
مِقْودٌ كانَ خَشبْ
والفَرامِيلُ عُلَبْ
كمْ بِلادٍ وبلادٍ أوْصَلتْنا
طُرقاتٌ طرقاتْ
وتَدُورُ العَجلاتْ
دَوَرانَ السّنواتْ
***
سَنواتٌ سنواتْ
سَنةٌ في سنةٍ حتّى بَلغتُ السّادسة
ذاكَ فَجرٌ
لاحَ نُورًا وجهُ أمّي
مِثلَ شَمسٍ في شُروق
رَجُلًا أصبحتَ قالتْ
كُنْ كذئبٍ عندمَا تلْقَى الذّئابْ
جَمَلًا كُنْ عندمَا تلْقَى الصِّعابْ
وَرَنَتْ لي مِنْ بَعيدْ
في اِلْتِيَاعْ
تلكَ أمّي
دَمَعَاتٍ كَفْكَفَتْهَا
لَمَعتْ مثلَ اللآلي
وأشَارتْ بالوَدَاعْ
لَكأنّي بعدَ أمّي
عِشتُ وحْدِي في ضَياعْ
***
سَنواتُ سَنواتْ
كَم زَهَوْنا في نَجاح هَانئِينْ
وضَحِكْنا
ضَحَكاتٍ ضَحَكاتْ
كمْ رَسَبْنا في اِمتحان
آهِ من دَرس الحِسابْ
فَمَعَ الصّفْر العقابْ
يا عَصَا رُدّي صِبانا
وأعِيديهِ الزّمان
لا نُبالي
رغمَ وَجْعِ الضّرباتْ
ضَربَاتٍ ضَربَاتْ
***
سَنواتٌ سنواتْ
قدْ مَشَيْنا
طرقاتٍ طرقاتْ
وتَعِبْنا…اِسترحْنا
اِنتصَرْنا…اِنهَزمْنا
وبَكَيْنا الحَسَراتْ
دَمَعَاتٍ دَمعاتْ
ورَسَمْنا
وَمَحَوْنَا
مَا اِرْتكبْنا في الزّوَايا
مِنْ خَطايَا
وطوَيْنا الصّفحاتْ
ذِكرياتٍ ذكريات
***
أبْصَرَتْني صَفحَةُ المِرآةِ ضَاءَتْ
فَاجَأتْني بمَشِيبِي
لا أبَالِي
كُلُّ شَيْباتِي قَصَائد
وحَكايَا
واِنتِظارْ
فَاكتُبِِيهَا واُنشُريهَا يا مَرايَا
فِي مَحَطّات القِطار
فَحَياتِي كَكِتابٍ
بسُطور مِنْ سَحابٍ
هَطلتْ أمطارَ حِبرٍ
صَارَ بَحْرًا
فَكتبْتُ الكلِمَاتْ
دمعاتٍ…دمعاتْ
إنّمَا العُمرُ حِكايهْ
بِبدَايهْ
ونِهَايهْ
هَذهِ السّبعُونَ حَلّتْ
فَبِطُولٍ وبعَرْض قَدْ مَلأنَا الصَّفحاتْ
صَفحاتٍ صَفحاتْ
كيفَ مَرّتْ سَنواتْ ؟
ذِكرياتٌ ذِكرياتْ
وأعُدُّ السّنواتْ
سَنواتٍ
سَنواتِ
سَنواتْ
الفهرس