حركات الشعر الجديد بتونس haraket achir aljadid bitounes J للتنزيل ـ اضغط على الملفّ ـ
حركات الشعر الجديد
بتونس
سُوف عبيد
المحتوى
-
أوائل الشعرالعربي في تونس
-
الشعر ليس الموزون المقفى فقط
-
براعم الخضراء – سعيد أبو بكر
-
أبو القاسم الشابي في قصائده المنثورة
-
محمد البشروش من الرومنطيقية إلى التصوف
-
بين اِستثناء التجديد وقاعدة التقليد – مصطفى خريف
-
حلقة الوصل ـ أبو القاسم محمد كرّو
-
سكون الرياح
-
تهشيم البرج العاجي أو عودة التجديد ـ صالح القرمادي
-
الضلع الثالث ـ فضيلة الشابي
-
الأغصان المختلفة
-
استراحة المحاربين
-
في المرايا
-
عن الشعر بالشعر
-
اِنعتاق و أشواق
-
في تجديد موضوع الموت
-
النهر يخرج عن مجراه أحيانا
-
من النقطة إلى الأفق
-
عود على بدء
أوائل الشّعر العربي في تونس
تدل كلمة إفريقية على الناحية الشمالية الغربية من إفريقيا ـ خاصة مناطق طرابلس إلى القيروان و منها إلى نواحي تونس و شرق الجزائر ـ أي المنطقة التي مثلت الولاية التي كانت تشمل ناحية ما بعد مصر في عصر الفتوحات وفي عهد الدولتين الأموية و العباسية إلى أن اِستقلت تلك الناحية في عهد الدولة الأغلبية عند آخر القرن الثاني الهجري .
لقد ورد في كتاب ـ الحُلل السندسية في الأخبار التونسية ـ للوزير السراج بالجزء الأول منه خبر أن ببلاد المغرب مقبرة فيها عشرة من الصحابة بعثهم أهل المغرب رسلا لرسول الله – صلى الله عليه و سلم – فدخلوا مسجده الشريف فلما وقفوا سألوا عنه – صلى الله عليه و سلم – بلسانهم ) آذا ما زان إيربي( و هي كلمات بربرية : فآذا معناها أين، و آمازان معناها رسول، و ايربي معناها ربي، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :- آشكاب – و معناه – و الله أعلم – أي شيء تريدون – انتهى الخبر (1)
فهذا الخبر إن كان صحيحا يدل أن العلاقة كانت موجودة بين العرب و البربر قبل الفتح و تمثلت هنا في تبادل العبارات بين الوفد المغربي و الرسول عليه الصلاة و السلام و لا شك أن الاتصال بين الشمال الإفريقي و بين الجزيرة العربية في بعض النواحي كان قائما بينهما من خلال الفراعنة و الفينيقيين و قد بدأ الفتح العربي الإسلامي لإفريقية في عهد عمر بن الخطاب الذي ورد عليه الشاعر أبو ذؤيب الهذلي و هو خويلد بن خالد من بني هذيل و أبو ذؤيب يعتبر من الشعراء المخضرمين الذين عاشوا في الجاهلية و أدركوا الإسلام و عندما سئل حسان بن ثابت، من أشعر الناس في عصره قال أبو ذؤيب الهذلي و هو صاحب القصيدة الشهيرة التي مطلعها :
أََمِنَ المَنُون و رَيْبها تَتَوجّع و الدّهرُ ليس بِمُعتب مَن يجزعُ
و هي من عيون الشعر العربي القديم في الرثاء ناهيك أن المنصور العباسي لما مات ابنه جعفر طلب من ينشده القصيدة فلم يظفر بأحد من بني هاشم ليحفظها له فقال : و الله إن لمصيبتي بأهل بيتي أن لايكون فيهم أحد يحفظ هذا لقلة رغبتهم في الأدب أعظم وأشد علي من مصيبتي بابني) 2( .
و تقول الأخبار أن أبا ذؤيب الهذلي قدم مع ابنه و ابن أخيه على عمر بن الخطاب فقال له : أي العمل أفضل يا أمير المؤمنين؟.
فقال عمر : الإيمان بالله و رسوله، قال : قد فعلت، فأيه أفضل بعده؟ قال : الجهاد في سبيل الله. قال : ذلك كان علي و إني لا أرجو جنة ولا أخاف نارا، ثم خرج فغزا إفريقية التي كانت وقتئذ تابعة لقياصرة القسطنطينية لكنها أمست بيد الولاة الذين استقلوا بأنحاء منها ففي ناحية سبيطلة البطريق جرجير الذي تصدى للعرب المسلمين في هذه الغزوة التي عرفت بغزوة العبادلة بقيادة عبد الله بن أبي سرح و معه عدد من الصحابة منهم خاصة عبد الله بن الزبير و عبد الله بن عمر و عبد الله بن عباس و غيرهم. و يقول صاحب الأغاني في خبر أبي ذؤيب الهذلي إنه قد غزا مع هذه الغزوة فلما أخذه الموت أراد ابنه و ابن أخيه أن يمكثا معه بينما الجيش عائد لكن صاحب المؤخرة منعهما لعل ذلك خوفا على جمعهم من الروم فقال لهم ليتخلف أحدكما و ليعلم أنه مقتول فقال لهما أبو ذؤيب حينئذ : اقترعا ! فمضى ابنه مع الجيش و ظل ابن أخيه معه ينتظر أن يدفنه و يخبرنا الأصفهاني عن نهاية أبي ذؤيب قائلا : كان أبو عبيد – و هو ابن أخي أبي ذؤيب – قال : قال لي أبو ذؤيب : يا أبا عبيد احفر ذلك الجرف برمحك ثم أعضد من الشجر بسيفك ثم أجررني إلى هذا النهر فإنك لا تفرغ حتى أفرغ فأغسلني و كفني ثم اجعلني في حفيري و انثل علي الجرف برمحك و ألق علي الغصون و الشجر ثم اتبع الناس فإن رهجة تراها في الأفق إذا مشيت كأن جهامة، قال : فما أخطأ مما قال شيئا ولولا نعته لم أهتد لأثر الجيش و قال وهو يجود بنفسه :
أبا عُبيد رُفع الكتابُ و اِقترب الموعدُ والحسابُ
و عند رَحلي جمل نجابُ أحمر في حارِكه اِنصبابُ
و يواصل ابن أخيه الخبر قائلا : ثم مضيت حتى لحقت الناس فكان يقال : إن أهل الإسلام أبعدوا الأثر في بلاد الروم، فما كان وراء قبر أبي ذؤيب قبر يعرف لأحد من المسلمين.
و كذلك أخبر الخبر ابن قتيبة في كتابه) الشعر و الشعراء ( 3) ( إن أبا ذؤيب الهذلي يمكن أن يكون أول شاعر عربي دخل إفريقية و ظل فيها إلى اليوم برفاته في مكان ما من النواحي الجنوبية للبلاد التونسية فهو الذي أوطن الشعر المغرب العربي.
و يؤكد أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم القيرواني المتوفي سنة 333 للهجرة في كتابه ) طبقات علماء إفريقية و تونس( و ذلك في فصل ) ذكر من دخل إفريقية من الصحابة و التابعين( قائلا : ) ومن بني هذيل نفر منهم : أبو ذؤيب الهذلي الشاعر توفي بإفريقية فقام بأمره عبد الله بن الزبير حتى واراه في لحده( (4).
أما في كتاب ) معالم الإيمان( للدباغ من جزئه الأول ففيه بعض الأخبار عن أبي ذؤيب حدث قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه و سلم عليل فاستشعرت حزنا و بت بأطول ليلة لا ينجاب ديجورها و لا يطلع فورها فظلت أقاسي طولها حتى إذا كان السحر أغفيت فهتف بي هاتف يقول :
خَطبٌ أجلّ أناخ بالإسلام بين النخيل و مَعقد الآطامِ
قبض النبي محمد فعيوننا تذري الدموع عليه بالتّسْجَام
لكن صاحب ) معالم الإيمان( ينقل كذلك خبر غزو أبي ذؤيب لإفريقية دون أن يؤكد دفنه فيها حيث يقول :
غزا أبو ذؤيب إفريقية مع عبد الله بن سعد ابن أبي سرح و مات بها فدفنه عبد الله بن الزبير و قيل إنه قدم مع عبد الله ابن الزبير بكتاب فتح مصر و قيل توفي بطريق مكة قريبا منها فدفنه ابن الزبير و قيل مات غازيا بأرض الروم و دفن هنالك دفنه ابنه أبو عبيد و لا يعلم لأحد من المسلمين قبر وراء قبره و كان عمر ندبه إلى الجهاد فلم يزل يجاهد حتى مات بأرض الروم و دفنه هنالك ابنه أبو عبيد يروي أنه قال لإبنه عند موته :
(5) أباعبيد رُفع الكتابُ و اِقترب الموعد و الحسابُ
تلك أخبار أبي ذؤيب و الله أعلم.
المراجع :
-
1 ـ الحلل السندسية في الأخبار التونسية – الوزير السراج، تحقيق محمد الحبيب الهيلة – الدار التونسية للنشر، 1970 – الجزء الثاني ص 223.
-
2 ـ الأغاني ج 6 ص 250 – طبعة دار الثقافة – بيروت .
-
3 ـ الشعر و الشعراء – ابن قتيبة – الدار العربية للكتاب 1983 – الجزء الثاني– ص 547
-
4 ـ طبقات علماء إفريقية – أبو العرب بن تميم – تحقيق الشابي و نعيم حسن اليافي – الدار التونسية للنشر – الدار الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985.
-
5 ـ معالم الإيمان للدباغ – تحقيق إبراهيم شبوح – القاهرة 1968.
……………………………………………………………………..
الشعر ليس ـ الموزون المقفى ـ فقط
تبدو ثنائية القديم والجديد من أهم خصائص تاريخ الشعر العربي على مدى أغلب عصوره حيث مثّلت تلك الجدلية تعبيـرا واضحا عما كان يطرأ على المجتمعات العربية من تغييرات وتطورات سواء بسبب التفاعلات الداخلية أو من جرّاء العوامل الخارجية
و لقد كان الأدب في صدارة التعبيرات عن تلك الإرهاصات المختلفة فبرزت بصفة أوضح في مجال الشعر حتى أن اِبن خلدون قد سجل التأثير الاجتماعي على اللغة و فنون الأدب وذلك في ـ المقدمة ـ ففي الفصل الخاص بعلوم اللسان رأى أنّ اللغة تتأثر بما جاورها من ذلك أن عربية قريش ليست هي ذاتها عربية مضر ولاحظ كذلك أن لغة (أي لهجة) أهل المشرق تختلف بعض الشيء عن لغة أهل المغرب وكذلك لغة أهل المغرب تختلف عن أهل الأندلس لأنّ أولئك ـ كما أورد ـ خالطهم الفرس والعجم وهؤلاء خالطهم البربر والإفرنج
و لاِبن خلدون فصل آخر على قدر كبير من الأهميّة ألا وهو فصل ـ في تفسير الذّوق ـ الذي يحصل عند حذق أساليب العرب بالتعلم والممارسة والمدارسة والاِعتياد والتكرار بدون النظر إلى أصل المرء كما حصل لدى سيبوبه والزمخشري اللّذين صارا من أيّمة العربية رغم عجمتهما
و عندما يستعرض تعريف الشّعر من لدن العروضيين في قولهم (إنّه الكلام الموزون المقفّى) فإنه لا يطمئن إلى هذا التعريف بل يدعو إلى ضرورة النظر في الشّعر من جهات أخرى مثل البلاغة والوزن والاِستعارة والأوصاف وغيرها و يخلص إلى تعريف أوسع و أشمل يتمثل في قوله : ــ إن الشّعر هو الكلام البليغ المبنيّ على الاِستعارة والأوصاف المفصّل بأجزاء متّفقة في الوزن والرّوي
إذن قد تجاوز اِبن خلدون مقولة (الموزون المقفى) في الشّعر واِقترح تعريفا بديلا شاملا يؤكد فيه على الأسلوب والصّياغة من دون أن يهمل أهمية المبنى و المعنى ثم يطبق نظريته تلك على أعلام الشعر العربي فيخلص إلى أن الكثير منه ليس إلا نظما ولم يستثن حتى المتنبي والمعري
وإضافة إلى هذا الرأي الجريء و المخالف المتحدّي للرأي السائد
يضيف اِبن خلدون رأيا غريبا آخر يتمثل في نظرته إلى أن ( كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية في منثورهم و منظومهم)
ويضرب على ذلك مثال حسّان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ويفسر ذلك بأنّ هؤلاء قد سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللّذين عجز البشر عن الإتيان بمثلهما )
ويزيد هذا الرّأى الجريء صراحة وبيانا فيقول بلا لبس : ــ واِرتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ــ
بينما السائد لدى اللغويين والمفسرين والأدباء عموما أن كلام الجاهليين يعتبر المرجع في اللغة العربية و أساسها بل كثبرا ما يكون الفيصل عند شارحي القرآن والسنة
يتوضح لنا حينئذ أن رأي اِبن خلدون في الشّعر و اللغة لم يُسلّم فيهما بالتقليد وإنما نظر إليهما نظرة نقدية مخالفة بل معاكسة للسائد و المتفق عليه
و تبدو جرأته النقدية ونظرته الاِستشرافية من ناحية أخرى
عندما دوّن بعض النماذج من قصائد كانت رائجة في عصره من المشرق والمغرب فسجّل شعر الهلاليين ومعاصريهم وكذلك فصّل القول في شعر الموشّحات الأندلسية تفصيلا ضمن مقولاته في اللغة تلك التي تتأثر بوضوح بحركة الحياة في المجتمع و تطوراته المختلفة
هنا تبرز مواقف اِبن خلدون النقدية الثاقبة في اللغة والشّعر تلك التي تمتاز بكثير من الجرأة على ما ترسخ من النظريات القديمة لذلك فإن بعض فصول المقدمة تعتبر أحد المداخل الأساسية في تأصيل حركات تطوير الأساليب الأدبية سواء في النثر أو في مجال الشعر الذي كان لتونس ـ على مدى القرن العشرين ـ إسهامات عديدة في التجديد و التطوير و التجريب ضمن حركات متلاحقة و متنوعة ولكنها ظلت دائما في السياقات العامة للشعر العربي ذلك الذي كان ينبثق خافقا حينا خافتا بين الحين والآخر في هذا الجناح أو ذاك من بلاد الضاد
……………………………………………………………………..
براعم الخضراء
سعيد أبو بكر
لقد كانت تونس على مدى تلاحق عصورها متفاعلة مع محيطها العربي والمتوسطي ويتجلى ذلك أيضا في العصر الحديث خاصة منذ الدعوة إلى مقولة الإصلاح عند مطلع القرن التاسع عشر الذي شهدت تونس فيه عدة مبادرات رائدة مثل إصدار قانون تحرير العبيد سنة 1846 ثم إصدار الدستور إثر ذلك و ما تلاهما من إصلاحات و تنظيمات أخرى ظهرت بعد منتصف القرن التاسع عشر ومن أهمها ما أحدث في المجال الثقافي كإصلاح مناهج التعليم بجامع الزيتونة و إنشاء المدرسة العسكرية والمطبعة الرسمية وإصدار جريدة الرائد وقد تُـوّج ذلك المشروع الإصلاحي وقتذاك بتأسيس المدرسة الصادقية التي كانت كمثل الخلاصة والمنبر المعبر عنه و لكن و رغم الاِنتكاس السياسي الذي اِنتهى بالاِحتلال الفرنسي سنة 18881 فقد تمخض القرن التاسع عشر على بروز نخبة من الشيوخ و الأدباء و جمهرة من المثقفين جعلت هدفها تحرير البلاد من الاِحتلال و الاِرتقاء بالتونسيين إلى المدنية الحديثة وقد جعلت منطلقها الأول الاِرتكاز على تراث تونس العربي والإسلامي مع ضرورة الاِقتباس من منجزات الحضارة الأوروبية الوافدة.
ذلك هو المناخ العام الذي مهد بصفة مباشرة لظهور جميع التعبيرات المختلفة التي لاحت في تونس عند مطلع القرن العشرين بحيث أن الجيل الجديد الذي ظهرت أنشطته ومساهاماته في أوائل هذا القرن إنما تغذى وترعرع في ظل ذلك المناخ بما خيم عليه من آلام وما جال فيه من أحلام.
من بين ذلك الجيل الشاعر سعيد أبو بكر
سعيد أبو بكر أحد رواد التجديد الشعري في تونس و هو المولود يوم 28 أكتوبر 1899بمدينة المكنين و المتوفى يوم 29 جانفي 1948 فيكون بذلك قد عاصر النصف الأول من القرن العشرين و هي المرحلة التاريخية الخصبة في تطور الثقافة بتونس تلك المرحلة التي قطعت مع كثير من الأشكال و المضامين التقليدية و أرست الجسور الأولى للتجديد الأدبي و الثقافي.
عند العودة إلي ديوان (السعيديات) الذي صدر سنة 1927 م نقرأ مقدمة الشيخ راجح إبراهيم الذي اِحتضن الشاعر سعيدا أبا بكر و رعاه و شجعه و هي مقدمة مهمة لأنها تعرّف الشعر كما يلي:
-
– الشعر هو الشعور الذي يملأ الفؤاد فيهزه سرورا و حزنا و رهبة و حماسا و فخرا و هو الإحساس الذي يفيضه ذلك الشعور على اللسان فيشدو مغنيا صادقا فيهز بنبراته أوتار القلوب و يحرك بنغماته سواكن الشجون و يثير في النفوس أمانيها و أحلامها فتنبعث في سبيلها غير عابئة بشيء – ص 7 –
ينطلق الشيخ راجح إبراهيم إذن من الوجدان في تعريفه للشعر قبل أي منطلق آخر و هذا تعريف للشعر مهم لأنه يعبر عن نظرة جديدة لدى عدد مهم من الأدباء في مطلع القرن العشرين ذلك المفهوم الذي يعطي الاعتبار الأول للمضمون الوجداني و لا نراه يحفل كبير اِحتفال بالشكل القديم الذي ظل مسيطرا ردحا طويلا و هذا ما يفسر جنوح الشاعر سعيد أبي بكر إلي القول بحل قيود الشعر و إدخال أوزان جديدة عليه و هو أول شاعر تونسي تجاسر و نظم على نسق الأوزان الجديدة التي اِبتكرها شعراء المهجر بالإضافة إلى تلك التي اِبتكرها لنفسه و أصبح له فضل اِبتداعها غير مبال بالانتقاد الذي كان يوجهه إليه أناس كثيرون في بادئ الأمر ثم ما لبث أن اِقـتدى به بعض الشعراء المعاصرين له حيث أصبحنا نرى من حين لآخر على صفحات الجرائد قصيدة من الشعر الحديث – ص 21 –
هذه شهادة على غاية من الأهمية كتبها الشيخ راجح إبراهيم حول ما كان يجول من ملابسات أدبية وفكرية في ذلك العهد من سنوات العشرين من القرن العشرين و تؤكد أن محاولات التجديد في الشعر – على مستوى الشكل – تعود إلي اِجتهادات سعيد أبي بكر مع العلم أن الدعوة إلي الشعر العصري في تونس قد سبقته بسنوات عديدة إذ أننا نقرؤها منذ السنوات الأولى من القرن – سنة1903 – في صحافة تلك الفترة مثل جريدة – الحاضرة – و مجلة السعادة العظمى– اللّتين شهدتا سجالات فكرية و أدبية عديدة و قد تضمنتا مواقف متقابلة بين المحافظين على السلامة اللغوية و على نقاوة اللسان و جمال الذوق من ناحية و بين الداعين إلى ضرورة ملاءمة الأدب و الشعر خاصة للواقع الحضاري الجديد.
قد أكد الشيخ راجح إبراهيم في مقدمته تلك أن بوادر النهوض في تونس بدأت تلوح منذ تولي أحمد باشا باي الحكم سنة 1837 لكأن هذا الشيخ يردّ حينذاك على الدعاية الاستعمارية التي تقول تروّج أن عهد الاستعمار الفرنسي هو الذي دفع بالبلاد إلي الرقي – ص 13- غير أن الشيخ من ناحية أخرى لا يـنكر فضل الجاليات الأوروبية التي اِستقرت بتونس في تطور الذهنية التونسية حيث يقول إنه قد وفد مع النازحين من ديار الغرب – أوروبا – طائفة فاضلة من العلماء و الأدباء و الباحثين و المفكرين اِحتكوا بأبناء البلاد و اِمتزجوا بهم و نشروا أفكارهم و أبحاثهم بمختلف الأساليب فكان من مجموع ذلك تأثير عظيم على العقلية التونسية –ص 15 ـ
ثم يورد الشيخ راجح إبراهيم كذلك شهادة أخرى مهمة تتمثل في التأثير القادم على تونس من البلاد المصرية قائلا : و هناك عامل آخر لا يقل عنه تأثيرا و هو أرض الكنانة الكريمة في هاته الآونة تسير في سبل الرقي سيرا حثيثا و تخطو نحو الحياة العصرية بخطوات واسعة و قدم ثابتة و بصيرة نافذة وكانت ترسل أشعة هذه الحركة المباركة على الأقطار العربية بواسطة الصحف فكان لذلك الباث المحمود على أبناء تونس إذ كانوا أشد الناس تاثرا و اِقتداء بسيرة هاته الأخت الكريمة الناهضة – ص 15-
إن مقدمة الشيخ راجح إبراهيم لديوان السعيديات قد وضعت تجربة سعيد أبي بكر في إطارها التاريخي و الثقافي و الأدبي العام و هي من ناحية أخرى أبرزت خصائص الشعر لديه من حيث المبنى أما من حيث المعنى فإن راجح إبراهيم يؤكد على أن الشاعر له صفة المحارب قائلا : ( سعيد يحارب – و هو محارب جسور – للاِستبداد و البدع و المروق و المدنية الفاسقة و التذبذب و التلون في المشرب… يناصر الحركة الوطنية و الأخلاق الفاضلة و يخدم العلم و الأدب يذوب لطفا و رحمة على الضعيف و اليتيم و المنكور، يناضل عن المرأة و يدعو لتحريرها و تثقيفها تحت راية القرآن و في حدود الشريعة) – ص 12 –
غير أن ديوان السعيديات يشتمل على مواضيع أخرى مهمة مثل معاناته للغربة التي يلقاها المبدع في بيئته و مثل القصائد الوجدانية من خلال وصف الطبيعة.
إن أهمية ديوان – السعيديات – الصادر سنة1927 تتمثل في مضمونه الذي يعبر عن الالتزام بالدفاع عن معاناة الإنسان في القهر و الظلم ضمن اِنحياز تام إلى قيم الحرية و العدل و الكرامة ثم يظهر جنوحه إلى التجديد الشكلي في بحثه عن الأوزان الجديدة في نصوصه الشعرية فالشاعر يعتبر عازفا ماهرا على الكمنجة أيضا بالإضافة إلى هوايته للرسم و للتصوير الشمسي و خاصة للصحافة قبل هذه وتلك.
و من شعر سعيد أبي بكر قصيدة – رفقا بالإنسان – وقد كتبها بمناسبة تأسيس بعض المستعمرين جمعية الرفق بالحيوان حيث قال فيها:
جمعية الرفق بالسنور والديك
ماذا عن الرفق بالإنسان يلهيك
يرضيك عيشهما و الأمن فوقهما
مرحى! فهل عيشه في الضنك يرضيك
يلقى ابن آوى لديك المشفقين فهل
يلقى ابن آدم حظا في مساعيك؟
ومن شعره الجديد الذي تنوّع فيه الإيقاع العروضي قصيدته المطولة – أيها الليل – حيث وردت على هذا المنوال :
فوق هذا التل عن هذي الرمال
في اِنفرادي
ها أنا مابين فرسان الخيال
عن جوادي
أرمق الليل بعين الاِنذهال
وهو هادي
أنت يا ليل حبيب و أنا
في اِرتياحي
إن لي فيك سويعات هَنا
و اِنشراحي
ولذا أبدو إذا كنت هُنا
غير صاح !
وقد كتب الشاعر أبو بكر عديد القصائد الوجيزة التي تعتمد على فكرة وحيدة وذلك في عدة مواضيع وقد سلك في بعضها الرمز و القوافي الطريفة مثل قوله في قطعة بعنوان – إلى الأبد – :
غنّى الضيوف لربّ الدار لازمة
قالوا لدى قولهم فيها :إلى الأبد
واِستعبدوه كما شاءت رغائبهم
إذ أيقنوا أنهم فيها إلى الأبد
فعلّموه – إذا شدّوا حقائبهم –
كيف يقول:اُخرجوا منها إلى الأبد !
فالشاعر سعيد أبو بكر إذن يعتبر أحد الذين مهدوا إلى الحركة التجديدية العارمة في الأدب التونسي بعد الحرب العالمية الأولى تلك الحركة الأدبية التي أنزلت الشعر من المتحف المقدس إلي ضجيج الشارع و ما قصائد محمو قابادو في منتصف القرن التاسع عشر تلك التي واكبت التحولات الحضارية ، وما قصائد الأمير الشاذلي خزندار بعده إلا أوضح دليل على أن الشاعر التونسي في العصر الجديد قد قطع بصفة تكاد تكون جذرية مع مكبلات القصيدة التقليدية و تجاوز الكثير من أساليبها و مواضيعها ليمضي بنصه الشعري الجديد بثبات ووضوح نحو آفاق المرحلة الجديدة بحيث أن الشاعر سعيدا أبا بكر يمثل أول تأسيس لمشروع الشاعر المعاصر في تفاعله – مبنى و معنى و سيرة – مع الواقع الجديد لأننا بعد هذا الشاعر سنرى أن الشعر في تونس سيمضي في طريقين جديدين أو مسلكين متباعدين لكنهما صادران عن موقف تجديدي واحد، هما التعبير بالرومنطيقية و التعبير بالواقعية و قد كان الشاعر سعيد أبو بكر المبادر والمعبر عنهما معا ولكن –والحق يقال– ضمن أبعاد إبداعية محدودة ، إلا أننا رغم ذلك يمكن أن نعتبره رائد التجديد الشعري في الثلث الأول من القرن العشرين في الشعر التونسي
هذا الشعر الذي كان متفاعلا دائما مع ما كان يطرأ على محيطه العربي من إرهاصات وتحولات وقد يأخذ في خضمها بعض الخصائص و الصفات وتلك ، لعمري ، تعتبر تنوعا وثراء في مدونة الشعر العربي الزاخرة .
المراجع
– الحركة الأدبيةو الفكريةفي تونس ـ محمد الفاضل ابن عاشور ـ الدار التونسية للنشر ـ تونس 1972
– ديوان السعيديات – الطبعة الثانية – الدار التونسية للنشر – تونس1981
–الشعر التونسي المعاصر : محمد صالح الجابري – الشركة التونسية للنشر – تونس 1974
–تاريخ الأدب التونسي – الشعر – محمد صالح بن عمر – بيت الحكمة – تونس – 1992
…………………………………………………………….
أبو القاسم الشابي
في قصائده المنثورة
عند فجر يوم التاسع من أكتوبر 1934 أسلم أبو القاسم الشابي روحه إلى باريها بعد معاناة ضارية مع المرض و الشعر و تاركا ديوانه ينتظر الطبع و النشر و كان أن ظل على الرفوف أكثر من عشرين سنة حتى نشر في مصر سنة 1955.
إن مسيرة الشابي و معاناته ستبقى مرجعا للمبدع الذي يروم أن يعانق شوق الحياة و جمال الوجود متحديا بذلك العوائق و الحواجز و المحبطات و كم كانت عديدة أمام الشابي لكنه استطاع أن يجعلها حافزا يستنهض همته و يقوي عزمه ودافعا يرنو به نحو الآفاق الرحبة العالية !
* لم يكتب الشابي الشعر فحسب و إنما جال بقلمه في فنون النقد و الخاطرة و القصة و المذكرات و الرسائل و المحاضرات و كان مستوعبا لإنجازات الأدب العربي في عصره و مطلعا على المدارس الغربية الرائجة وقتذاك و منخرطا في حركة التطلع و التحرر لشعبه و مواكبا لإرهاصات العالم الاستعماري و متوثبا للدفاع عن القيم الإنسانية الخالدة و النبيلة فكان شعره و نثره معا سجلا للمبدع إذ يحلم و للمثقف إذ يلتزم.
* ما أحوجنا اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى أن نكتشف مسيرة الشابي من جديد خاصة بالنسبة لشعراء تونس و أدبائها و مثقفيها و مبدعيها عامة ذلك أن الشابي كان على مدى سنوات عطائه متمثلا و متحملا لمسؤولية المبدع الحر و النزيه و المدافع عن المثل العليا فلم ينخرط في شعر المدح و الهجاء و الغناء المبتذل و إنما عكف على المطالعة و المواكبة و البحث و التجديد و النشاط على مستوى الأندية و الجمعيات و المجالات المتوفرة بل نراه داعما للحركة الثقافية و ثائرا على الجمود في أكثر من مناسبة و في عديد المجالات فهو يحث و يدعو و يشارك في المشاريع التي تنهض بالأدب سواء في مجال النشر أو في مجال التأليف و التعريف.
* و الشابي لم يلهث وراء الجوائز و المسابقات وحتى عندما أجرت بعض المنابر الثقافية استفتاء حول أهم شاعر في تلك السنوات الأولى من ثلاثينات القرن العشرين لم يحتل الشابي المراتب الأولى و لكن الزمن غربل فلم يبق إلا من يستحق الذكر عن جدارة.
* و الشابي عاش بسيطا مع أبناء جيله و شعبه بل و تحمل شظف العيش أحيانا فلم يتنصل من مسؤولية عائلته و لم يتزلف الشخصيات الوجيهة أو يبحث عن الامتيازات التي كانت متوفرة لمن كان في مثل أسرته و ثقافته وإنما عاش للأدب فحسب فربط العلاقات الإيجابية مع ثلة من أبناء جيله يقاسمونه همومه و طموحه في كتابة أدب تونسي جديد يكون متطورا و متلاحقا مع بقية البلدان العربية لذلك كتب عن الأدب في المغرب و المشرق فكانت مراسلاته سجلا حيا نابضا بالمعاناة و الآمال و الآلام في آن !
* لقد عانى الشابي من عدة عوائق كانت كمثل المحبطات في مسيرته الغزيرة رغم قصر مدتها بداية من صعوبة تحدي الجمود الفكري في عصره الذي اعتبر بعض شعره مروقا عن الدين، إلى استفحال ظاهرة عدم الاعتراف بالإبداع لدى بني الوطن حيث يواجه كل متفوق في ذلك العصر و ربما إلى اليوم، بتحدّي السبق المشرقي في مقولة ـ هذه بضاعتنا ردت إلينا ـ باعتبار أن المشرق هو الأصل و المركز و أنه لا أفضلية لبقية الأقطار و الأقاليم، و يضاف إلى ذلك اِستهجان أطراف أخرى بمقولة أن الغرب هو المرجع في الفكر و الأدب و الحضارة و لا يمكن للعرب أن يضيفوا أو يبدعوا أكثر منه !
* بلى قد عرف المبدعون التونسيون على مر العصور هذا الغبن و هذا الجحود منذ العهد القرطاجي مع الشاعر فلوروس الذي سحب الإمبراطور روما منه الجائزة باعتبار أن الأفارقة لا يمكن أن يتفوقوا على الرومان في أي مجال !
و كذلك الأمر بالنسبة لابن خلدون و لأبي الحسن الشاذلي و لعبد العزيز الثعالبي و لغيرهم الذين هاجروا أو أبعدوا بسبب المكائد و الدسائس أو الجحود و المحاكمات.
* لقد صمد الشابي و تحدى و اِشتكى و بكى حينا و ثار و زمجر و توعد أحيانا و كان صادقا في كل الحالات !
* برغم مرور السنين يحافظ الشعر البديع ـ رغم قدمه على ألق التجديد فيه فيلوح عند كل قراءة توهجه و تأثيره و لا يفقد رونقه و جماليته بل إن الكثير من قصائد أبي القاسم ما تزال فاعلية و متألقة بل و قابلة لمزيد من القراءة و التحليل برغم تنوع المداخل و المناهج و المدارس فقصيدة ـ صلوات في هيكل الحب ـ مثلا تعتبر من القصائد البديعة التي تبعث في النفس مشاعر الجمال و السمو حيث يصور المرأة كائنا ساميا يشع بهجة و حسنا و سلاما في سنفونية متناغمة المقامات و اللوحات فإذا بقارئها يجد نفسه في مراقي الوجد يعرج إلى سماوات الفن بما ينداح عليه من انتشاء و صفاء :
عذبة أنت كالطفولة كالأحلام
كاللحن، كالصباح الجديد
كالسماء الضحوك، كالليلة القمراء
كالورد، كابتسام الوليد
يا لها من وداعة و جمال
و شباب منعم أملود !
فوجدان الشابي ما يزال خضما زاخرا بالعطاء رغم هذا القرن ـ القرن العشرين ـ الذي اِنقلبت فيه القيم و الموازين و العلاقات أكثر من أي وقت مضى.
* بلى ! ما أحوجنا في هذه الفترة الحالكة التي قلب فيها كثير من الشعراء و الأدباء و المثقفين و المبدعين ظهر المجن و تنكروا لقيمهم و مبادئهم التي كتبوا على نبراسها السنين العديدة من أجل جائزة أو حظوة أو كرسي ! ما أحوجنا إلى قراءة أبيات الشابي :
لا أنظم الشعر أرجو به رضاء الأمير
بمدحة أو رثاء تهدى لرب السرير
حسبي إذا قلت شعرا أن يرتضيه ضميري
* و لنقرأ قصيدة » إلى طغاة العالم « التي كتبها سنة 1934 فإذا هي ما تزال تعبر عن لسان حال كل الذين تذوقوا مرارة الاحتلال و القهر و العدوان :
ألا أيها الظالم المستبد
حبيب الظلام عدو الحياة
سخرت بأنات شعب ضعيف
و كفك مخضوبة من دماه …
* و لنقرأ قصيدة »للتاريخ « التي كتبها سنة 1933 حيث يعبر فيها عن ضراوة معاناة الإنسان البسيط الذي يتعرض للاستغلال و النهب بينما يتمتع الغرباء في الأوطان المقهورة بالثروات و الامتيازات إذ يقول :
البؤس لابن الشعب يأكل قلبه
و المجد و الإثراء للأغراب
و الشعب معصوب الجفون مقسم
كالشاة بين الذئب و القصاب
و الحق مقطوع اللسان مكبل
و الظلم يمرح مذهب الجلباب
فكثير من قصائد الشابي ما تزال جديدة نابضة مترجمة عن واقعنا اليوم و تلك لعمري من أسرار الأدب الإنساني بما يلوح فيه من صدق الإحساس و براعة التعبير !
* لذلك يستحق الشابي مزيدا من العناية خاصة و أن البعض من آثاره ما يزال متفرقا مبثوثا هنا و هناك دون أن ينشر في عمل علمي محقق و كامل بما في ذلك ديوانه أغاني الحياة بالإضافة إلى قصائده النثرية التي كتبها باعتبارها تجديدا و تعبيرا حديثا هو إلى الكشف والاكتشاف أقرب بالنسبة لتلك الفترة
ما كادت سنوات العقد الثالث من القرن العشرين تستقر في تونس حتى أصبحت النصوص الشعرية المنشورة وقـتذاك تشتمل على أشكال متنوعة من العمودي ، إلى الشعر المتحرر من النمطية العروضية ، إلى الشعر المنثور ذلك الذي اِقتبسه بعض الشعراء التونسيين من مدونة شعراء المهجر ومن الشعر الفرنسي خاصة و لكن لم يتجاوز المحاولات الفردية ومن حين إلى آخر فحسب ، ولقد كان أبو القاسم الشابي واعيا بتلك المسائل الشكلية في الشعر منذ البدايات الأولى له في النشر حيث أنه أرسل إلى صديقه محمد الحليوي في حاشية رسالته الثالثة قائلا خاصة :
( سألتني عن مجلة سعيد أبي بكر و هل أن الداعي إليها مادي أم فني و أنا لا أدري على التحقيق كيف أجيبك و بماذا أجيب إذ كل مبلغ العلم عندي هو أنه تولّى إدارتها الفنية أعني إدارة التحرير و أنه تسلم مني قطعة من الشعر المنثور عنوانها ـ الشاعر ـ تحت عنوان أكبر أود أن اكتب تحته مواضيع مختلفة إن ساعد الدهر و أشفق الله و هذا العنوان هو : صفحات من كتاب الوجود ـ و أعلم أنني رأيته يصحح ما طبع من المجلة و من بين ذلك قطعتي )
فنص الشابي الذي أدرجه تحت الشعر المنثور اعتبره ( قطعة) و تلك كلمة تدل على القصيدة أيضا و معنى هذا أن الشابي كان مدركا تماما للجنس الأدبي الجديد الذي سيواصل الكتابة فيه بعدئذ على صفحات مجلة (العالم الأدبي) التي كان يديرها زين العابدين السنوسي و هو الآخر يعتبر مثل سعيد أبي بكر من دعاة التجديد الأدبي و الفكري في الثلث الأول من القرن العشرين ، بل هو المحرك الفعلي للأدب التونسي الحديث في بعض الأحيان..
إن آثار الشابي في هذا النوع من الشعر لم تلق العناية بالجمع و الدرس مثلما تسنى لبقية آثاره الأخرى أن تحظى به و لعل السبب في ذلك راجع إلى اعتبار تلك القطع– حسب تسمية الشابي نفسه من الشعر المنثور– مجرد محاولات أولى سرعان ما تجاوزها إلى كتابة القصيد العمودي ثم هو نفسه لم يجمعها مع شعره في ديوانه أغاني الحياة فظلت مبثوثة في مصادرها الأولى و قلّما أشار إليها الدارسون باِعتبار صعوبة الوصول إلى تلك النصوص من ناحية و باِعتبار أن ذلك النوع من الشعر الجديد ، على تعدد مصطلحاته ، قد واجهته تحفظات شديدة لدى كثير من النقاد عل مدى فترة طويلة فالسكوت على نصوصه تلك في هذا النوع من الشعر ليس دائما موضوعيا أو لأسباب بريئة !!
في سنة 1984 و بمناسبة خمسينية الشابي صدرت الأعمال الكاملة للشابي و قد تضمنت في الجزء الثاني منها نصوص شعره المنثور التي أمكن الوصول إلى جمعها و لكن دون تحقيق و من دون أن توضع تحت عنوان الشعر المنثور.
القصيد الأول: أغنية الألم
صدّره الشابي بهذا التقديم قائلا فيه : ليس النحيب الذي يصدره القلب كالنحيب الذي تبدعه الشفاه و ليست الدمعة التي يرسلها الألم كالدمعة التي يسكبها الأمل
ثم يبدأ القصيد بهذا المدخل :
ما أروعك أيها الألم و ما أعذبك
أيتها المرارة التي ملأت أودية الحياة بصراخ الأسى
و أترعت كأس الدهور بغصات الدموع
أيتها الكف الهائلة التي حطمت على شفة القلب كأس الأمل
و أراقت بكهف الظلام خمر الحياة
أيها الهول الذي ترهبنا ملامحه و تخيفنا ذكراه
أية شفة ترنمت بأغاريد الحياة منذ البدء
و لم تغتسل بلهيب الحياة (…)
و يتواصل القصيد على هذا النسق في أربع فقرات متتالية تبدأ بنفس الصيغة تقريبا فالأولى تبدأ :
لنبحث أيتها الحياة
و تبدأ الفقرة الثانية :
لنركع أيتها الحياة
و تبدأ الفقرة الثالثة :
لنبحث أيتها الحياة
و تبدأ الفقرة الرابعة :
و لنقدس يا أيها الغاب المنتحب
و بين تلك الفقرات تتردد جملة ذات نسق تركيبي متشابه جاءت كالمفاصل أو الردهات التي تراوح و تربط بين الفقرات على هذا النحو:
و انتغن يا قلبي بأنشودة الأحزان المرة حتى الأبد
ثم تليها الفقرة الثانية :
و لنترنم يا قلبي بأغنية الآلام المرة حتى الأبد
ثم تجيء بعدها الفقرة الثالثة :
و لنرتل يا قلبي بسكون أغاني الأوجاع المرة
حتى الأبد
و أخيرا تصل الفقرة الرابعة و الأخيرة و في نهايتها الجملة الخاتمة :
و لنرتل يا قلبي الكئيب البائس نغمة الألم المرة المخضلة بالدموع
و لنرددها على مسمع الظلام حتى الموت.
فنلاحظ هذا التشابه في كل مرة من حيث أسلوب الأمر و النداء خاصة إلا أن الجملة تتحول و تتبدل ضمن نفس النسق من حيث المعاني المتشابهة و المترادفة في كلمات ( لنتغن و لنترنم و لنرتل) و كذلك بترديد قوله (يا قلبي) في كل مرة و ترديد قوله ( بأنشودة الأحزان المرة ) و(بأغنية الآلام المرة) و (بسكون أغاني الأوجاع)و (نغمة الألم المرة) مما يجعل الجملة لازمة تتكرر عند آخر كل فقرة قائمة أثناء حركات النص فهي تشبه إلى حد ما القافية التي تتشكل على وتيرتها أبيات القصيدة العمودية أو الغصن الذي يتكرر في فقرات الموشح على أن الجملة الأخيرة كانت تمثل الخاتمة حيث أمست كلمة (الأبد) التي تكررت سابقا كلمة (الموت) فهي قفلة هذا النص أو هي تمثل (الخرجة) بلغة الموشحات.
إن هذا النص الشعري (أغنية الألم) يمثل نسقا جديدا في التشكيل اللغوي الشعري عند الشابي يعتمد فيه مرة على الاستمرار و مرة على التكرار و مرة على التنوع و مرة أخرى على التبدل و لكن النص يبدو محكم البناء حيث انه يبدأ بمقدمة ثم تليها فقرات متماثلة تفضي الواحدة منها إلى الأخرى من خلال جملة فاصلة واصلة لتتمخض في النهاية و بعد حركات متصاعدة إلي الذروة ثم إلى السكون التام.
أما من حيث المضمون فهذا القصيد النثري قد ضم مدائح جليلة إلي مفاهيم كانت توصف بالمذمة فقد قلب الشابي المفاهيم السائدة مثل إتيانه معاني جديدة ما كانت تعرف ضمن العلاقات المعلومة القديمة بين الكلمات في سياقاتها الأدبية على هذا المنوال :
-
لم يرتشف من جدول الجحيم
-
الأجنة النارية
-
أنشودة الأحزان المرة
-
الأشعة الساحرة التي تنبت حول جداول الأيام
-
الزهور النارية المقدسة
-
الجفون المكحولة بالأوجاع
-
لنقدس أيها الغاب المنتحب
-
يا أيتها البحيرة الواجمة
-
يا أيها القلب المتلحف بالغصات و الدموع
-
على مسمع الظلام (..)
و قد نحا أبو القاسم الشابي في هذا القصيد النثري منحى جديدا في اللغة مستفيدا من المتون الرومنطيقية المهجرية من ناحية و كذلك من النصوص المترجمة عن الأدب الأوروبي من ناحية أخرى مع الإحالة على رموز الشعر العربي القديم في نفس الوقت مثل قوله :
-
( حيث تمايلت لزوميات المعري)
-
(ترنمت رباعيات الخيام)
-
( أين ترتعش أغاني البطولة و تتموج الشعلة النارية الملتهبة في قصائد المتنبي)
-
( التي نستنشق عبيرها من لوعة المجنون و أغانيه)
لذلك نقول إن التجديد الشكلي الذي سلكه الشابي في هذا النص على مستوى اللغة و على مستوى البناء العام قد عاضده منهج جديد عند النظر إلى المواقف الوجودية و قد كان مستندا في كل ذلك على منجزات عصره في الكتابة العربية و مستفيدا كذلك من ترجمات الآداب الغربية و كل ذلك لم يمنعه من التجذر في تراثه القديم.
القصيد الثاني: الدمعة الهاوية
هو تأملات باطنية في الحياة و الموت و مقابلة بين معاني الأمل و الألم على مدى الزمن و يجعل الشابي من القلب و القبر جناسا على مستوى اللفظ و طباقا على مستوى المعنى
و القصيد يضم أربع حركات تتخلل الفقرات الأربع حيث تبدأ الأولى :
(انظر يا قلب)
و تبدأ الفقرة الثانية كذلك : (انظر فهناك تلاشت تلك النغمة..)
أما الفقرة الثالثة فهي تبدأ بقوله :
(هنالك انطفأت شعلة الحب…)
فكأنها عود على بدء أو استئناف جديد لنفس الفقرة السابقة…
لكن الفقرة الرابعة و الأخيرة تبدأ كل منهما بقوله :
(هي الحياة التي تجرعك اليوم…)
فكأن الشابي بحركة هذه الفقرة أراد أن يصل بها إلى النهاية المقصودة في قوله :
فما أهون الحياة عند الموت
و ما أهون القلوب عند الحياة
إن صيغة النص قائمة على تقديم تليه فقرات ثلاث تنتهي كل منها بالفاصلة الواصلة على هذا النحو:
بعد الفقرة الثانية نجد :
فما أجزعك يا قلبي
و ما اجلد القبر
و بعد الفقرة الثالثة نجد :
فما أتعسك يا قلبي
و ما أقسي القبر
و بعد الفقرة الرابعة تأتي الخاتمة
فما أهون الحياة عند الموت
و ما أهون القلوب عند الحياة
فقصيد (أغنية الألم) و قصيد (الدمعة الهاوية)يقومان على نفس المعمار الفني تقريبا و هو يتمثل خاصة في توالي الحركات المعنوية التي تبدأ بالافتتاح لتصل إلى الختام عبر تلاحق و ترابط و ترادف من خلال ترديد بعض الصيغ للفصل و للوصل أيضا ففي هذا المعمار الفني يحقق النص الانسياب و التركيز معا و قد تناول من خصائص النثر الاِنطلاق والتماهي و قد تناول من الشعر الإيقاع و الإيحاء.
إن ثنائية الشعر و النثر واضحة لدى الشابي فهو يقول في رسالة إلى بعض أصدقائه في نفس هذا المجلد من أعماله.( الجزء الثاني ص 270)
( و قد تناوبتني من ذلك العهد أفكار متنافرة في فترات مختلفة حببت إلى النثر أحيانا و بغضت إلى الشعر ، و قلبت لي ظهر المجن في فينات أخرى، فكرهت النثر وأحببت الشعر، أما الآن فهما خدناي في فجر الحياة و غروبها و بلبلاي في ابتسامتها و قطوبها واني وان كنت إلي الشعر أتوق مني إلي النثر لكنني لا اضن على نثري بعبق من عواطفي و أفكاري).
إن القصائد النثرية التي توصلنا إليها في هذه المجموعة تضم النصوص التالية:
-
أغنية الألم ص 5 بتاريخ 16 رجب سنة 1345 ه
-
الدمعة الهاوية ص 9 بتاريخ 20 صفر سنة 1345 ه
-
أيتها النفس ص 11 بتاريخ 10 ربيع الثاني سنة 1345 ه
-
الخريف ص 13 بتاريخ 30 ربيع الثاني سنة 1345 ه
-
الأحزان الثلاثة ص 16 بتاريخ 8 جمادي الثانية سنة 1344 ه
-
بقايا الشفق ص 19 بتاريخ 19 محرم سنة 1344 ه
-
أمام كهف الوادي ص 22 بتاريخ 20 جمادي الثانية سنة 1344 ه
-
كيف يا قلبي ص 24 بتاريخ 5 ربيع الأول سنة 1345 ه
-
الذكرى ص 41 بدون تاريخ
-
النفس التائهة ص 45 بدون تاريخ
-
الشاعر ص 50 بتاريخ (18/1/48)
-
الليل ص 92 بتاريخ (في صفر سنة 1345)
لذلك تبدو الدعوة إلى نشر نصوص الشابي في الشعر المنثور ملحة حتى يتمكن قراء الأدب من الاطلاع عليها و حتى يتسنى درسها و اِستجلاء خصائصها الفنية و المعنوية فهذه النصوص المنشورة في (الأعمال) سنة 1984 و لئن كانت أكثر عددا من بقية ما نشر للشابي في نصوص شعره المنثور في بعض المراجع إلا أنها تحتاج إلى طبعة علمية شاملة ليصدر بعدئذ ديوان الشابي في قصيد النثر كاملا.
إن عملا تاريخيا توثيقا محققا بات متأكدا لتراث الشابي في قصيد النثر خاصة و في بقية كتاباته أيضا و لا يكون ذلك إلا ضمن هيئة أدبية علمية مسؤولة و ليس تحت ضغط الظروف و في المناسبات الآنية لأن الرجوع إلى منشورات تلك الفترة و الاطلاع على المخطوطات يصعب على شخص واحد بإمكانياته المحدودة الخاصة، و في اِنتظار صدور هذا المطمح يمكن أن تحوصل الملاحظات التالية التي نستخلصها من تجربة الشابي في الشعر المنثور ذلك الذي وصلنا إليه.
أولا : تندرج كتابات الشابي في الشعر الجديد الخارج على المقاييس العروضية ضمن حركة تجديدية عارمة في الثقافة العربية في القرن العشرين حاولت أن تؤسس ركائزها في التراث العربي بالربط مع منجزاته البديعة و كذلك بالاستفادة من الآداب الأخرى في العالم الغربي خاصة و اِنطلاقا من تحولات الواقع الوطني و العربي خلال هذا القرن و تعبيرا عن الخلجات التائقة إلى التحرر و الانبثاق حينا و إلى إثبات الذات حينا آخر.
ثانيا : يمكن أن نلمس بسهولة الصلة بين قصائده النثرية و بين قصائده الأخرى تلك التي حاول فيها التجديد على مستوى التفعيلات و القوافي بحيث أن زمن الكتابة عند الشابي واضح التأثير على نصوصه بما فيه من أحلام و من نكسات أيضا فقد بدأ الشابي منطلقا جامحا ووصل به المطاف إلى الانكسار و الخيبة.
ثالتا : في القصائد النثرية للشابي خصائص تكاد تكون ثابتة في أغلب نصوصه تتمثل في المعاني الرومنطيقية من حيث الموضوع و تتجسم في القاموس من حيث الكلمات و تتشكل ضمن الترديد و التكرار في مستوى البنية النحوية و على مستوى الإيقاع الصوتي غير أن تشكيل النص على الورقة يجدر به أن يؤخذ بعين الاعتبار لان القصيدة النثرية ذات إيقاع بصري أيضا بحيث لابد لنا أن نتساءل عن إلى أيّ حدّ يمثل النص المنشور على الصحف و المجلات و في الكتب النص الأصلي كما اِقترحه الشابي؟.
إن القراءة هي أيضا يمكن أن تحدد إلى مقدار معين شكل النص و سماته.
المراجع
-
السعيديات : سعيد أبو بكر (المقدمة) الدار التونسية للنشر 1981
-
الشعر التونسي المعاصر : محمد صالح الجابري – الشركة التونسية للنشر – تونس 1974
-
رسائل الشابي : محمد الحليوي – دار المغرب العربي تونس 1966
-
الأعمال الكاملة للشابي– وزارة الثقافة تونس 1984 – الجزء 2
-
الشابي – وزارة الثقافة 1994 (المجلد 2)
-
مجلة حوليات الجامعة التونسية 1965 مقال : مشاركة في دراسة أبي القاسم الشابي – توفيق بكار – 135
-
في الأدب التونسي المعاصر – أبو زيان السعدي – مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله 1974
……………………………………………………………………
مـحمــد الـبشــروش
من الرومنطيقية إلى التصوف
هو أحد الثلاثة الذين مثلوا في الثلث الأول من القرن العشرين مسيرة واضحة المعالم في التجديد الأدبي بتونس فكانوا حلقة الوصل بين المشرق والمغرب من ناحية و اِستطاعوا ربط الصلة بين الأدب العربي و الأدب الأوروبي من جهة أخرى فجرت في الأدب التونسي على أقلامهم دماء جديدة دافقة بالحياة والأشواق ، وهؤلاء الثلاثة هم أبو القاسم الشابي و محمد الحليوي و محمد البشروش حيث أنهم تمكنوا من تثبيت بصمة تجربتهم شعرا و قصة و نقدا و كتابات أخرى متنوعة في الترجمة و المذكرات و الرسائل و الصحافة و التاريخ و غير ذلك مما لم يجمع و يدرس بعد بالقدر اللازم.
و إذا كان أبو القاسم الشابي قد نال الحظ الأوفر من محمد الحليوي و محمد البشروش و ذلك لأسباب أدبية و تاريخية ، فإن الاعتناء بهما و بغيرهما من أدباء ذلك الجيل يدعونا إلى التأمل في تجربتهما و رصد ملامحهما و خصائصهما لتتوضح أكثر صورة الأدب التونسي في تلك الفترة الخصبة.
في هذا السياق إذن يندرج تأليف عبد الحميد سلامة ( محمد البشروش حياته و آثاره) ـ 1ـ الذي جمع فيه شتات سيرته الذاتية و علاقته الخاصة بالشابي و الحليوي من ناحية و جمع أيضا أهم كتابات البشروش من مصادرها الأصلية واضعا إياها في فصول خاصة حسب الغرض و النوع مع التعليق المناسب عند الاقتضاء، فكان حقا عملا جليلا يعتبر الخطوة الأساسية الأولى للدخول في تجربة البشروش الأدبية و الإنسانية.
و اِنطلاقا من هذا الكتاب و بالعودة إلي بعض أعداد مجلتي (العالم الأدبي) و (المباحث) يمكن أن نرصد تجربة محمد البشروش في الشعر و هي تجربة كانت متميزة شكلا و مضمونا لجيل ما بين الحربين في تونس(2) و يبدو أن محمد البشروش كان من الشعراء المقلين فقد جمع الأستاذ عبد الحميد سلامة لمحمد البشروش ستة نصوص شعرية هي :
1 – قصيد أين يومي للسرور (3)
يقول فيه :
ذهب الأمس فواها نحن للقبر نسير
و الغد يدنو دنوا ما الذي فيه نصير
ما الذي خلفت الحجاب ما الذي خلف الستور
أمساء و ظلام أم صباح و بكور؟!
فهو قصيد تأملي في قدر الإنسان المتردد بين الحياة و الموت و بين الآلام و اليأس لكن محمد البشروش يخلص في آخر القصيد إلى التفاؤل قائلا :
و تعالي نبصر الأمواج من فوق الصخور
و نبصر الكون بديعا فيه شهب و بدور
فيه شمس و ظلام فيه أسرار البحور
و تعالي نلتهي بأغان و زهور
ننعم النفس بغيد و بثغر ونحور
فادني مني و أترعي الكأس فيومي للسرور
و لئن اِندرج هذا القصيد في غرض التأمل الضارب في القدم في الشعر العربي إلا أن محمد البشروش قد أضاف إليه المسحة الرومنطيقية التي سادت الشعر العربي على مدى النصف الأول من القرن العشرين لكنها رومنطيقية تنحو إلى الهواجس الوجودية و إلى التعبيرات الصوفية.
2 – قصيد الكون أعمى(4)
قدم محمد البشروش لهذا القصيد قائلا :
– للحياة غاية يسعى الكون إليها و يكد و من أجل هاته الغاية نشقى نحن و نتعذب و نضج و ننحب فلا يتجاوزنا النحيب و تمضي الحياة إلى صميمها المجهول ، و هاته الأبيات قالها شاعر حين كانت دلائل الفجر تبدو بعد السهر –
و القصيد ورد على شكل الرباعيات حيث حافظ محمد البشروش على نفس تفعيلة الرمل ـ فاعلاتن ـ لكنه راوح بين القوافي مرة و نوع بينها مرة أخرى، أما نفسية الشاعر فيه فهي تميل إلي الكآبة حينا و أحيانا إلي الروح التشاؤمية الغالبة وذلك عندما نظر إلي المنزلة الإنسانية من خلال ظلام كثيف قائلا في ختام القصيد:
و مضى الليل فثارت كل أشواق الفؤاد
و صبرت فإذا الصبر جحيم و قتاد
قال طرفي لذكاء و هي في ألق تسير
أكذابا يا شمس قلبي يبكى بالدمع القرير
فأجاب الليل و الصمت ذكاء و القمر
إنما نحن عبيد مثل أبناء البشر !
فعنوان القصيد (الكون الأعمى) يلخص رؤية الشاعر إلى معاناة تجربة الحياة و نحن إذا لاحظنا أنه قد نشر في جانفي 1938 يمكن أن نربطه من ناحية أخرى بالأزمة العالمية الخطيرة التي كانت قد خيمت على العالم قبيل نشوب الحرب الكونية الثانية بعد هذا التاريخ بقليل.
و يمكن من زاوية أخرى أن نلحظ العلاقة بين المقدمة النثرية و بين نص القصيد ذاته فبقدر ما تمهد له فإنها كذلك تدل على المناخ الداكن الذي ساد نفس الشاعر من خلال كلمات مثل (الكد) و (الشقاء) و (العذاب) و (النحيب) و (المجهول) .
فإذا ربطنا بين النثر و الشعر في هذا النص لاح لنا أن الشاعر لا يرى في دلائل الفجر إلا ظلاما جديدا و ليلا مقبلا و يكون العنوان مناسبا تماما حينئذ (الكون الأعمى)
كان محمد البشروش يحذق اللغة الفرنسية بل ويكتب بها أيضا حيث كان مطلعا عن كثب على أدبها الذي ترجم منه إلى العربية فلا عجب إذن أن يكتب الشعر النثري وفي ذهنه الوعي بمسألة التحرر من النمط الخليلي.
3 – قصيد خواطر مجنحة (5)
فعلا، قد جنح محمد البشروش عاليا و بعيدا في عوالم التسابيح و الفضاءات الجميلة لذلك قد تحرر من الوزن و القافية أيضا و راح منطلقا شاديا و محتفلا بالانشراح و المسرة فهو القائل في غضون هذا القصيد :
هذا الضياء الذي يغمر روحي
يشع من فرارة ذاتي
و أسمو به إلى حيث الامتداد
و سحر الحياة السخي الساخر
أسمو به إلى المرتفعات الطليقة الساهية
هناك ظلال و أنهار و مشاهد جميلة و أحلام
و هناك الألوان و هناك الانسجام
يعلم ابن ادم الوفاء إليه و الابتسام
و الاِستسلام….
فالقصيد ذو روح اِنسيابية كأنها تفيض على الكون و تغمره بالبشائر و ما كلمات (الوفاء) و (المشرق) و (الهدهدة) و (الأجنة) و (الأفق) و (ضياء) و غيرها إلا دليل على حالة الانسجام التام التي تحيط بنفس محمد البشروش في هذا القصيد فتملؤه مسرة و حبورا حتى فاض بالوجود فأضحى و إياه في وحدة و ألفة.
4 – قصيد يوم الميلاد (6)
هذا نص شعري آخر لم يلتزم فيه محمد البشروش أيضا بالعروض لكنه جعله على مقام الرباعيات تنتهي كل رباعية بلازمة إيقاعية فكأني بالقصيد ورد على بعض النسق القرآني في السطر الأخير من كل رباعية خاصة كقوله في المقطع الأول :
فتقلبت على مضض معذبة سادرة صابرة
و ربي لا ينسي عباده الصابرين
و مثل قوله عند نهاية المقطع الثاني :
في صميم الصحراء اِنبجس فيضك عذبا متدفقا
يروي العطشى و يهدي الحائرين
و كقوله في المقطع الثالث عند آخره :
و شاهدت الدنيا الجدب يستحيل إلى رواء
في صحراء الزمن الضنين
و مثل قوله في المقطع الرابع عند آخره أيضا :
يا عيد الذكرى متى يعاودنا إلي السخاء الحنين
و كقوله في المقطع الخامس و هو آخر القصيد:
كل شيء و يبقى ضياؤك يا
نبي الله
يغذي فينا اليقين
فهذا القصيد و لئن اِندرج ضمن غرض المدائح النبوية غير أنه قد نحا فيه إلى التجديد من حيث البناء الفني و من حيث المعاني التي أضفاها البشروش على النبي المصطفى و اِرتقى بها إلى الشاعرية السامية بعيدا عن معاني المديح القديم وصوره كقوله :
في بهيم الليل اِنبجس نورك
و انطلق يمينا و شمالا
يغتال الدياجي و يسمو بالأرواح إلى السماء
في صميم الصحراء انبجس
فيضك عذبا متدفقا
يروي العطشى و يهدي الحائرين
إنها صور متكاملة الجوانب من إطار زماني و مكاني و من أضواء و ألوان و من حركة و سكون و من تقابل و ائتلاف كلها تمثل تناولا شعريا جديدا ذا إيقاع معنوي و بصري و صوتي بل و حسي مختلف إلى حد بعيد عن المدونة التقليدية فهذا القصيد يؤكد مع بعض القصائد الأخرى النفس الوجداني الصوفي الإنساني الذي يلوح أحيانا لدى محمد البشروش.
5 ـ قصيد في الصحراء (7)
و قد نشر هذا القصيد بمجلة (المباحث) تحت عنوان ـ آخر ما كتب الفقيد ـ و كذلك أدرجه الأستاذ عبد الحميد سلامة في كتابه لكن العنوان المناسب يمكن أن يكون (في الصحراء) لأنه ينسجم مع المعاني في القصيد ثم لأنه كذلك بدأ، و نحن عندما نقترح له هذا العنوان فإنما هدفنا أن ينضم هذا القصيد إلي بقية المدونة الشعرية للبشروش و لا يظل تحت (آخر ما كتب الفقيد) فكثير من القصائد تعرف بمطلعها (8)
إن الصحراء تمثل الصفاء و النقاء و الوحي في القصيد السابق (يوم الميلاد) لكنها في هذا القصيد ترمز إلى التيه و التعب و المعاناة في حياة الإنسان و محمد البشروش لم يبن القصيد على التفعيلات العروضية إلا انه أوجد إيقاعا آخر يتمثل في الحركة البطيئة التي تمضى عليها الكلمات و تتوالى عليها الصور مثل قوله على نسق حركة الكثبان في الصحراء :
المفازة تلو المفازة
فلا أدناني السير من الغاية
و لا اِنقطع الويل عن التلاحق و النزول
أود أن أغمض عيني و أنام لحظة
أود أن أمتد على فراش الراحة و أنسي
و لكن أين الأيادي الكريمة التي تحتضنني
ما رأيت حولي إلا العقارب و الأفاعي
متجاورة متآلفة راضية مطمئنة
يقدم القصيد المعاناة الإنسانية في أبعادها الوجودية و محمد البشروش يبدو فيه سوداوي النظرة إلى الحياة مخالفا فيه لرؤيته الإيجابية كما رأيناها خاصة في قصيد (خواطر مجنحة) غير أنه يمكن أن يؤكد من ناحية أخرى النفس التأملي الرمزي في شعره و الذي يتوضح أكثر في قصيده السادس (حدث عقمون)
-
6 ـ قصيد حدّث عقمون ـ8 ـ
عمد محمد البشروش في هذا القصيد إلى شكل الخبر العربي القديم في قوله (حدّث عقمون بن لبسأل فقال) فهو من هذه الناحية قد وظف خصائص النثر الفني القديم لكنه لم يلتزم بالسجع فأرسل النص الشعري على سجيته فلا رتابة لتفعيلة و لا ترجيح لقافية فيه و الكلام في القصيد ورد على لسان المتكلم كأنه الحديث الباطني أو كأنه المكاشفة الحميمية على هذا النحو :
قالت نفسي ألا تجلس فتستريح
فحاولت الركود و كل ما حوالي هامد راكد
فلم أجد لي مقعدا مريحا
و ما وجدت غير الصخور الناتئة الحادة
فالقصيد يمثل تأملات في تجربة الحياة من جانبها الأليم و ما كلمات مثل (الشقاء) و (الليل) و (الداجي) و (شعاب) و (العمى) و (أضنى) و (عذابي) و (هامد) و (آلام) و (الجهد) و (الارتعاش) و غيرها إلا علامات على القتامة التي تهيمن على كل مقاطع القصيد
لكن محمد البشروش ” يقلب ظهر المجن” و يعكس السياق تماما في آخر القصيد و يتمه بصورة تفاؤلية قائلا :
و روحت على قلبي بالأمل الذي يملأ قلبي
و عزيته ضياء القمم الذي أشرق في جوانبه سعيدا.
فالقصيد من الناحية الشكلية ذو بناء متماسك يبدأ بنسق متباطئ ثم يتسارع ليصل إلى ذروة الأزمة التي تنفرج في النهاية و قد اِستعمل فيه البشروش أسلوب السرد حينا و أسلوب الحديث الباطني حينا آخر، أما من حيث المعاني فالقصيد يلامس تخوم الأدب التأملي بما فيه من أعماق و أبعاد يمكن أن تصل إلى بعض خصائص الكتابات الوجودية التي ستظهر عند بعض الكتاب خلال تلك الفترة ـ 9 ـ
بعد هذا العرض لقصائد محمد البشروش يمكن أن نصل إلى الملاحظات التالية :
-
-
أولا : إن كتابة الشعر لدى محمد البشروش كانت ضمن اِهتماماته المتنوعة في الأدب و الثقافة عامة و لعله قد عبر به عن بعض الحالات الوجدانية التي ألمت به والتي دعته إلى أن يفضي بها في هذا الجنس الفني الخاص الذي شهد تطويرا واضحا على أيدي بعض أبناء جيله
-
ثانيا : إن الهاجس التأملي واضح في نصوصه الشعرية و هي لئن اِنطلقت من المعاناة الذاتية إلا أنها ترنو إلى آفاق رمزية بحيث أنها تتردد بين المنحى الصوفي و التجربة الوجودية فمحمد البشروش اِستطاع أن يغادر ظلال الرومنطيقية التي أسرت إلى حد بعيد شعراء جيله و يفضي إلى تخوم المنحى الرمزي والصوفي كما سيتوضح من بعده.
-
ثالثا : تمكن محمد البشروش أن يخرج بالقصيد إلى تعبيرات أخرى غير تلك التي اِجترأت على التفعيلة و القافية بل إنه بحث في أنماط جديدة للكتابة الشعرية تستند في ما تستند على بعض خصائص النثر الفنى القديم فهو بحق أحد رواد الكتابة الشعرية الجديدة في النصف الأول من القرن العشرين.
-
رابعا : نلاحظ أن الأديب محمد البشروش قد اِنبرى للشعر قصيدا و قد اِنبرى له نقدا و تاريخا و ترجمة في مناسبات عديدة بحيث أن الشعر لدى محمد البشروش يعتبر أحد عناصر تجربته الأدبية التي تمتاز بالبحث عن التجديد ضمن أدب تونسي المنطلق و عربي الأفق وأوروبي الاِقتباس لكنه يحمل القيم الإنسانية الخالدة.
-
–الهوامش
-
1 ـ عبد الحميد سلامة – محمد البشروش حياته و آثاره – الدار التونسية للنشر – 1978
-
2 ـ أبو القاسم محمد كرو – قصيدة النثر عند الشابي و جيله – المجلد الثاني من آثار الشابي – وزارة الثقافة تونس 1994
3 ـ نشر بمجلة (العالم الأدبي) ص 12 عدد 18 السنة 3 بتاريخ 11-07/1932
4 ـ نشر بمجلة (المباحث) ص 9 – العدد الأول السنة الأولى – جانفي 1938
5ـ نشر بمجلة (الثريا) ص 16 عدد 3 السنة الأولى – فيفري 1944
-
6ـ نشر بمجلة (الثريا) ص 25 عدد 3 السنة الأولى العدد الرابع – مارس 1944
7 ـ نشر (بالمباحث) ص 7 عدد – ديسمبر 1944
8 ـ نشر بمجلة (الثريا) ص 40 السنة الثانية عدد 3– مارس 1945
-
9 ـ مثل محمود المسعدي و محمد العريبي و جماعة أدباء تحت السور.
……………………………………………………………………..
بين اِستثناء التجديد و قاعدة التقليد
ـ مصطفى خريّف ـ
هو أحد الشعراء البارزين في جيل الشابي و قد كان ترباو صديقا له غير أنه لم يكن مثل الشابي في توقه إلى تخوم التجديد فهو إلى مسايرة التقليد أقرب وقد جرى أغلب شعره في ما كان سائدا في عهده من التغني بالأوطان والذود عن قضايا التحرر مع ما كان يجود له الخاطر أحيانا من وصف الخلجات الخاصة بما فيها من اِنفلات عن تلك المضامين و الأشكال.
ولد مصطفى خريف في 10 أكتوبر سنة 1910 بواحة نفطة في منطقة الجريد التونسي ـ تلك التي ينتمي إليها الشابي ـ من أسرة أدب وعلم و تعلم بالكتاب ثم اِنتقل إلى الدراسة بجامع الزيتونة بتونس العاصمة لكنه لم يكمل فيه دراسته و ظل أغلب فترات حياته متنقلا بين الأوساط الأدبية والثقافية والإذاعية و خاصة جماعة تحت السور تلك التي جمعت أدباء وشعراء و صحفيين وموسيقيين و رسامين وهامشيين عديدين في فترة ماقبل الحرب العالمية الثانية في تونس نذكر منهم خاصة بيرم التونسي وعلي الدوعاجي و محمد العريبي…
بدأ مصطفى خريف النشر منذ سنة 1927 و صدر له ديوانان هما (الشعاع) سنة 1949 و (شوق و ذوق) سنة 1965 و لمصطفى خريف كتابات صحفية عديدة جمع أغلبها في كتاب بعنوان ” نحن نمشي” صدر عن وزارة الثقافة سنة 1993 و توفي – سيدي مصطفى – كما كان يدعى في الوسط الثقافي – يوم 11 مارس 1967 و لئن كان أغلب شعر مصطفى خريف يميل أكثر إلى شكل القصيد القديم و يندرج في مضامين الشعر الوطني و القومي و الغنائي فإنه قد كتب أزجالا من الشعر الشعبي من ناحية و كتب كذلك قصيد النثر المتمثل في نص (بين جبل و بحر) وهو الصادر في ديوانه الأول وقد أثبته في ديوانه الثاني أيضا.
لقد كان مصطفى خريف مدركا لتنوع و لتعدد الأشكال الفنية في شعره فهو القائل في مقدمة (شوق و ذوق):
( أما إذا لم يظفر كتابي بإعجابك فلا شك في أنه سيرمي بتعجبك و هو أمر يقنع طموحي ففيه البركة، و سبب التعجب ـ و هو إن لم تكن هذه المجموعة متجانسة ، بل هي تحتوي على أشتات من الأساليب و المضامين و الألوان و الطعوم… بحيث ستجد تباينا واضحا بين القصائد المتجاورة و لعل في ذلك شحذا لغريزة التطلع و حب التنقل من جو إلى آخر)
ثم قال (فمن غير المقبول اليوم ـ 1965 ـ أن يطلب مني جمع شعري كله ابتداء من الألف إلى حرف الياء… و فنون التعبير تتعدد و تتطور و تكثر و تتحسن… و المثل يقول ” يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق“… و كنت أريد
أن أضمن هذه المقدمة آرائي في الشعر و في تطوره و في قضاياه و اتجاهاته فرأيت ذلك يطول شرحه).
ففي هذه المقدمة نلاحظ أن مصطفى خريف كان مدركا للمسألة الشعرية من حيث التطور و التعدد و في الأساليب و المضامين على و هو عندما أعاد نشر نص قصيدة (بين جبل و بحر) في ديوانه الثاني مرة أخرى فإنما في ذلك تأكيد على وعيه بالإنجاز الجديد في الكتابة الشعرية، ولعل البحث يوصلنا إلى اِكتشاف نصوص أخرى له في قصيد النثر :
أما نص (بين جبل و بحر) فإنه قد ورد في صيغة حوار على هذا النحو:
(الجبل)
يا بحر
أيها الغائص في بطون الأرضين
السجين في أغوار الصخور، و أكناف الرمال
يا رهين القيود و الأصفاد و الظلمات
ما ابعد أعماقك ! و ما أبهم امتدادك !
(البحر)
يا جبل
أيها الضائع في أجواز السماوات
التائه في آفاق الفضاء الأدبية
المتحمل أثقال السحب و أنفاس الكواكب
يا منبت الصخر و الشوك
و القتاد و الجيف المتعفنة
ما أحمق رسوخك ! و ما أحقر تطاولك!…
ويمضي طويلا على هذا النحو…
ذلك هو القصيد إذن : حوار متبادل بين الجبل و البحر فكل منهما يرصد نقائض الآخر بل إنه يجعل من فضائله مساوئ فالبحر لدى الجبل يمثل السجين و القيود و الضلال و الضجر و الثرثرة و الأكفان والأحزان و القذارات و الارجاس و الزيف و الغدر و الملح و الدجل… إلى غير ذلك من المعاني و الرموز الحقيرة.
و يمثل الجبل لدى البحر مفاهيم و مدلولات الضياع و التيه و الشوك و الحمق و التطاول و الغباء و الكبرياء و القبح و الغرور و الجحود و اللعنات و السخرية و الأطماع و إلى ما شابه ذلك من الأوصاف و النعوف الهجينة فالقصيد إذن تجميع للمثالب و للكبائر التي يراها الجبل في البحر و التي يراها البحر في الجبل فكأنه تبادل للهجاء حيث أن كلاّ منهما لا يرى في الآخر إلا العيوب بل حتى المزايا و الفضائل التي نراها في الجبل و البحر تصبح لديهما رزايا و رذائل
أما من ناحية الصياغة فالقصيد قائم على الثنائيات بين تلك المعاني و على المقابلة بينها ثم على الترادف و التوالي والتكرار في الصيغ و المعاني معا :
* مثل قول الجبل :
يا بحر
أيها الغائص في بطون
الارضين
السجين في أغوار الصخور
و قول البحر :
يا جبل
أيها الضائع في أجوار
السماوات
التائه في آفاق الفضاء
الأبدية
-
-
و مثل قول الجبل :
-
مقتا لأمواجك المكشرة عن
بياض الأكفان
و أحزان القبور المحدثة
و قول البحر :
خزيا لكبريائك العنيدة المتجلية
في كثافة أشجارك
و التفاف أوراقك الشعثاء
-
-
و مثل قول الجبل :
-
سحقا لك و لعمقك الخداع
الزاخر بالنفاق و الدجل
و التضليل
و قول البحر :
أف لك و لتظاهرك الخبيث
المكتظ بالأطماع و الصغائر
و الألاعيب
فالقصيد كأنه قائم على الأشباه و النظائر من ناحية أو كأنه يتحرك بين مد و جزر و ذلك لعمري إيقاع جديد لا يمكن أن يتحدد بتفعيله أو قافية فمصطفى خريف كتب هذا القصيد على بحر آخر جمع فيه حركة الموج و اِمتداده مع تعالي الصخر و كبريائه .
و القصيد ذو أبعاد رمزية عديدة يمكن أن تتصل بالنفس و الأخلاق و يمكن أن تتضمن المقولات الوجودية الطبيعية في إطارها الفلسفي العميق حيث يشتمل على كلمات حبلى بالدلالات العميقة و ما الخاتمة إلا ذات شان كبير عند قول مصطفى خريف على لسان الجبل و البحر على التوالي :
-
أنت قطرة من ماء
-
أنت ذرة من تراب
فالقصيد من ناحية المعمار قائم على منطق الجدل الذي يبدأ بالمقدمات و الفرضيات ليصل أخيرا إلى النتائج و هو من ناحية أخرى يتمثل التشخيص المسرحي بما فيه من أصوات متناقضة تصل إلى الحركة في ما بينها إلى أن تصل الذروة ثم إلى الحل ضمن جدلية الاِختلاف و الاِئتلاف بحيث أنها يمكن أن ترمز إلى ثنائية الوجود و العدم و يمكن أن تعبر أيضا عن تلازم المتناقضات في الدنيا.
إن نص قصيدة (بين جبل و بحر) الذي صنفه مصطفى خريف ضمن باب (من هنا و هناك) في ديوانه (شوق و ذوق) يؤكد أن الشاعر يرى أن الشعر يمكن أن يقال أيضا في غير شكل الموزون و المقفى و ما إبقاؤه على هذا النص ـ على اِنفراده ـ في هذا الديوان إلا لاِعتباره من ضمن جواهره الشعرية المنتقاة بعناية في آخر حياته… و يكفي القلادة ما أحاط بالعنق !
يعتبر مصطفى خريف إذن الشاعر الذي اِعتبر التقليد قاعدة وأن التجريب والتجديد اِستثناء…وتلك لعمري من أهم خصائص تاريخ الشعر العربي قديمه ومعاصره.
المراجع
-
ديوان شوق و ذوق – مصطفى خريف الشركة التونسية لفنون الرسم 1965
-
الشعر التونسي الحديث – محمد صالح الجابري الشركة التونسية للتوزيع 1976
-
نحن نمشي – مصطفى خريف– وزارة الثقافة تونس 1993.
……………………………………………………………………..
حلقة الوصل
أبو القاسم محمد كرّو
مع الأديب أبي القاسم محمد كرّو المولود سنة1924 عرف الأدب التونسي طورا آخر وذلك مع الجيل الذي تمكن من الدراسة على مقاعد التعليم العصري ثم سمحت له الظروف أن ينهل من المعارف في رحاب الجامعات سواء في القاهرة و بغداد و دمشق و بيروت أو في باريس وغيرها مما فتح وعيه على مجالات أرحب وتجارب أكبر وهو الجيل الذي سيخوض سنوات التحرير الحاسمة ثم سيتحمل مسؤولية بناء مؤسسات دولة الاِستقلال الفتية بما في سنوات منتصف القرن العشرين في تونس و في محيطها المغاربي والعربي والعالمي من أحداث جسيمة و حركات و تحولات حاسمة.
و يمثل الأديب أبو القاسم محمد كرّو أنموذج الأديب التونسي الذي دأب بقلمه على ترسيخ الهوية العربية والمنافح عنها في أغلب كتاباته المتنوعة والغزيرة والتي تشمل الجمع والتدوبن والتحقيق والنقد والشعر المتحرر من العروض ذلك الذي تعود قصائده الأولى لديه إلى سنة 1946 وقد نشر منه في بغداد منذ سنة 1949 حيث سافر إليها للدراسة بدار المعلمين العليا وقد تسنى لي الاِطلاع على ما تيسر منه من خلال نسخ مصورة مدني بها الأستاذ أبو القاسم مشكورا وهي :
-
(خريف العمر) نشرت يوم 2/12/1949 بجريدة صوت الكرخ
-
( لا تجزعي) نشرت يوم 28/7/1950 بجريدة اليقظة
-
(مات الشقاء) نشرت يوم 27/04/1950 بجريدة اليقظة
-
(إبليس) نشرت يوم 19/04/1950 بمجلة قرندل
إذن فبهذه التواريخ يكون أبو القاسم محمد كرو قد كتب و نشر قصيد النثر قبيل اِنقضاء النصف الأول من القرن العشرين وواصل بعد ذلك كتاباته و نشره إلى سنة 1977 على الأقل مما يؤكد لدينا أن الكتابة في قصيد النثر ظلت متواترة بعد الشابي رغم ضمورها في بعض السنوات إلى أن أضحت ظاهرة كبرى منذ ستينات وسبعينات القرن العشرين .
سنة1961 أصدر الأديب أبو القاسم كرو كتاب (كفاح و حب) ببيروت عن دار مجلة شعر و قد اِشتمل على نصوص متنوعة يعود تاريخ كتابة بعضها إلى سنة 1946 و آخرها يعود إلى سنة 1960 أما من حيث جنسها الأدبي فمنها ما ينتسب إلى قصيد النثر و منها ما ينتسب إلى الرسائل و منها ما هو إلى الخواطر أقرب ، غير أن النصوص التي وردت على نمط قصيد النثر عديدة بل هي الغالبة على النصوص الأخرى و هي :
1 ـ (مات الشقاء) هي لوحات تصف المنزلة البائسة لبعض نماذج البؤس الاِجتماعي كما تتجلى لدى أرملة و لدى فتاة حائرة بين والدها الشيخ المريض و بين أمها المحطمة العجوز و القصيد فيه دعوة واضحة إلى العدل الاِجتماعي و ينتهي بالروح النضالية التفاؤلية في قوله:
و يومئذ يزول عن الإنسانية ذلك
و يرتفع عن البشرية كابوسك
و يتحرر الكون من مآسيك
و يتعالى صوت الملايين:
مات الشقاء
مات الظلم
مات الاستعباد
و القصيد بتاريخ 1949
2 ـ (لا تجزعي) القصيد في مناجاة الأم و قد عزم الشاعر على السفر إلى المشرق العربي لكن الخطاب في القصيدة سرعان ما يتحول إلى مناجاة أمّ أخرى قائلا :
إنما من أجلك أنت
لا … لا
بل من اجل أمّ أخرى
لا تعجبي
فلي أم أخرى
اكبر منك و أقدس
إنها أمي… و أنا ابنها بكل
فخر
هي أمنا جميعا…أمنا الكبرى
ثم يمضي أبو القاسم كروا في اِستعراض صفات تلك الأم الكبرى وخصائصها عبر تاريخها الحافل بالمآثر و الأمجاد إلي أن يصل إلي الخاتمة قائلا عنها :
سأعود يوما إليك
و أكون بجانبك
و بدعائك الصالح و صلواتك الحارة
سأعود يوما إليك
و أكون بجانبك
ظافرا بما صبوت إليه
نائلا ما كافحت من اجله
و تغربت في سبيله
و تحملت بعدك عني
و بعدي عن أمي الكبرى “تونس” المفداة بالدم
و الروح
فالقصيد لئن كانت في موضوع الحنين إلى الأوطان إلا أنها جعلت معاني الغربة و حب الأم و الوطن في سياق واحد و ضمن تأليف جديد و كتبت هذه القصيد سنة 1948.
3 ـ (نجوى الليل) القصيد عبارة عن سباحة في تأملات ليلية بما فيها من ملامسة للقيم الإنسانية حينا و اِرتداد إلى قرار النفس حينا آخر في حيرة و مساءلات وجودية و القصيد قائم على ثلاثة مقاطع كبرى يبدأ ب(أيها الليل) و إذا كان في القصيد بعض القتامة أحيانا فانه ينتهي بالفجر وذلك عندما يتوجه بالقول إلى الليل :
ثم تودعني باسما بفجرك الوديع
ضاحكا بصبحك المشرق
لتعود إلى غب الأصيل
فتغمرني بهيبتك و سكونك
و أهيم بخيالي في اثيرك
حبا لك
و شوقا إليك
القصيدة كتبت سنة 1946
4 ـ (إبليس) و هو ثمانية مقاطع يبدأ كل مقطع منها بكلمة (إبليس) مما جعل هذه الكلمة كالمحور الذي تدور حوله بقية المعاني أو كالسلك الذي تنتظم فيه بقية الكلمات على هذا النسق:
إبليس
أسطورة أزلية ساخرة
و رجع النزاع البشري القديم
و عصارة الغباء في التاريخ
و سخرية الحياة بالأجيال
إبليس
فكرة مظلمة غامضة
و وازع غريب رهيب
ونداء هامس قهار
و قائد جامح غلاب
في يديه مصائر الكائنات
و في عينيه ضياء ساحر
فتان
و في كلماته
نفوذ و سلطان
فالقصيد تأملي ذو مسحة وجودية و كتبه الشاعر سنة 1949
5 ـ (أريد …و لكن) القصيد ذو نفس متصاعد ينطلق من البكاء ليصل إلى الموت فالشاعر يبدو في غربة حالكة و قد اِنسدت أمامه الآفاق إذ يعاني من الوحدة و الرتابة و القلق فكأنه بات سجين أحلامه الكبيرة:
أريد أن ابكي
و لكن ليس لي فقيد أبكي عليه
و أريد أن افرح
و لكن ليس جديد افرح به
و أريد أن اغني
و لكن ليس لي نشيد اهزج به
و لا قيثارة أشدو عليها
و أريد أن أرقص
و لكن ما من أحد يرقص معي
و أريد أن امشي
و لكن ساقا واحدة لا تقدر أن
تمشي
و أريد أن اقطف الأزهار
و لكن لمن سأقدمها يا ترى ؟
فالقصيد من حيث البناء قائم على التصاعد من ناحية و على التكرار من ناحية اخرى و الخاتمة فيه ممهد لها و قد وردت بعد طول الاِنتظار و التشويق :
فلم يبق إلا أن أحمل رفشي
و أحفر– صابرا – قبرا بنفسي
و أواري فيه قلبي و أحلامي
و أدفن أيضا حياتي و آلامي
أما بقية القصائد في كتاب (كفاح و حب) فهي تحمل العناوين التالية:
– أحضان الأبد ـ سنة 1951
– أنا يا أمي ـ سنة 1951
– دعاء سنة ـ 1949
– صدقيني و اُذكريني ـ سنة 1950
– لا أتردد ـ سنة 1951
– القلق الإثم ـ سنة 1953
– حنين ـ سنة 1953
– سافر إلى الله ـ سنة 1956
إذن قد ضم الكتاب ثلاثة عشر قصيدا بالإضافة إلى نصوص أخرى موشحة ببعض المقاطع الشعرية و التي تناسب أدب الخواطر و الرسائل أما القصائد المذكورة فهي ذات مضامين تتراوح من التأمل في الوجود إلى الاِلتزام بالقضايا الاجتماعية و الإنسانية بالإضافة إلى آثار التجربة الذاتية بما فيها من خيبة و طموح بل حيث نلامس من خلالها ظلال العواطف الخاصة مع المرأة سواء كانت أما أو حبيبة و قد تتحول إلى رمز للوطن في بعض الأحيان أما مبنى هذه القصائد فهو يندرج ضمن القصيد النثري عن وعي تام بشكله الجديد ذلك أننا نقرا في الصفحة العاشرة من الكتاب نص رسالة ورد فيها ما يلي :
( ستقرأ عن قريب بعض القطع من الشعر المنثور و بعض الأناشيد المكتوبة بدم الأوجاع وعلى شموع القلب المحترق)
بعدئذ يمكن أن نسوق الملاحظات التالية:
أولا : عرف أبو القاسم محمد الكرو بأعماله النقدية في الأدب و التاريخ فهو إلى الكتابات الدراسية أقرب منه إلى الكتابات الإبداعية غير أن هذه القصائد تضعه ضمن رواد قصيدة النثر ـ في تونس على الأقل ـ حيث أن قصيدته (نجوى الليل) تعود إلى سنة 1946.
ثانيا : لعل أبا القاسم محمد كرو لم يأخذ كتاباته الشعرية مأخذ الجد و اِعتنى أكثر بالدراسات الأدبية و التاريخية مما جعل أغلب البحوث الشعرية وكتب تاريخ الشعر في تونس تسكت عن تجربته.
ثالثا : في مقاله المنشور بالمجلد الثاني من آثار الشابي الصادر عن وزارة الثقافة سنة 1994 بالصفحة 141 تحت عنوان : (قصيدة النثر عند الشابي) تشهير صريح بالذين ينسبون قصيدة النثر إلى أنفسهم من الجيل الجديد فهل يعتبر كرو نفسه ضمنيا أنه أحد الذين واصلوا تجربة قصيدة النثر بعد جيل الشابي ؟
رابعا :أعتبر أن القصائد في هذا الكتاب ذات قيمة تاريخية كبرى لأنها تثبت رسوخ التجربة التونسية في كتابة هذا اللون من الشعر الجديد و بالتالي فإن الأستاذ أبا القاسم محمد كرو يمثل حلقة الوصل بين تجربة جيل أبي القاسم الشابي و جيل شعراء الطليعة في تونس الذي ظهر في الستينات من هذا القرن العشرين.
أخيرا نلاحظ أن الطبعة الثانية من كتاب (كفاح و حب) الصادرة عن دار المغرب العربي سنة 1994 قد أضيفت إليها النصوص التالية من قصائد النثر :
-
( و ما أكثرهم) و هو في رثاء النقيد فريد غازي و كتبه سنة 1963
-
(من أعماق الأعماق) و هو في العاطفة و كتبه سنة 1977
-
(همس الحب) و هو في الغزل و بدون تاريخ.
نستنتج إذن من كل ما سبق أن اِنخراط أبي القاسم محمد كرو في كتابة قصيد النثر قد بدأ منذ قبيل منتصف الخمسينات ثم اِستمر متقطعا إلى سنوات السبعينات من القرن العشرين مما يجعل مسيرته تمثل بحق حلقة الوصل بين جيل الشابي وجيل الطليعة الأدبية في تونس وهو يمثل من ناحية أخرى حلقة الوصل بين المغرب والمشرق تلك الصلة التي كانت أقرب إلى الضمور والتلاشي في بعض الفترات .
……………………………………………………………………..
سكون الرياح
لقد بات متأكدا أن فترة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية مثّلت الأساس الذي اِنطلقت منه أغلب التعبيرات الثقافية التي عرفتها تونس على مدى القرن العشرين لما توفر فيها من غزارة وتنوع واِختلاف ومنابر وجمعيات و جماعات عاملة فليس غريبا أن تنشأ في تلك الفترة الحركات الثقافية والاجتماعية والنقابية والسياسية وحتى الفنية و الرياضية وهي الحركات التي ستظل تؤثر من خلال أطروحاتها و بعض أشخاصها بصفة مباشرة في البلاد إلى أواخر هذا القرن ، لذلك إذا نحن انتقلنا إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية سنلاحظ تراجعا واضحابالنسبة للمجال الثقافي بسبب تشدد الهيمنة الاستعمارية عامة ثم بسبب تلاشي وانفراط تلك الحركات بعد أن دارت رحى الحرب العالمية في تونس فما كاد منتصف القرن يطل حتى انطلقت الحركة الوطنية عبر تعبيراتها المتعددة مطالبة بوضوح بالاستقلال والتحرر متناغمة في ذلك مع بقية الحركات الوطنية في المغرب العربي والأقطار العربية وفي بقية أرجاء العالم فأفصح الشعراء في تلك الفترة عما كان يجيش في الوجدان العام من عارم الوجدان الزاخر بالطموحات والأحلام بالحرية والعدالة والإخاء والرخاء والوحدة على المستوى المغاربي والعربي وحتى على المستوى العالم الإسلامي في بعض قصائد المناسبات الدينية.
ما كادت هذه الفترة تغيب حتى خلفت صداها في كتابات جماعة ثقافية
تُعرف بجماعة ـ مقهى تحت السور ـ وهم أدباء وصحافيون وموسيقييون ومغنون كانوا يجلسون في مقهى شعبية بتونس العاصمة وأغلبهم منحدر من أوساط اِجتماعية بسيطة وانقطع الكثير منهم عن مواصلة التعليم لأسباب عديدة ولكن ثقفوا أنفسهم بالمطالعة واِرتياد المجالس الثقافية و ورغم هشاشتهم الاجتماعية و نشاطهم الهامشي أحيانا اِنبثق أدبهم القصصي والشعري المتنوع من الروح الشعبية التونسية في المدينة وذلك من خضم معاناتهم اليومية بل إن البعض من نصوصهم قد اِصطبغ بأبعاد فكرية ذات مدلولات عميقة وجديدة كالوجودية والواقعية و يمثل علي الدوعاجي أبرز كاتب في القصة من بين هذه الجماعة بينما كانت أغلب قصائد الجماعة ضمن الشعر الغنائي ولعل ذلك راجع بسبب مخالطة الشعراء للأجواء الصحفية و الفنية و الإذاعية في تلك السنوات حيث شارك كثير من أدباء تلك الفترة في التحرير للصحافة و اﻹذاعة فكتبوا المسرحيات والأغاني والأزجال بحيث أن هاجس التجديد لدى أولئك الشعراء لم يكن من الأولويات لديهم.
لئن مثلت مجلة ـ العالم الأدبي ـ في سنوات الثلاثينات من القرن العشرين منبرا لجيل الشابي في التعبير عن الأدب الجديد ،فإن مجلة ـالمباحث ـ تعتبر كذلك لسان حال جماعة أخرى من الأدباء الذين لهم تكوين مدرسي عصري حيث نهلوا من الثقافة العربية و درسوا كذلك في المعاهد و الكليات الفرنسية التي تخرجوا منها فكانو ا مزدوجي الثقافة مما جعلهم يطورون الأدب بطرحهم للأسئلة الجديدة في الفكر والفن والعلوم وقد مثل محمود المسعدي ظاهرة اِستثنائية من بين الجميع بما في أسلوبه السردي من رشح للتراث وبما في نصوصه من إحالات على قضايا فلسفية و وجودية فهو الشخصية الأدبية الثانية بعد الشابي التي برزت في جيلها لكأن القرن العشرين قبل أن ينتصف ابى إلا أن يمنح تونس ذينك الاِسمين المتميزين
إن تاريخ الأدب التونسي قد اِشتمل على إرهاصات بعضها كان ذا إضافة و البعض الآخر كان إلى الحركة العادية أقرب أو إلى السكون أميل ومن تلك الحركات التي نشأت ف مطلع النصف الثاني من القرن العشرين والتي مازالت في حاجة إلى كشف و دراسة حركة ــ رابطة القلم الجديد ــ تلك التي ساهمت بوضوح في النشاط و النشر إبان سنوات الخمسينات خاصة ثم تراجعت أو ركنت إلى الهدوء و الصمت و فضّل أقلامها الِانسحاب من المشهد الأدبي أو الِانخراط في جماعات أخرى… إنهم
شعراء تونسيون و جزائريون كانوا ينشرون قصائدهم على صفحات، جرائد ومجلات تلك السنوات و كانوا ينشطون في فضاءات الحركة الوطنية التي كانت تناضل من أجل التحرر من الاِستعمار الفرنسي لذلك نلاحظ أن السمة الغالبة على قصائدهم تتمثل في معاني الوطنية و في التغني بالقيم الإنسانية …و لقد ظهر من تلك الجماعة شعراء نذكر من بينهم على سبيل المثال :
– منور صمادح
– العربي صمادح
– الشاذلي زوكار
– علي شلفوح
– الميداني بن صالح
– عبد الرحمان عمار
–جمال الدين حمدي
–نورالدين صمود
-
و غيرهم من الأدباء الجزائريين الذين كانوا يقيمون بتونس للدراسة في جامع الزيتونة
و ما كادت سنوات مطلع الستينات من القرن العشرين تطل حتى اِنفرط عقد الجماعة فالبعض من أقلام رابطة القلم الجديد رحل إلى المشرق العربي للدراسة أو الهجرة و البعض الآخر سافر إلى فرنسا و قسم منهم عاد إلى الجزائر و كثير منهم اِنخرط في العمل السياسي فطوحت به اﻵفاق هنا وهناك فترك الشعر أو خفت لديه ،، و منهم من دخل الإدارة فأدارته في دواليبها أما البعض الآخر فجعل من الشعر حالة دائمة حتى فقد توازنه في الواقع الجديد الذي فرض قوانين وجوده .
هم شعراء الجيل المعبر عن مرحلتين هامتين في الحياة الأدبية بتونس هما مرحلة ما بعد فترة الشابي و مرحلة ما قبل فترة التحديث و التجريب في السبعينات ، فهم يمثلون مرحلة الرومنطيقية في أخريات أنفاسها وبداية مرحلة الالتزام ضمن المدرسة الواقعية الاشتراكية من ناحية و ضمن الأبعاد القومية العربية من ناحية أخرى.
من أهم شعراء هذه الجماعة منوّر صمادح الذي سطع نجمه إبان
سنوات الخمسينات من القرن العشرين و الشاعر أصيل مدينة نفطة من جهة الجريد التونسي حيث ولد سنة 1931 وينحدر من أسرة عريقة في الأدب غير أن والده توفي وهو يافع فكفله خاله الذي انتقل معه عبر أماكن عديدة من البلاد فاِمتهن صناعة الفطائر والخياطة وحتى إصلاح الدراجات ثم التجارة وكان مولعا بالمطالعة والشعر ينشده في المحافل الوطنية إلى أن أنصت إليه مرة الزعيم الحبيب بورقيبة فقربه من الدوائر الوطنية حتى صار الملهب الأول للحماس في المظاهرات والتجمعات الحاشدة مما جعل السلطات الاستعمارية تحجز أحد دواوينه .
بعد الاِستقلال صار منوّر صمادح موظفا مرموقا بالإذاعة الوطنية و لعل المنافسات حول بورقيبة هي التي أقصته بطريقة أو بأخرى عن الأضواء بالإضافة إلى فشله العاطفي و فسخ خطوبته مما جعل جعل الشاعر يدخل في مرحلة نفسية مضطربة ثم سافر إلى الجزائر لكنه سرعان ما عاد إلى تونس ليحيا وحيدا متجولا في الشوارع ويلم من حين إلى آخر بالنوادي الثقافية فيأخذ الكلمة خطيبا بكلام قابل لكل تأويل إلى أن توفي رحمه الله سنة 1999 و تعتبر قصيدته ـ الكلمات ـ المعبرة عن مسيرته في الحياة :
عندما كت صغيرا، كنت أحبو الكلمات
كنت طفلا، ألعب الحرف و ألهو الكلمات
كنت أصواتا بلا معنى، وراء الكلمات
و تخطّيت سنينا عثرتها الكلمات
أركض الأحلام و الأوهام خلف الكلمات
و وراء الزمن الهارب أعدو الكلمات
كلّ ما أعرفه أنّي ظلمت الكلمات
و سمعت النّاس يصغون لصوت الكلمات
فتكلّمت…و لكن لم أفدها الكلمات
ليس بالهزل و لا بالجهل خوض الكلمات!
و تألمت كثيرا في جراح الكلمات
و سفحت العمر دمعا من عيون الكلمات
و لقد متّ مرارا في سبيل الكلمات
فصدور النّاس قد كانت قبور الكلمات
يستجيرون بها منها…و أين الكلمات؟
بيع ما فيهم من الحسّ فماتوا الكلمات
كالدّمى الخرساء لا تعرف معنى الكلمات
هي لحن بشري ردّدته الكلمات
نغم وقّعه الإلهام يرجو الكلمات
و رؤى سكرى تهادت في رياض الكلمات
هي روح الكون زخّار بفيض الكلمات
تتراءى حلما يقظان عبر الكلمات
قل لمن همهم في النّاس و خاف الكلمات
إنّما أنت شفاه ظمئت للكلمات
و نداء حائر في صوت بحّ الكلمات
آدك الصمت…فهلاّ قلت بعض الكلمات؟
أو تخشى النّاس و الحقّ سجين الكلمات؟
أوَ تخشى النّاس و الحقّ رهين الكلمات؟
حيوان أنت لا تفقه لولا الكلمات
و نبات أو جماد أنت لولا الكلمات
أنت إنسان لدى النّاس رسول الكلمات
فتكلّم، و تألّم، و لتمت في الكلمات
و إذا ما عشت فيهم فلتكن للكلمات
شاهد أنت عليهم… و عليك الكلمات…
يهدر الشاعر في النّاس و تحيا الكلمات
و يموتون بلا ذكرى و تبقى الكلمات
…………………………………………………………………………………..
تهشيم البرج العاجي :
صــــالح القرمــادي
يمثل الأديب صالح القرمادي ثالث ثلاثة كان لهم مساهمة فاعلة في تطور الأدب التونسي الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين و أعني بهم الأساتذة منجي الشملي وتوفيق بكار وصالح القرمادي و يضاف إليهم فريد غازي الذي توفي في عز شبابه بعد عودته من فرنسا وهم جميعا من مواليد مطلع الثلاثينات من القرن العشرين ونهلوا من ينابيع الثقافة العربية و اِمتلكوا من ناحية أخرى ناصية اللغة الفرنسية بالإضافة إلى ما تيسر لهم من اللغات الأوروبية الأخرى فتخرجوا من السربون في باريس حاذقين اِختصاصات جديدة في دراسات الأدب العربي تشمل الأدب المقارن والمدارس النقدية الحديثة واللسانيات والترجمة وغيرها من المجالات الأدبية الأخرى.
عشرون قصيدة فقط … ولكنها كافية لتجعل صالح القرمادي يمتاز بمكانته المتفردة في الشعر العربي المعاصر ـ بتونس على الأقل رغم كثرة منتقديه ـ غير أن الدّارس المنصف للحركة الشعرية في تونس لا يسمح لنفسه أن يمر دون الوقوف عند ديوانه ـ اللحمة الحيّة ـ الذي ظهر سنة 1970.
إن صالح القرمادي بحكم اِختصاصه في الدراسات اللغوية و علم اللّسانيات في كلية الآداب بتونس و على مدى عشرين سنة قد أثر تأثيرا مباشرا في أفواج طلبته سواء منهم أولئك الأدباء و الشعراء أو أولئك النقاد والأكاديميين و لقد أثرت كذلك آراؤه الجريئة في الحركة الأدبية والثفافية بتونس حيث ساهم في إصدار وتحرير مجلة ـ التجديد ـ في أوائل الستينات مع الأستاذين توفيق بكار والمنجي الشّملي وغيرهما فكانت منبرا لمفاهيم وأطروحات جديدة ساعدت على بروز كتابات نقدية و إبداعية مثلت منعرجا آخر للأدب التونسي بعد الرتابة التي خيمت على مرحلة ما بعد فترة جيل الشابي الثرية.
الملاحظة الأساسية التي تلوح في أشعار القرمادي أنّها تختلف اِختلافا جذريا مع متن شعراء جيله من الذين ظهروا في نفس المرحلة تقريبا وهي تمثل مرحلة ظهور واِكتساح نمط قصيدة التفعيلة بما فيها من غنائية والتزام بالمضامين الاِجتماعية بينما قصائد ـ اللحمة الحية ـ ذات مواضيع أخري تنطلق من مشاعر الإنسان المأزوم والمهموم بالمواضيع البسيطة و الثقيلة في أوزارها كما هو منشغل بالأسئلة الكبيرة في الحياة والموت.
إن القاموس الشعري لدى صالح القرمادي يختلف عن القاموس الشعري المستعمل في ستينات القرن العشرين ومن صفاته تلك ، مخالفة الذّوق السّائد مثل قوله:
ألا ليت الدّجاج يعود يوما
فأخبره بما فعل المبيض
ومخالفته للذوق السّائد تصل إلى السّخرية من بعض المفاهيم القديمة وعاداتها الشكلية المتحجرة وهذه مسألة والحق يقال أثارت عليه كثيرا من الخصوم من منطلقات إديولوجية فالرّجل ـ رحمة اللّه ـ متّهم لدى البعض في إخلاصه للّغة العربية ومتهم أيضا حتّى في اِنتمائه إلى الثقافة الوطنية ولكنه كان يردّ عليهم بأنه درّس علم اللّسانيات العربية حينما كان هذا العلم في عداد المجهول عند الكثيرين و كان يردّ كذلك أنه عرّب عشرات المصطلحات التي تشمل المفاهيم اللّغوية الدقيقة و كم كان يفاخر منتقديه بأنه هو الذي نقل إلى العربية الفصحى كتاب كونتنو في علم الأصوات العربية الذي صدر عن الجامعة التونسية سنة 1966 و كان يشعر بالاِعتزاز لتعريبه البعض من كتب الأدباء المغاربة تلك التي كتبوها في الأصل بالفرنسية فجاءت بلغة عربية فصيحة …
إنّ صالح القرمادي يختلف في مسائل جوهرية مع الذين يدافعون عن سلامة اللّغة العربية فهو يراها تستطيع أن تهضم بسهولة الكلمات الجديدة لأن تاريخها الزاخر يثبت أنها لغة متطورة متفاعلة مع الظّروف التاريخية الجديدة وهو يرى أن الشعر أوسع من العروض لذلك لا يحفل في شعره بالقافية والتفعيلة .
قصائد صالح القرمادي خارجة عن المألوف فهي تصدم القارئ لغرابتها وقد تنطلق القصيدة من شيء مالوف عند النّاس كقصيدة النشرة الجوية التي يضمنها تعبيرا عن الواقع المأزوم حيث يقول :
وأما طقس الغد ففي اِستقرار
ثم تنزل أمطار ناريّة
تنبت لها أشجار وحشيّة
وأما البحر فدعوة متحركة إلى الهيجان
وشعر صالح القرمادي لا يصور العوالم الجميلة بل إنّه يشوش الصور التّي طالما زخرفها الشعراء مثل صورة الحب لديهم وذلك عندما يقول يقول:
حبّ لا يضطجع تحت أفنان الأشجار
حبّ محتار
حبّ لا ينجو إلاّ إذا اِخترق البحار
حبّ عرق ليس بفوّاح
حبّ أسنانه ليست كغر الأقاحي
فالشعر عنده مسلك غريب في اللغة وتهديم للسائد الذوقي عند النّاس وتخريب للقاموس الشعري المتداول وهو في كلّ ذلك يتناول الكلمة الفصيحة الضاربة في القديم و لا يتحرج أيضا في اِستعمال الكلمات المتداولة فتضفي على شعره حلاوة الواقع اليومي وضراوته أيضا فيقول:
حب قفص
حب ليس يغتنم الفرص
حب نصف عمومي
نصف خفيّ
حب طريّ شهيّ
ككتف العلوش على الكسكسي
ذلك هو صالح القرمادي : شعره ليس أحلاما بين الورد والحرير أو ترنما بالقوافي الرنانة … إنه نص مأزوم لا يوحي بالهناء طالما هناك بلبل واحد في قفص فإنه يعتبر أن بلابل الدنيا في خطر وكذلك يصور التفاح عندما يجعله في قفص الاتهام باكيا صائحا في وجه الحكام لأنه يرى الحديقة العمومية ميلئة بالمشانق حيث يجعل الأشجار قطّاع طريق و تلوح الأزهار عفاريت أماالمتنزهون ففي بعض قصائده ليسوا إلا مجرد أعمدة كهربائية لا حركة لهم ولا استطاعة !…
والواقع عند صالح القرمادي مليء بالمتناقضات ففيه الأطفال اللاّعبون بعربة الخبار فيه الّذين لا ينامون إلا سكارى وفيه المريض بعكازه و العجوز التي تصلي على النبي وفيه كذلك المزابل والكلاب والمقعدون وفيه البول والكنيف الفوّاح وفيه الجنازة والمصلون
هي إذن شاعرية غريبة جديدة ونادرة الوجود في الشعر العربي قديمه وحديثه .
وقد اِحتفل صالح القرمادي بالموت في مرثيتهه لنفسه فجاءت مليئة بالمعاناة وبالألم حيث يبدو أنه صاحب تجرية صوفية وجودية خاصة إذا نحن قرأنا قصائده باللّغة الفرنسية وهو في أشعاره كلّها صاحب نفس راضية مطمئنة لكنه يبدو من ناحية أخرى أنه صاحب جرح أبدي ضارب في الغربة … يقول في قصيدته ـ دعوني لشأني:
دعوني لشأني
واقفا وقفتي المجروحة
أمام القبول المفتوحة
إن لي مع الموات وعدا
وجدالا
وكلاما
قد يبدو لكم محالا
وهو القائل كذلك في قصيدته : نصائح إلى أهلي بعد موتي
إذا متّ مرّة بينكم
وهل أموت أبدا
فلا تقرؤوا على الفاتحة وياسين
واتركوهما لمن يرتزق بهما
ولا تحلّوا لي في الجنّة ذراعين
فقد طاب عيشي في ذراع واحد من الأرض
ولا تأكلوا في فرقي المقرونة والكسكسي
فقد كانا أشهي أطعمة حياتي
ولا تذروا على قبري حبوب التّين
لتأكلها طيور السّماء
فالأحياء بها أولى
ولا تمنعوا القطط من البول على ضريحي
فقد اِعتادت أن تبول على جدار بيتي
كل يوم خميس
فلم تزلزل الأرض زلزالها
ولا تزوروني في كل سنة مرّة
فليس لديّ ما به أستقبلكم
ولا تقسموا برحمتي وأنتم صادقون
ولا حتى وأنتم كاذبون
فصدقكم وكذبكم عندي سواء
ورحمتي لا دخل لكم فيها
ولا تقولوا في جنازتي أنتم السابقون ونحن اللاّحقون
فليس هذا السّباق من رياضاتي
إذا متّ بينكم
وهل أموت أبدا
فضعوني في أعلى مكان من أرضكم
واحسدوني على سلامتي
والأديب صالح القرمادي كتب كذلك الشعر بالفرنسية بالإضافة إلى القصة والدراسات النقدية واللغوية زيادة على التعريب و ترجمة مختارات من الأدب التونسي إلى الفرنسية لذلك فهو أديب شامل و أكاديمي هشم البرج العاجي بمساهاماته في دفع الحياة الثقافية إلى التجديد والتطور وتلك هي ميزته الخاصة .
نعم / بلا
نحن نحيا
نحن نبكي
وأحيانا نحن نبتسم
بالصداقة أو بلا صداقات
بالخبز المبارك نحيا
أو بلا قوت
بالحرية نحيا
وبلا حريّة نحن نموت
مع البنين نحيا وبلا اِبن نحيا
بالعقل أو في الجهل نحيا
في الحرب نحيا أو في السلام
والمرء تسحقه رحى الأيّام
ثقيلة رتيبة
والأعوام !
المرء – أمام الجلاّد – قد يجعل
من الخنافس أصدقاء
فليس بوسعه أحيانا
إلا أن يعشق العفاريت
في الفضاء
مع أو بلا أمل النّصر نحيا
مع أو بلا خفقان الصّدر نحيا
مع أو بلا حرفة الحبر نحيا
فهؤلاء السّعداء أصحاب الألقاب
منحتهم شهادة ابتدائية
بلا حساب
أكثر من جائزة نوبل
للآداب!
بالضمير أو بلا سفر نحيا
على خطأ أو بلا غلط نحيا
والمرء يستنشق شذى الفطائر
عائدا من دفن الأحبّة
في المقابر
مع شقائق النّعمان
أو بلا ريحان نحيا
بالاِستحسان أو بالاِستنكار نحيا
فالمرء يعود كلّ يوم إلى بيته
ولم يعبّر بحرّية
عن رأيه!
بالحبّ أو بلا أحباب
سنحيا
في الأفراح في الأتراح
سنحيا
بالأمل في الإياب
أو مع طول الغياب
سنحيا
نحن نحيا
نحن نبكي
وأحيانا في اللّجام نبتسم
برغم المصيبات
والهرم
لنعيش الحياة على هوانا
برغم الممات
برغم العدم !
* أصل القصيدة بالفرنسية AVEC OU SANS
……………………………………………………………………..
الضلع الثالث
فضيلة الشابي
لم تكن المدونات الأدبية التونسية القديمة خالية من أقلام النساء فهذه مهريّة الأغلبية وهي الأميرة ـ التي نشأت في أواسط القرن الثالث للهجرة بمدينة رقادة قرب القيروان في عزّ ورفاهة ـ قد وصلتنا منها قطعة في رثاء أخيها تقول فيها
ليت شعّري ما الذي عانيته
بعد طول النوم مع نفي الوسن
مع غروب النفس عن الأوطانها
والتخلي عن حبيب وسكن
يا شقيق ليس في وجد به
علّة تمنعني من أن أجن
وكما تبلى وجوه في الثرى
فكذا يبلي عليهن ّالحزن
و يحدثنا العلاّمة حسن حسني عبد الوهاب في كتابه عن الشهيرات التونسيات كذلك عن خدّوج الرّصفية نقلا عن اِبن رشيق قائلا إنها كانت شاعرة حاذقة مشهورة لها ترسّل لا يقع مثله إلاّ لحذّاق المترسلين وغاية ما نعلمه من حياتها أن شابا ظريفا مشتهرا بالشعر هو أبو مروان عبد الملك بن زيادة الله قد تعلق بها تعلقا شديدا وقد مال قلب خدّوج إليه أيضا لأدبه وكياسته فجاشت قريحتها ونبع ذوقها السّليم بالنظم الرّقيق الجيّد لكن بعض الوشاة المغرضين تصدّى لغرامها فكدّر صفوه فقالت
فرّقوا بيننا فلمّا اِجتمعنا
مزّقونا بالزور والبهتان
ما أرى فعلهم بنا اليوم إلاّ
مثل فعل الشّيطان بالإنسان
لهف نفسي عليك بل لهف نفسي
منك إن بِنْت أبا مروان؟
أما في القرن العشرين فإن الشاعرة فضيلة الشابي تعتبر الضلع الثالث في مثلث حركة ـ غير العمودي والحر ـ تلك الموجة الشعرية التي ظهرت خاصة بين 1968 و1974 حيث مثلت شكلا جديدا في الكتابة الشعرية أما الثلاثة فهم: الحبيب الزناد وفضيلة الشابي والطاهر الهمامي الذي أصدر بيانات عديدة في التنظير لذلك الشعر ثم يأتي بعدهم في الظهور والحضور الشعراء نورالدين عزيزة و مختار اللغماني وأحمد الحباشة ومحمد أحمد القابسي ـ الترتيب ليس تفاضليا ـ
ولئن برزت الشاعرة زبيدة بشير مع بداية الستّينات وأصدرت مجموعتها الشّعرية (حنين) فإنّها سرعان ما اِنسحبت منكفئة على نفسها، وإذا كان التفسير النفسي والاجتماعي وغيرهما مقنعا لذلك الانسحاب من الحياة الأدبية فإنّ الشكل الشعريّ القديم بمضامينه الرّومنطقية قد يفسر أيضا ذلك الصّمت الأدبيّ حيث أنّ الكتابة الشّعرية لدى هذه الشاعرة لكأنّه ما عاد ينسجم مع الواقع الجديد الذي فرض نفسه بعد السّبعينات من القرن العشرين وبالتالي فإنّ قصائد زبيدة بشير يمكن اِعتبارها آخر علامات المرحلة الرّومنطيقية في تونس لتترك مكانها إلى صوت نسائي جديد فيه الكثير من التحدّي لأنّه منبثق من حركة شاملة في تجديد الثقافة ضمن وعيها بتقاطعاتها مع المدلولات الأخرى في الحياة ، وسواء اِنخرطت الشاعرة فضيلة الشابي في التنسيق الحركي للطليعة الأدبية بتونس منذ أواخر الستينات أو أنّها كتبت ونشرت في منابرها من موقع مستقل عنها، فإنّ شعرها يمثل وعيا فنّيا جديدا خارجا عن المقولات العروضية ويعبّر عن وجدان وفكر يندرجان ضمن مقولات الحركة الإبداعية العارمة التي ظهرت في تونس بعد سنة 1967
إنّ صوت فضيلة الشابي بقدر ما فيه من اِنصهار مع قضايا الإنسان في العالم بقدر ما يعبّر أيضا عن المعاناة الذاتية بما يختلج في النّفس من تمزّق وحيرة تتراوح بين الإحساس بجراحات الذّات إلى اِنكسارات الصّدمة مع الوجود في مثل قولها
اِمنحني روائح الأرض
أجرح أمامي الكلمات
إنّني عطشى ••
حين يسبح النّاس في شواطئ الجريمة
حين يفقد الطفل وظيفة اللعب
حين تتلاشي الرّؤيا والحجب
حينها
أقف في مقلة العالم
وأقذف الأرض
••
لم تجد في مصانع الرضا حطبا
وفي قلوب البشر لم تجد غضبا
فهذا الصنف
أصنع منه أبوابا
أخلق به العجب
ِامنحني ، امنحني ، امنحني
روائح الأرض
وأزرع في قلبي الغضب
فمعنى الغضب لدى الشاعرة منطلق من ألم العصر الجديد الذي يحرم الأطفال من اللّعب ويحجب عن الإنسان أحلامه المشروعة في الحياة والمحبّة و للشاعرة قصيدة بعنوان ( فلسطين ) تصدّرها قائلة: حينما أترك كلّ الأهواء يمكث في أعماقي الغضب ـ هكذا قال أحد الشعراء الحكماء
فقصائد فضيلة إذن تمثل علامة اِنفصال واضحة عن ركام الشّعر النّسوي القديم بما فيه من تضخم للعاطفة الجياشة واِستغلال لكوامن الأنثى الخاصة عبر العصور الماضية
إنّ قارئ نصوص فضيلة الشابي يواجه صورة اِمرأة جديدة ذات موقف من الحياة ومن الكون قبل أيّ شيء آخر حيث أنّ الوعي الكبير والحاد بالمنزلة الإنسانية لدى الشاعرة قد طغى على غيره من المعاني في هذه الفترة الأولى من السبعينات التي اِكتسحتها ألوان عديدة من القصائد الجديدة تلك التي لا تعتمد على التفعيلة والقافية والتي يعتبر لون ـ غير العمودي والحر ـ أكثرها اِنتشارا مع اِختلاف واضح بين رواده و مسايريه .
……………………………………………………………………..
الأغصان المختلفة
ما أن لاحت سنوات السبعينات في تونس حتى شهد المجتمع تحولات جذرية هي نتيجة مباشرة للإجراءات الجديدة من سنوات الاِستقلال الأولى تلك التي شملت المرأة والعائلة والتعليم و الاقتصاد والمنظمات والجمعيات وغيرها فظهر أثرها في مجالات عديدة من بينها مجال الحياة الثقافية وذلك عندما بدأت تظهر بوادر حركة شاملة ذات مراجع معرفية مختلفة فالجيل الجديد الذي دخل إلي المدارس في النصف الثاني من القرن العشرين أي مع بداية الاِستقلال بدأ يتخرج من المعاهد و الكليات التونسية أو من بعض العواصم العربية والغربية حاملا في ذهنيته نظريات جديدة عن الأدب و المجتمع و عن العالم في خضم أحداث كبرى هزّت الوجدان وخلخلت الثوابت فتفتحت عيون ذلك الجيل على التساؤل والحيرة و نقد الذات !
فما كادت سنوات الستينات تأفل حتى بدأت تلوح على منابر الجرائد و المجلات أصوات جديدة معظمها كان من الطلبة القادمين من الأرياف و المدن التونسية الداخلية و إذا بالساحة الأدبية تشهد حركة على قدم و ساق حول قضايا نالت من النقاش المجال الواسع و أهم تلك القضايا دارت حول مسائل ثقافية و شاركت فيها كثير من الأقلام المتنوعة المشارب فراحت تطرح وتخوض غمار مواضيع ثقافية وأدبية تدور حول المواضيع التالية :
1- التعريب
2- التفعيلة
3- الالتزام
4- الطليعة
5- الأصالة
6- التفتح
7- التجريب
8- المدارس النقدية
9- اللغة
10 – حقوق الكاتب…..
و لا بد من الملاحظة أن الكتابة القصصية هي أيضا قد سارت شوطا هاما في التطور خاصة بنادي القصة أبي القاسم الشابي بالوردية من ضواحي تونس العاصمة منذ أواسط الستينات و واكبتها كتابات نقدية مستوحاة من النظريات الغربية الجديدة التي كان بعض الأساتذة في كلية الآداب خاصة يعرفون بها في حلقات دروسهم ومحاضراتهم في النوادي.
و قد شهدت تلك السنوات حركة نشيطة في المسرح و السينما و الرسم و الموسيقي و قد نشر ذلك الفيض من الشعراء قصائدهم المختلفة القيمة الإبداعية تحت عناوين خاصة فوق قصائدهم مثل :
1- غير العمودي و الحر
2- القصيدة المضادة
3- ألوان جديدة
4- لوحة
5- تجاوزات
6- كتابة
و قد نشرت أغلب تلك الكتابات المختلفة من نصوص إبداعية ونقدية وردود خاصة على صفحات المجلات التالية :
-
الفكر – التجديد – ثقافة –
و كذلك على الصفحات الأدبية والملاحق الثقافية للجرائد الصادرة في تلك الفترة و هي خاصة:
– العمل الثقافي
– الصباح
– الصدى
– المسيرة
– الأيام
– الشعب
– الهدف
إنها تمثل مرحلة أدبية مهمة يمكن تحديد الأوج فيها خاصة بين سنوات 1968 و 1974 أي مدة نشر هذه الأقلام الجديدة و سيطرتها على الساحة الأدبية و قد شهدت هذه الفترة بروز أصوات جديدة شعرا و تنظيرا و نصوصا متنوعة فهي تعتبر أوضح و أغزر مرحلة بعد فترة الشابي و بعد جماعة ( تحت السور) من حيث الوعي الفني و الجدل الفكري و غزارة النشر .
لكن ما كادت تنتصف سنوات السبعينات حتى سجلت الحركة تراجعا واضحا على مستوى النشر و النشاط وشهدت الصحافة عدة مواجهات بين بعض رموزها .
و يمكن أن نلاحظ في أدبيات تلك المرحلة ما يلي:
1- أنها اِستطاعت مواجهة الشكل التقليدي و اِكتسبت شرعية التجديد والبحث
2- تداخلت فيها المنطلقات الفكرية و الاجتماعية و اللغوية والحسابات الخاصة ولم يكن يجمع بينها اِتفاق حركي واضح فهي إلى القناعات الشخصية أقرب منها إلى التنظيم والهيكلة كأنها الطفرة أو الموضة العارمة المعبرة عن الأزمة التي مر بها المجتمع التونسي في عدة مجالات إبان تلك السنوات.
3- ظهرت خلال تلك السنوات ثم بعدها النوادي الأدبية في تونس و صفاقس و القيروان و سيدي بوزيد و توزر والمتلويو غيرها فكانت ملتقى للأدباء الشبان الذين تأثروا بمقولات الحركة في التحرر والبحث والانخراط في هموم المجتمع و القضايا العربية و العالمية و كان الطلبة يحملون أحلامهم العارمة فيساهمون فيها بالنقاشات حتى أضحت ظاهرة الأمسيات الشعرية و الثقافية تشمل جميع أنحاء البلاد سواء داخل دور الثقافة أو داخل المعاهد و الكليات أو ضمن الاتحادات و الجمعيات و في المناسبات و أهمها الأيام الشعرية بدار الثقافة اِبن خلدون و بدار الثقافة اِبن رشيق خاصة بين سنوات 1976و 1982 أما الشعراء الذين ساهموا في الحركة الماضية–فبعضهم واصل تجربته و بعضهم أخذ نفسا جديدا ضمن هذه التفاعلات الجديدة التي طرأت بعد السبعينات مطورا من مقولات الطليعة الأدبية.
ثم توّجت تلك الحركة نشاطاتها بملتقى حول الشعر التونسي بالمركز الثقافي بمدينة الحمامات و بمشاركة ممثلين عن أغلب و أهم الأصوات السائدة فظهرت اِختلافات فكرية و فنية بينهم و اِنقسموا إلى ثلاث مجموعات هي الواقعيون و التراثيون و الحداثيون :
فالشعراء الواقعيون قد اِعتبروا أن الشعر ينبغي أن يكون ضمن المدرسة
الواقعية بمختلف منطلقاتها و أبعادها ومن بين شعراء هذه الجماعة الطاهر الهمامي ومحمد معالي و سميرة الكسراوي و اختاروا ـ المنحى الواقعي ـ اِسما لهم.
والشعراء التراثيون قد اِعتبروا أن الشعر ينبغي أن يحافظ على الصفاء اللغوي وأن التراث العربي هو المصدر الأول لهم ومن بين شعراء هذه الجماعة منصف الوهايبي ومحمد الغزي و اِختاروا ـ الشعر الكوني ـ اسما لهم.
أما الشعراء الحداثيون أو ـ الريح الإبداعية ـ كما سموا أنفسهم فقد اِعتبروا
أن حرية الشاعر شرط أساسي في المضمون والشكل و اللغة مع الالتزام بالقيم الإنسانية الخالدة ومن بين شعراء هذه الجماعة منصف المزغني ومحمد العوني ومحمد بن صالح وكاتب هذه السطور
لم تكن تلك الجماعات ممثلة للشعر التونسى الجديد وحدها وإنما ظهرت ضمن نفس السياق
التاريخي جماعات أخرى مثل جماعة شعراء المناجم بجهة مدينة المتلوي من الجنوب الغربي للبلاد وضمت شعراء الجهة من بينهم عمار شعابنية وسالم الشعباني ومحمد مختار الهادي وغيرهم ثم جماعة الأخلاء التي جمعت خاصة الصادق شرف ويوسف رزوقة و عبد الله مالك القاسمي والحبيب الهمامي وغيرهم ثم جماعة الفتية الشرسين التي ضمت الشعراء خالد النجار ومحمد رضا الكافي وغيرهما
غير أن أغلب هذه الجماعات الشعرية كانت أقرب إلى العلاقات الشخصية منها إلى الروابط الفكرية و القناعات الأدبية المحضة وهو ما يفسر سرعة ظهورها وسرعة تلاشيها أو اِنقلاب بعض أفرادها على بعض كجماعة الشعر الكوني التي تحولت إلى جماعة الفتية الشرسين ثم توسعت فصارت جماعة القيروان وضمت إليها الشاعرة جميلة الماجري وغيرها …واِنفرط عقد جميع الجماعات الشعرية مع إطلالة القرن الواحد والعشرين فأمست كذكريات القصائد القديمة !
ولابد من التأكيد على أن الكثير من الشعراء المعاصرين و المجايلين لتلك الأقلام الشعرية لم ينخرطوا في جماعاتها ولم يتحركوا في مجالاتها وإنما ظلوا بعيدين عن حراكها وخلافاتها وهي سمة نجدها على مدى جميع الحركات والجماعات الشعرية في تونس فلا يمكن أن نحصر ولا أن نحدد الشعر الجديد بين تلك الجماعات فحسب.
المراجع
–السؤال و الصدى – محمد الهاشمي بلوزة – الدار التونسية للنشر 1992
-
تاريخ الأدب التونسي الحديث – مجموعة من الباحثين – المجمع التونسي للعلوم والآداب و الفنون 1993
-
الشعر التونسي المعاصر – محمد صالح الجابري – الشركة التونسية للتوزيع 1974
-
في الأدب التونسي المعاصر – أبو زيان السعدي – مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله 1974
-
مع الواقعية – الطاهر الهمامي– دار النشر للمغرب العربي 1984
……………………………………………………………………..
اِستراحة المحاربين...
بعد حركة التحول السياسي سنة 1987 دخلت البلاد في عهد جديد أعاد لها أبعادها الحضارية العربية التي كادت تتلاشى وانطلقت الحركة الثقافية في نشاط حثيث من خلال الندوات والمهرجانات التي شارك فيها أغلب الشعراء و الأدباء على توالي أجيالهم وتنوع ألوانهم مما أذاب بينهم ماسبق من الخلافات التي دارت زمنا رحاها فركدت الصراعات الفكرية والأدبية و كأن الجميع قد اِقتنعوا بضرورة التعايش مع الآخر المختلف و توصلوا إلى شبه نتيجة تتمثل في أن الشعر الجيّد والبديع يمكن أن يكون في جميع الأشكال والعبرة بالإتقان والإبداع و أن الغاية ليست في المبني سواء كان تقليديا أوتجديديا وإنما النص الشعري الجيد ما حسن من جميع أبعاده وعبرعن مهجة صاحبه فكم هي نصوص قديمة و لكنها تظل جديدة عند القراءة والتمحيص وكم من نصوص تتدعي التجديد والحداثة وهي هياكل جوفاء
لذلك ربما كتب بعض شعراء قصائد النثر في السنوات الأخيرة قصائد خليلية وكتب من جهة أخرى بعض الشعراء العموديين قصائد النثر
تلك لعمري ثنائية التجديد والتقليد عبركل العصور…
و باِنفتاح مجال النشر وتشجيعه صدرت مجموعات شعرية عديدة حتى اُستُسهلت عملية النشر إلى حد ظهور كتابات غير سليمة من الناحية اللغوية ولكن رغم الكم الهائل من الدواوين الشعرية الصادرة في سنوات التسعينات من القرن العشرين فإن البعض منها فقط يحمل بصمات الإبداع ولكن مبادرة البحث والمغامرة و التجديد لا يمكن أن تقارن فيها بالحركات السابقة تلك التي حتى و لئن لم تُخلّف نصوصا كبيرة فإنها قد أنجزت مشروعية التجديد و مخالفة السائد التقليدي وخرق العادي المنتشر.
يجدر بنا في هذا السياق أن نشير إلى تجربة الشاعر سالم اللبان الذي نشر في مطلع القرن الواحد والعشرين مجموعة شعرية بعنوان ـ نجمة الفجر ـ على نمط قصيد الهايكاي الياباني الذي يقوم على الإيجاز والبساطة والمباغة في الخاتمة وهو شكل كتب فيه بعض الشعراء العرب المحدثين ومن بينهم الشعراء التونسيون من سنوات الستينات على الأقل غير أن الشاعر سالم اللبان
قد كتب نصوصه ـ الهيكات ـ ضمن سياق رسالات يومية إلى أصدقائه عبر شبكة الأنترنيت بحيث يمكن اِعتبارها إلى حد ما يوميات شعرية أو مساجلات بعث بها عبر الأنترنيت إلى أصدقائه في مختلف أرجاء المواقع و البلدان.
قصائد هذا الديوان أغلبها يرد كالانسياب يلامس الوجدان أو كالهمس في الضجيج جاعلا من النسق اليومي و الروتيني موضوعا يمكن التوغل في أبعاده مثل حركة أو عادة تناول القهوة تلك التي يراها من خلال لوحات و مشاهد تُحيله على ذكريات حميمة :
لشمسي طعم القهوة
يعطّذرها
ماء زهر النارنج
و كذلك قوله في هيكة أخرى :
يا رائحة القهوة
اِغسلي أهدابنا
بزرقة الفجر الرمادية
و ثمة في قصائد سالم اللبان اِحتفاء متخفّ بالشذى يلوح في هيكاته الأخرى مثل قوله :
على جسر صغير
أنحاء الكون الأربعة
تتعطر بالكلمات
و كذلك في قوله :
خالتي نجمة
عطر آخر من أمي
يتحدى الموت
ففي مثل هذه القصائد القصيرة تقوم الأسس الإبداعية على البساطة منطلقا ومن التكثيف أسلوبا و تستند على الومض و اللمح مرة و على المباغتة و الدهشة أحيانا وذلك تفاعلا مع مناخات ذاتية و طقوس شخصية تعتمد في كثير منها على الذاكرة و كذلك على ذائقة و إدراك القارئ أو السامع بنسبة كبيرة مثل قوله في هذه الهيكة التي سماها سمكة أفريل :
كذبة أفريل
تطبخ منذ مايو
على نار هادئة
فهي تختلف من حيث المرجع الحضاري عن هذه الهيكلة التي يتجذر مدلولها في عمق الوجدان الشعبي :
قطعة خبز و جرعة ماء
و حبات زيتون
و أنوف في السماء
فسالم اللبان يعبر عن إرادة واضحة للوصول إلى فضاءلت الحوار الثقافي عبر المنابر و الشرفات الجديدة في النشر و الاتصال و هو ينطلق من قيم الإخاء و الصداقة و المحبة تلك التي تجمع بني آدم رغم الحدود و الحضارات حتى تذوب من أجلها كل الترسخنات المضادة.
لقد كان هذا الكتاب في الأصل منشورا على مواقع الأنترنيت و ها هو يصبح مقروءا على الورق…حسنا !
إن الملاحظة الأساسية في الأصوات الشعرية التونسية بصفة عامة أنها ذات أسماء عديدة تمكنت من إغناء رصيدها بالإنتاج الإبداعي المتواصل مع دأبها على تطويره على مدى توالي السنوات و قد رافقتها أيضا حركة نقدية تحاذيها وترصدها وتمكنت من الاِنتشار والتفاعل في داخل تونس وخارجها بحيث أنها أعادت صلة الشعر التونسي بمحيطه العربي بل والعالمي بعد شبه قطيعة اِستمرت طويلا بسبب عامل الاِستعمار أولا وبسبب سيطرة مفاهيم التقوقع ورفض الآخر المختلف من ناحية أخرى ثم بسبب سيطرة الشعارات الإديولوجية على الحركات الثقافية بعد ذلك على أغلب الأقطار العربية مما جعل الأدب يُنظر إليه من زوايا محدودة زادت من تكريس العزلة الثقافية في أغلب البلدان العربية وتضخيم بعض الأصوات أو الحركات على بعض في سياق التنافس بين هذا الطرف أو ذاك.
لذلك فقد آن الأوان لدراسة كل شاعر على حدة لأن أغلب الشعراء البارزين في السنوات الأخيرة بتونس قد مروا بعدة أنواع من المراحل فوضعهم ضمن إطار ثابت لا ينطبق على مسيرتهم مما يجعل الخطاب الشعري التونسي مزهرا في عدة أغصان مختلفة حتى بالنسبة للشاعر الواحد .
……………………………………………………………………..
في المرايا…
واكبت الحركات الشعرية جملة من الكتابات الأدبّية والفكرية تدعو عامة إلى كتابة أدب جديد ينطلق من واقع العصر الجديد من ناحية ومعبرا عن طموحات الأجيال المتوالية في تونس عن توقها إلى إنجاز نصوص إبداعية ترقى إلى الإبداع بما فيه من معاناة و قيم وجمال…
ـ 1 ـ محمد الحليوي
يمكن أن نعتبر الأديب محمد الحيوي ـ وهو من جيل الشابي ـ أحد الذين حدّدوا باكرا أهم خصائص الشعر الجديد ـ وذلك في فصل له بعنوان (سمات الشعر المعاصر ) ضمن كتابه (مباحث ودراسات أدبية) حيث يعدد خصائص الشعر المعاصر اِنطلاقا من بعض القصائد لشعراء تونسيين ومشارقه ويبدأ بالمضمون أو المحتوي فيشترط أن يكون منطلقا من تجربة شعرية يعيشها الشاعر ويؤديها تأدية حية صادقة قوية ثم يشترط شرطا ثانيا في الشعر المعاصر و هو أن تكون مادة التجربة متنوعة من الشعور والعاطفة أي انفعالات النفس المختلفة أو من الفكر فإذا كانت العاطفة فيه فاترة والانفعال ضعيفا فان هذا العمل الأدبي يكون خاويا .
ويري الأديب محمد الحليوي أن من خصائص الشكل في الشعر العربي المعاصر أن تكون القصيدة ذات وحدة عضوية بحيث تكون التجربة الشعرية مترابطة الألفاظ والصور والتنغيم ،معبرة عما في القصيدة من اِنفعالات وعواطف وأفكار بصورة يتجلى فيها التو زن والانسجام بين الأجزاء –وهذا مالم يتوفر في الشعر القديم .
ويرى أن فقدان الوحدة العضوية من أظهر العيوب فيه كما أن التفاوت بين أبيات القصيدة جودة ورداءة ، أو قوة وضعفا من أهم ما يؤخذ عليه
ويؤكد الحليوي على هذه المسألة في فصل آخر من الكتاب تحت عنوان (مميزات الشعر المعاصر) عندما يقول إن الشاعر العربي القديم كان ينظم قصيدة وكل بيت فيه يكون معني تاما مستقلا بنفسه .
ويتعرض الحليوي كذلك ـ ضمن سمات الشعر المعاصر ـ إلى مسألة الألفاظ التي أصبحت في القصيدة الجديدة عنوان البراعة والتفوق ذلك أن الشاعر الحد يث لم يعد يرضى بأي لفظ يأتيه بل صار يختار اللفظة الملائمة وفصل الحليوي تفصيلا هذه التقنية الشعرية الدقيقة.
وبعد مقولته في المضمون ورأيه في الشكل وتفصيله في اللّفظ يبدي محمد الحليوي نظرته في مسألة الصّورة فيعتبرها هي أيضا من سمات الشّعر المعاصر لأنّها ذات أهمية بالغة في الشّعر الحديث بل هي عنصر من عناصر تكوينه لا وسيلة من وسائل الأداء فحسب، وهي التي يتفاضل بها الشعراء ويمتازون فإذا كانت لدى القدامى تسمّى بالاستعارة على اختلاف أنواعها من تمثيلية وغيرها إلى مجاز وتشبيه وغيرهما، فإنّها – أي الصّورة الشعريّة، عند الرّومانسيين تنطلق لتحلّق بعيدا في سماء أخيلتهم المجنّحة، أمّا الشّعراء المعاصرين فقد أصبحوا ينزعون إلى الصّورة الدّقيقة التي تظلّ متّصلة بالحقيقة والواقع سواء صوّرت موقفا من المواقف أو حالة نفسية أو فكرة من الفكر ويرى الحليوي أنّ الصّورة الواقعية كثيرة التواتر في الشعر العربي القديم الذي ينزع فيه الشّاعر إلى الدّقة غير أنّه يرى التصوير المادّي في الشّعر ليس بشيء ويميز بين رؤية العين التي هي تمتزج فيها الحقيقة المادية بالإحساس الوجداني.
فالقصيدة لدى الحليوي هي الصّورة.
مسألة أخرى على غاية من الأهمية في الشعّر عامة ألا وهي مسألة الموسيقى وقد تناولها باِعتبارها في الشّعر الحديث لا يراد بها موسيقى الأوزان العربيّة ولا موسيقى القافية فقد أصبحت تلك الموسيقى التقليدية مدعاة للملل والرّتابة.
إذ يرى محمد الحليوي أنّها تقتضي من قارئ الشعر أو سامعه جهدا عقليا كبيرا و هي من ناحية أخرى تعيق الشاعر الذي نظم القصيدة عن الاحتفاظ بحرارة عاطفته وتدفّق شعوره وتضطره للتوقف والتريّث بحثا عن القافية المناسبة وتحبسه في قيد البحر الواحد، بل إنّ تلك البحور والأوزان ربّما كانت أضيق من أن تستوعب مشاعر الفنان المرهفة الدّقيقة أو فيض إلهامه المتدفق وكثيرا ما أجبرت الأوزان والقوافي متعاطيها إلى حشو أبياته بما لم يكن يريد ولا هو من قصده لكي يصل بالبيت إلى نهايته المحتومة
أما قضية الموسيقى الدّاخلية فإن الحليوي يعتبرها تلك التي تكون أشبه بالتوافق والانسجام في أجزاء أيّة سيمفونية فالقصيدة يجب أن تساير اِنفعالات الشّاعر وأحواله العاطفة والنفسية صعودا ونزولا وقوة وخفوتا خلافا لموسيقى الشّعر التقليدي المعتمدة على الرّنين والتّرنيم .
ـ 2 ـ توفيق بكار
كتب الأستاذ توفيق بكّار مقدمة لديوان صالح القرمادي ـ اللحمة الحية ـ ظلّت مدة طويلة مرجعا للشعراء المجدّدين باِعتبار أن الأستاذ توفيق بكار صاحب مكانة مرموقة في تدريس النّقد والأدب الحديث بكلية الآداب بتونس
منذ الستينات من القرن العشرين، يقول عند آخر المقدمة:
هو شعر عصريّ
والشعر العصريّ ميزانه تفعيلة الحياة لا تفعيلة الخليل : رفع فخفض وانطلاقة فنكوص واستتباب فانقلاب واأرض مطمئنة فزلزال وجفاف فطوفان وسلام عليهم وقنابل على العرب وفيتنام وتخمة ومجاعة وناس تمشي عراة آخرون يتقلبون مع الموضات و واحد يصنع طائرة واﻵخر” يملّس كانون” وأبولوا” والسّرطان ساق علي القمر وساق في القبر وجسم ناشط فشكل وعرق نابض فسكته قلبية.
توقيع العصر مكسور مبتور بلا اِنتظام بلا اِنسجام لا ومستفعلن ولا فعولن ويعدّ فاصل الشّعر عند العرب الحداء والحداء قدّ على وتيرة الإبل في سيرها أفيركب الشّاعر منّا اليوم السيارة والقطار والطّائرة ويزن الشّعر بخطو الجمال؟
هو شعر عصريّ
والشعر العصري موسيقاه قعقعة الدواليب في المعامل وأزيز محرّكات السيارات في الشّوارع وفوار الباخرة تدخل الميناء ودويّ الطائرة تحلّق في السّماء و زعقة المغنّي في “الترانزيستور“.
وصوت المؤذن في بوق المآذن ودقة المهراس فوق رأق المصّفقين وأنة الجائعين” وتمرطيق” الطّامعين ودقّات القلب وسكوت الضّمير.
موسيقي حسّية هرمونيا ولا سيمفونيا لا سيكة ولا حركة، نشاز في نشاز بلا قافية ولا ترجيع .
لقد فات عهد ” ياللنّي“
ـ 3 ـ حمادي صمود
الدكتور حمّادي صمّود دارس للتراث النّقدي العربي قديمه وحديثه ومواكب للحركة الأدبية العربيّة المعاصرة، قد كتب مقدّمة الديوان الأول للشّاعر محمد أحمد القابسي نورد منها هذه الفقرات :
الشعر مذهب في مباشرة اللغة وعلى هذا الأساس قامت كثير من حركات الشعر في العصر الحديث في بلدان كثيرة من بلدان العالم ولهذا السبب كنا نتتبع بكل إعجاب حركة الشعر الحديث في بلادنا وفي بلدان عربية أخرى ،فهذه فهمت أكثر من سابقها – وتلك سنة الله في عباده –هذه الحقيقة ،اكتشفت للغة أبعادا جديدة عمّقوها بالحفر في جسدها – على حد تعبير اْحمد القابسي ( بعض علاقاتها المتشعبة الدقيقة ) فأعانتهم في زحمة العصر على فتح مغلقاتها وفك رموزها واكتشفوا أنها ليست بسيطة ولا بريئة كما قد ذهب الظن بنا زمنا طويلا .
فمباشرة الإنسان اللغة للغة مباشرة لتصوراته ومعتقداته وخوالج روحه وممارسة لوجوده وتاريخه
فلا بدّ أن يعكس مجموع العلاقات التي يقيمها بين وحداتها شيئا من التطلعات.
من هذا المتصّور تبدو لنا حركة الشعر الحديث مفيدة ثريّة و على ضوئه نفهم مواقفهم من “الشعر القديم” وهي قضية أثير حولها كثير من الضجيج حاد أن بها عن أصلها.
إنّها حركة تريد أن ترى العالم لا برؤية الأسلاف لذلك خرجت – أو أردت وما استطاعت أحيانا أن تخرج عن “أسلوب” السلفي قول الشّعر فلم نعد في حاجة لنقول الشّعر إلي الرّواية والإملاء حتى إذا قالت نطقت على نهج القدامى فشبهت كما شبهوا واستعارت ما استعاروا وأباحت لنفسها ما أباحوا وحظرت عليها ما حظروا .
هكذا نفهم ثورة الشباب من الشعراء على القديم وتوقهم إلي فك الحصار التراثي إنّ صح التعبير ليس ذالك كفرا بالتراثّ وتجنيا عليه لا ولا تقليدا ليعض نزعات الشّعر في دول أخرى ألبست لباس السلاطين.
إنّه الإنسان يرفض الوصاية ويدين بدين العصر صهرته ظروف حياته وفيض الثقافة التي ثقفها صهرا فتفاعلت الأشياء في ذاته تفاعلا جديدا أنتج أنسانا جديدا نتيجة التحّولات الكبرى المتسارعة التي أصبح يعيشها .
هذا في نظرنا بيت القصيد في الشعر الجديد إلاّ أنه – والحق يقال –كثيرا ما طرحت قضية علاقته بالقيم طرحا خاطئا طمس معالم ثرائها وكان المتسبب في ذالك غالبا روّاد الشعر الجديد خلقا وتنظيرا .
إنّ القضية ليست التزام عهود الشعر أو الخروج عنه والترنم على إيقاع الشعر العربي أو رفضه ذالك أن الشعراء لمّا يستطيعوا الاهتداء إلي ضرب آخر من الإيقاع لسبب بسيط –في نظرنا – يتمثل في أن
العناصر الإيقاعية التي توفّرها اللغة – أي لغة –محدودة ومحدودة جدا.
ـ 4 ـ أبوزيان السّعدي
-
في كتاب الأستاذ أبي زيان السّعدي الصّادر سنة 1974 بعنوان (في الأدب التونسي المعاصر) فصل حول (القصيدة النّثرية ) وقد بيّن الّناقد نشأتها وتطوّرها في الأدب العربي عامة وفي الأدب التونسي خاصّة بداية من جيل الشابي إلي تجربة جماعة غير العمودي والحرّ وهذا الفصل يمكن اعتباره من الدّراسات الأولى التي نظرت إلى قصيد النثر نظرة نقدية بوضعه في سياقه الأدبي التاريخي العام ثم باِستجلاء خصائصه في المبنى والمعنى وبالوقوف عند أهمّ الجماليات لديه ومسجّلا عليه أيضا البعض من الانحرافات الفنية والفكرية .
إنّ موقف الأستاذ أبي زيان يعتبر حقا موقف الاِعتدال في تلك السنوات التي شهدت جدالا واسعا حول شرعية قصيد النثر الذي اعتبره البعض مروقا وتهديما للأدب العربي ، غير أن البعض الأخر فقد جنح في التجريب وفي التنظير إلي حدود الدعوة إلى الكتابة باللّهجة العامة التونسية تعويضا بها عن العربية الفصحى .
ممّا ورد في هذا المقال نقرأ هذه الفقرات:
لا يتم الحديث عن الشعر التونسي، وعن أهم تيارات الفنية، إلاّ بالوقوف لحظات، عند ظاهرة، القصيدة النثرية أو الشعر المنثور آو النثر الشعر، التي لم يتوقف الجدل عن شرعيتها.
وعن طبيعة تكونها، منذ أن وجدت في الأدب العربي الحديث وبخاصة منذ أن ظهر هذا اللون الجديد منها بيننا، والذي يدعوه البعض باسم “في غير العمودي الحرّ“. والحق أن – قصيدة النثّر ليست جديدة في حياتنا الأدبية
وليست من ابتكارا فراد بأعينهم ، ولا هي من وحي الخيال المجدّد كما يزعم بعض الأدعياء من الشباب وإنما هي ظاهرة بعيدة ، في الحياة الأدبية العربية برزت واضحة ، متكاملة ، في المهجر الأمريكي. أثناء محاولات جبران والريحاني وغيرهما ، لتجديد قيم للأدب العربي وبعث روح جديدة فيه ، نحرره من أغلال الجمود والتقليد ، الذي خضع لها زمنا طويلا ،أثناء عصور التقهقر والضعف ولا شك أنهم كانوا متأثرين في ذالك بما كانوا يجدون من ألوان مماثلة ،في الآداب الغربية التي تكونوا فيها ، وتشربت قرائحهم طبائع أساليبها ، وطرق مناهجها في الشعّر والنثّر، ولا أكاد أشك من وجه آخر أنهم مطلعين اطلاعا متفاوتا ، على ما حفل به أدبنا العربي القديم ، من نماذج قوية تراعى هذا النهج في الكتابة ، والذي يتميز عن الشعر بمخالفة الأوزان والقوافي، ويتميز عن النثر العادي، بهذه الصور المحببة، والخيال البديع ، وهذا الإيقاع الموسيقي الخاص ، كما نجد ذلك عند أبي العلاء المعري في – الفصول والغابات –وعند أبي حيان التوحيدي في الإشارة الإلهية –وسواهما من كبار المترسلين ، ونوابغ الكتاب والشعراء .
ثم أخذت الظاهرة في التوسيع والاندياح، مشرقا ومغربا ، فتبرز مي زيادة بقصائدها الدافئة، ذات الأحاسيس المرهفة المشبوبة .
ويبرز عدد كبير من جماعة –اْبولو– يجربون هذا اللون، ويمارسون فيه أسلوب التجديد، الذي اْخذوا به أنفسهم، منذ أن تأسست رابطتهم” وقد هدفوا إلي تحرير الشعر من الطابع الغنائي، لينطلق في مجالات أخري لم يألفها الشعر العربي القديم ، وقد أعانهم هذا التحرير على كتابة كثير من القصائد القصصية” وتوسعت فيه الأجيال التالية توسعا عجيبا حقا ، حتى لقد جمعوا فيه الدواوين والمجامع ،وتحرص بعض
المجلات العربية –في بعض الفترات –كمجلة الأديب البيروتية على تخصيص عدد وافر من صفحاتها
لهذا اللون من الأدب والشعر، ولم يتخلف الشعر التونسي، عن مواكبة هذه الحركة، ولم يتوان عن أن يسابق ما اِستجد فيها من ألوان ،فمنذ البواكير الأولى للثلاثينات من هذا القرن ، يبرز أبو القاسم الشابي ،
مجربا لهذا اللون ، وممارسا له ، في أكثر من قطعة واحدة
وقد اِمتازت بإشرافة، ومتانة التراكيب، وتدفقها بأحاسيس النفس الفياضة وما توشحت
به من أردية الأحزان ، واِنقباض الآمال، وسط عالم يمتلئ شرورا وآثاما ، نفس النغمات الشجية ،التي كثيرا ما طالعناها في قصائد الشابي المنظومة
5ـ محمد مصمولي.
قدّم محمد مصمولي كتابه ـ رافض والعشق معي ـ قائلا :
العشق – بصفة الجمع– للحرّية ، للأرض، للإنسان؟، للثورة ، للفنّ وقد أنعتق من كلّ القيود والأقنعة والزّيف !
يا وجهها !
هذا الكتاب أردته – بانوراما – ومجموعة نوافذ مفتوحة على الرّفض والعشق معا …
تفجيرا للنمط المعتاد بأشكال مختلفة من الكتابة المتفجّرة
تكسيرا للسّياج
مزيجا من شعر لا يخضع للوزن، ومن قصّة تبدأ ولا تنتهي، ومن لوحة ترسم بالقلم لا بالرّيشة، ومن نقد يرفض المدارس، ومن كتابات مضادّة تجمع كافة الأشكال السابقة دون أن تأنس إلي إطار من الأطر الجاهزة …
ـ6 ـ محمد صالح بن عمر
وهو من أهم المتخصصين في نقد الأدب التونسي الحديث ويعتبر أحد أهم الكتّاب في النقد الحديث منذ ظهور الطليعة في تونس حيث واكبها في جميع مراحلها وقد قدم كتاب ـ فضاء ـ لمحمود التونسي الصادر سنة 1973 قائلا خاصة : لقد صار لزاما على الكاتب في هذا العصر أن يكون ملما ولو إجمالا بشتى أصناف العلوم الإنسانية منها والصّحيحة حتي يكون تعبيره عن الواقع تعبيرا خاليا من آثار الخرافية البالية والمعتقدات السّخيفة .
كما صار لزاما عليه أن يكون منفتحا علي شتى أصناف الصيغ التعبيرية في الفن للاستفادة منه وتطوير تعبيره المكتوب علي أساس الاِحتكاك بها ومعايشتها معايشة يومّية حتى تنعكس في ذالك التعبير هياكل المجتمع المتفاعلة مع تيارات العصر ولكي يجد فيه القارئ المثقف نفسه الطموحة إلي المعاصرة في كل المجالات المتصلة بحياته كفرد وحياة المجموعة التي ينتمي إليها.
كل هذه المتطلبات الفّنية الدقيقة تجعل الآداب يتقهقر بخرافية مفاهيمه العتيقة فيعجز عن الاستجابة لمعطيات الحياة الجديدة ويذوي فاسحاً المجال ” الكتابة” الحديثة أو الصّيغة الكتابية الموحّدة التي تنصهر ضمنها كلّ الأنماط التعبيرية المتنوّعة والتي من الصّعب جدّا أن نطلق عليها اِسما من الأسماء و
ونميزها بهالة من الهالات لأنّها تعبير مطلق بواسطة كلّ الأدوات الممكنة عن الواقع الذي يعيش فيه الكاتب…..
فالقواعد الفنّية تولد مع كلّ نص وتموت أثناء الانتهاء من كتابته فتكون قد أدّت وظيفتها إلي الأبد .
وهو شرط أساسي لكل” كتابة” تريد أن تتجاوز حدود” الأدب” الضيقة ففي” الأدب” قواعد تتبع ونماذج تحتذى
ومنوال يسير عليه الفنان .
أما الكتابة فإنّها تقوم علي الاِبتكار المنطلق من مادة اللغة ذاتها والخالق لعوالم فنية منسقة بواسطة كل الأدوات والأشكال التعبيرية الممكنة.
……………………………………………………………………..
عن الشعر …بالشعر
منذ أبي القاسم الشابي الذي كتب عن الشّعر و الشاعر في قصائده العمودية والنّثرية إلى شعراء الهزيع الأخير من القرن العشرين ، ظل التعبير والتنظير للشّعر بالشّعر يتردّد في تلافيف الكثير من القصائد ذات المنزع التجديدي .
●الشاعر الطّاهر الهمامي في قصيد (مقولة سيّدي القاموس) يستعرض فيه بعض المقولات التقليدية في النّقد واللغة والشّعر وهو عرض فيه لمسة السخرية والتهكّم من الموقف المحافظ على اللغة وعلى القيم والمفاهيم القديمة التي تحول دون التّطور والتجديد :
يقول سيّدي القاموس
وكان رحمه الله
يهوى التثاؤب والجلوس:
النقد من نقد العصفور البيضة
والمصدر نقدا
ومنه النّقود
واللّفظ جسم روحه المعنى
والأدب مأساة أو لا يكون
والشّعر كلام موزون مقفى
ماء سلسبيل
وعسل مصفّى
والشعراء يتبعهم الغاؤون
وأعذب الشّعر أعذبه
والعربية أفصح اللغات
● إلى أن يقول عند آخر هذا القصيد :
يقول سيّدي القاموس
وكان حفظه الله
يحفظ ودائع السّوس
● والشاعر الطاهر الهمامي كثير الكتابة بالشّعر عن مواقفه من اللغة ومن المفاهيم الشّعرية القديمة وحتى بعض المفاهيم المعاصرة من ذلك قوله في هذا المقطع من قصيدة له ورد أيضا في ديوانه الأول (الحصار) .
باعة الكلام الأبيض
مازالت قلوبهم تنبض
ومازالوا يعيشون
وقد حسبناهم غابوا
وتابوا
باعة الكلام الأبيض
مازالوا في المعرض
وسلعهم تعرض
باعة الألفاظ
مازالوا
ومازالت عكاظ
● فالطاهر الهمامي أحد الأصوات في الحركة الجديدة التي تدعو إلى القطيعة مع الأساليب القديمة في الشّعر على مستوى القاموس اللغوي فالشّعر عنده وعي باللغة المعاصرة والتزام بقضايا الحياة وليس مجرّد عرض كلام في غرض المدح والوصف والغزل.
● وفي ديوان (كتاب العناصر) ثمّة قصيد للشّاعر محمد أحمد القابسي بعنوان (الشاعر) يبيّن من خلاله المفهوم الجديد للشّاعر إذ هو رمز للأنوار وللحياة وللحريّة وللبهجة والذي لا يستقرّ إلا على الحيرة والسؤال:
من يقطف الشّمس في أوانها
ويفتح الأبواب الموصدة
إلى مملكة الأشجار
من يعبر صامتا
نحو الماء
والعشب
يبحث عن بيت للسّوس
بين الدّيار
من يسكن نار السّؤال
غير السؤال إنّه الشّاعر
ملك البهجة والأسرار
● وفي هذا القصيد دعوة لازمت دعاة الشعر الجديد ألا وهي القول بضرورة الحيرة والتّساؤل حتى لا تصاب العملية الإبداعية بالجمود الذي قد يكبل انطلاقها من جديد ،
إنّ الشّاعر محمد أحمد القابسي كان يمثل أحد الذين خرجوا بشعرهم عن الصّف التقليدي من ناحية وعن الأفكار الجاهزة في التحديث من ناحية أخرى فالقصيدة دعوة إلى البحث المستمرّ لأن الحقيقة غاية كلّ سؤال ولا يوجد جواب نهائيّ في الإبداع لذلك نرى الشّاعر ينهي هذا الديوان قائلا:
لا أكتب القصيدة الآن
ولكنني أقطف مباهج اللغة العتيقة
وأعلن أنك برزخ الكلمات
وأنّك سرب الحمام يعبر
وفي دمي تركضين مهرة طليقة
مثقل بالصّهيل والغيوم جسدي
أمشي على جسدي إليك
فكوني مطر الحقيقة
● أمّا عن الحالة الشّعرية التي تستبد بالشّاعر فإنّ نور الدين عزيزه ينقل لنا تجربة التوهّج بالمناخ الشّعري الحميمي الذي يتلبس كيانه جميعا حتى يغدو القصيد حالة من الأرق والعرق تلازمه ملازمة الجلد للجسد ممّا يسبّب له الضيق لأنّها متمسّكة بتلابيبه إنّه القائل:
تمر ّبي العبارة
تتعلّقني، تسكنني كالعرق
تمدّ عنقها، أمدّ عنقي
أطلقها رصاصة .
● وإذا كانت العبارة هي بمثابة الرّصاصة لدى الشّاعر نور الدّين عزيزة فإن الشّاعر محمد رضا الكافي يرى أنّ العبارة غير قادرة على الإحاطة بما يحسّه الشّاعر، يقول محمد رضا الكافي في مقطع بعنوان (عبارة) .
أنت لا تختزل البحر في عبارة
لأنّ البحر ليس ألف باء جيم
البحر كليّة لا منتهية
مفارقة وجودك
لا تمسك منه غير ذاتك
ولا تدرك فيه إلاّ ما ليس هو
● ويقول هذا الشّاعر في مقطع آخر في نفس هذا السّياق من تجربة المخاض الشّعري:
بين القصيد
والسفرجلة
أسباب
انتحار
بنفسجي
● وفي مقطع أخر يقول في معنى البراءة والاكتشاف عند معاناة القصيد للوهلة الأولى من دهشة الإبداع:
أنت
إن لم تر العالم
بعين طفل
لم تدرك
و يري محمد رضا الكافي أنّ الشّاعر هو الذي لا يكتب الشّعر:
لا اكتب الشّعر
فقط أتوجّس همس الأشياء البسيطة
صوت الكائن
القصيدة
الشّعر صدى صوت الإنسان
في المدى
وفي الحجارة
● إنّ الشّاعر محمد رضا الكافي عندما يكتب عن الشّعر بالشّعر فإنّما يطرح المسائل الإبداعية بعمق حتى يصل إلى نفي الشّعر عند ذروة الإحساس بالشّعر لأنّه اللاّمحدود ولا يمكن أن يدرك بالمحدود.
هذه التنظيرات المتنوعة التي أحاطت بعمليّة الشّعر من حيث القائل والمقول معا صدرت من معظم شعراء قصيد النّثر كأنّهم بذلك يشرحون تجربتهم للآخرين فهي كالبيانات العامة غير أنّ الشعراء الذين جاؤوا بعد أولئك كتبوا هم أيضا في هذا الغرض لكنّهم نظروا إلى عملية الكتابة الشعّرية بأكثر تفاصيل فغرضهم ليس غرض الشرح والإقناع والتدليل بل صار غرضهم يطمح إلى بيان ما في الكتابة من أبعاد جماليّة وتجربة شخصية كما ورد في ديوان (كتاب الأيّام) للشاعر حسين القهواجي قائلا في قصيدة (الرّيشة الخضراء)
قالت ريشة الحبرة
حجر هي العبارة
ولساني المطر
أيا ناسخ المنشور عتقا
ما كنت إلاّ في طوق قبّرة
وجفّت ريّشة المحبرة.
● وللشاعر حسين القهواجي نصّ آخر في هذا الدّيوان يستعمل فيه اللغة من خلال حرف الألف كصورة شعّرية كثيفة المعاني ومتعددّة الدّلالات وقد جعل له عنوان (الألف):
من ورقة التّين
أنشأت فسيح الجنان
ملكا على العرش اِستويت
وكان الألف صولجاني
● وإذا كانت العبارة لدى نور الدّين عزيزة تمثّل الرصاصة وهي لا تحيط بالوجدان الشّعري لدى محمد رضا الكافي فإنّ العبارة عند حسين القهواجي تمثل قمّة الحلول الصّوفي حيث يتوحّد من خلال اللغة بالكون جميعا قائلا:
إذا اشتدت بي المواجيد وهزّني الشّطح طربا
أعرج إلى منارة
أنقّط بالنّجم نون الهلال
ومن السديم أجتني سحر العبارة
● وأمّا الشّعر كما يتمثّل لدى الشّاعرة رجاء بن حليمة فإنّه يتجلّى في التضمين من سورة القلم محيلة بذلك على الذّاكرة بما فيها من تقديس لعملية الوحي والتنزيل والقصيد ورد في ديوانها (مزامير الحلم والرّحيل) تحت عنوان (نون والقلم).
اُكتب
اُكتب
اِنحت روحك
سرّك الأول
بياض الورقات
اِجلد ظهر الحرف
فجّر رحم اللغة
بلا جنس تولد الكلمات …
“نون والقلم وما يسطرون”
قبل أن يكون الطّين
صلصالا من حمإ مسنون
كان القلم
وكان الحبر …
فتعود هكذا رجاء بن حليمة إلى العهود الأولى من قصة الخلق والإبداع تلك العهود التي اِختلط فيها الشّعر بكلام الكهّان والسحّرة والعرّافين وهي عندما تضمّن أية من سورة القلم فإنما لتجذّر تجربتها ضمن التّراث المقدّس من جهة أخرى.
وتعمد الشّاعرة آمال موسى إلى خرافة (الفينيق) عندما تتمثل في طائر الرّماد الذي كلّما اِحترق وصار رمادا كلّما اِنبعث من جديد ملتهبا فالشّعر لدى آمال موسى هو محو مستمرّ للقراءة والكتابة فبضدّها تتمايز الأشياء أي أنّ عملية الإبداع تتطلب هضم السّابق واِستيعابه ثم تتجاوزه فالشعر من هذه النّاحية معاناة ومكابدة إنّه قمّة الفناء التي يليها بعد ذلك الإبداع، تقول الشّاعرة في ديوانها الأول (أنثي الماء) من قصيدة (حرق الشعّراء) – وهو آخر ديوان في مدوّنة قصيد النّثر في القرن العشرين بتونس :
حين عبرت أحد أبياته
أحرق كل القصائد
أحرق لغته
أحرق الشّعراء
أحرق نساء الكون
احترق
فكتب القصيدة الأولى
المصادر
-1 الحصار – الدار التونسية للنشر – 1972
-2 كتاب العناصر – محمد أحمد القابسي – ديسمبر 1986
-3 ديوان الشّعر التونسي الحديث – محمد صالح الجابري – الشركة التونسية للتوزيع – 1976 – ص 334
-4 مرايا مهشّمة – محمد رضا الكافي – دار السنبلة – 1987 – ص 21
-5 كتاب الأيّام – حسين القهواجي – المطبعة العربية 1993 – ص 11
-6 مزامير العلم والرّحيل – رجاء بن حليمة – دار ابن خلدون – 1997 –ص
141
-7 أنثي الماء – أمال موسى – سيراس -1997 ص 40.
…………………………………………………………………….
.
اِنعتاق وأشواق
إنّ مدونة الشعّر التونسي الجديد أضحت زاخرة بالأقلام النسائية حتى لكأنها تمثل أحد خصائصه و هي مسألة يمكن أن تفسر بمقاربات ثقافية واِجتماعية ذلك أن المرأة قد اكتسحت جميع المجالات خاصة منذ النصف الثاني من القرن العشرين وهي التي وجدت في الشعر منذ القديم شكلا مناسبا للتعبير فاِنبرت مع سنوات الاِستقلال وقد تحررت من القيود و دخلت المدارس و الجامعات معبرة عن اِنعتاقها وأشواقها بطلاقة وقد صادفت من ناحية أخرى الشعر هو كذالك قد تحرر وتخلص إلى حد كبير من قيوده فطفقت منطلقة العنان واللسان معبرة عن الوجدان بما يكمن فيه من سمات و بصمات كيف لا و المرأة التونسية ظلّت عبر أغلب العصور مصدرا للشعور بالكرامة و الاعتزاز بل والاِستقلالية بما لها من مبادرة ومهارة هي التي وصلت أحيانا إلى قيادة البلاد كما كان الشأن في عهد علّيسة الفينيقية والكاهنة البربريّة و الأميرة الحاضنة الصنهاجية والجازية الهلالية وغيرهنّ من النساء اللواتي كان لهن الشأن و السيادة الاجتماعية في عصورهن بل وإلى عصرنا هذا كالسيدة المنوبية وعزيزة عثمانة.
فليس عجبا إذن أن تكتسب المرأة بسرعة عجيبة مكانتها المهمّة في المجتمع الحديث بعد الاِستقلال وما كان ذلك أن يتوفر لها لولا مخزونها التراثي الكبير ـ مثل الصداق القبرواني الذي يشترط على الزوج الاِكتفاء بزوجة واحدة ـ فساعد كل ذلك على فرض وجودها في النصف الثاني من القرن العشرين بفضل التشريعات الجديدة التي ثبتت في تونس على مدى السنين حيث فتحت أمامها أبواب التعليم و الإدارة و ـ الأعمال الحرة ـ ودور الثقافة ومجالات الابتكار والإبداع ومن بينها الشّعر الذي سرعان ما اِنخرطت في حركته التجديدية.
من بين الأصوات العديدة التي جاءت بعد حركة الطليعة و ـ غير العمودي والحر ـ الشاعرة زهرة العبيدي في مجموعتها الشّعرية الأولى ـ رجل الإكليل والزعتر ـ التي ترسم فضاء ريفيّا و اِحتفالا بتفاصيل الطبيعة و رونقها كقولها
الشتاء
على الشّجر
على التّربة وأنوف الفلاّحين
صلبة ترتعش
عند المساء
ستحسّ لسعة البرد
أكثر
حين تزهر المواقد
خلف الشبابيك البعيدة
وتغمر زقزقة الأطفال
فضاء البيوت
الحامية
وفي هذه المجموعة ثمّة وقوف عند دقائق العلاقات الحميمة الخاصّة مثل تلك الوشائح الصّغرى بين البنت وأمّها في مرحلة من مراحل وعي الصّبية بذاتها وبشخصيتها التي بدأت تستقل بعالمها الجديد وهي تكتشفه من خلال التجربة الذاتية ولكن دون أن تتخلّص من رواسب عالم أمّها القديم
أتكوّم قدّامك
أمّي
أخفي الصّدر
والكحل
فحدّيثي كما كنت
عن الشجر الناطق
والحورية التي تطلع من البئر
ووضمّخي بالزّيت
شعري
وبالورد الذي كنت أعود به
موؤودا
في الجيب
فأنا مازالت أبكي
وأشتهي حناء العرائس
والحلوى
ذلك هو الشعر الجديد الذي تكتبه ذذه الشاعرة ذات الوجدان الزاخر برواسب الماضي والمتفاعل مع واقع فرض نفسه على مستوى الفرد والعائلة و المجتمع في جميع مظاهره، إنّ زهرة العبيدي ترسم هذا النبض الجديد في القصيدة التالية على هذا النحو فتبدأ بالإطار العام للمكان وتخطّ الألوان وتفصّل الشخصيات وتبوح بالمتناقضات لتصل عند آخر القصيدة إلى اِنبجاس الذات المرهقة رغم كلّ العوائق
أشجار السرول
تأخذ لون اللّيل
وتقطر حزنا
حين يأتي على حيّنا المساء
حيّنا جنازة متلفّعة
ببقايا ضوء
من نهار
وبأشباه أشجار
ونساء
ورجال
مع المساء تتضاءل المدينة
البعيدة
تسكن الخرافة
حدود الأشياء
وتكبر فواتير النور
والدواء
وتأخذ عنف الحصار
وأبي ينسى أسماءنا دوما
ولا ينسى أبدا
مواعيد الصّلاة
لا يطلب أجرته
إن تأخرت أو تبخّرت
و يدافع بشراسة نملة
عن شرفة
في الجنّة
وأمّي
تحنّي ضفيرتها وحلمها
كلّ عيد
ولا تنسى خطاف الوجع
وجذع الكرمة
وتكتب رسائل
بلا أحرف
لأخي الموزّع
على أرصفة الدّنيا
وتودّعها الغيمة
وتبتسم كل عام
مرّتين
مرّة حين ينجح
أخي الأصغر
مرّة حين ينسلح من غربته
أخي الأكبر
وأنا بين البسمتين
أغلّف تفاصيل المساء
نعناعا …
وسكّر…
بعد المجموعة الشّعرية الأولى ـ رجل الإكليل والزّعتر ـ تؤكد الشاعرة زهرة العبيدي في مجموعتها الثانية ـ امرأة المواسم ـ أسلوبها الشعّري الجديد الذي بدا يترسخ في تونس ضمن المشروع التجديدي الأدبي العام ، إنّ القصيدة في هذا الديوان الثاني تبدو ذات خصائص أساسية تتجلّي في طرافة المواضيع فهي ليست في شيء ممّا يسمّي ـ بمواضيع أدب النّساء ـ وإنّما مواضيع زهرة العبيدي صادرة عن رفاهة حسّ ودقيق ملاحظة ونفحة وجدان.
أمّا من حيث الأسلوب فإنّ معمار القصيدة لديها يبنى بما قلّ ودلّ من الكلام فلا زيادة ولا نقصان وإنّما القصائد كل كلمة فيها بحسبان ذلك أنّ القصد والاِقتصاد واضحان في هذه القصائد التي لا تقول كلّ ما فيها إلاّ بإضافات القارئ نفسه فالشعر البديع متعدد الأبعاد متجدّد المعاني لنفيس كنهه وعميق غوره
وبالإضافة إلى القصد في المعني والاقتصاد في المبنى فإنّ الصّدق واضح في هذه القصائد حيث يتجلّي وهج المعاناة من مكابدة الحياة ، إنّ الشّاعرة زهرة العبيدي بهذه المجموعة تضيف إلى مدوّنة الشّعر الجديد الذي ليس بديلا للشعّر القديم البديع وإنّما هو تعبير آخر وأسلوب مغاير عن معاناة الذّات في خضم الحياة في واقع جديد بما فيه من تناقضات وإيقاعات
قصائد زهرة العبيدي مكتوبة بالحسّ المرهف و بالعين الثاقبة وبالحيرة الباحثة وتتجلي في نصوصها ترسبات القصيدة القديمة لأنّها من قاع الذاكرة وتظهر فيها عدسة الكاميرا عند اللقطة السريعة ويبدو فيها الضّوء والحركة والصّوت عند المشهد المسرحي وتلوح في إطارها لمسات ألوان الرّيشة عندما تغدو بعض القصائد لوحات بين الرّسم ذلك أنّ الشاعر لا تكتب بالقلم فحسب بل تراوح شعرها بين الفنون الأخرى حتّى لكان القصيدة لديها تناغم بين أشكال وأجناس إبداعيّة عديدة.
إنّ قصائد مثل (حكاية حطاب) و(عجوزان) و غيرهما تتجلّى بحق نموذجا راقيا للشعر الجديد
… إنّ شجرة الشّعر العربي الجديد تثمر في أكثر من غصن
إذا كانت نصوص زهرة العبيدي ذات نسيج ريفي يجعل من الطبيعة في الشمال الغربي التونسي إطارا عاما للذّات وللشخصيات فإنّ الشاعرة رجاء بن حليمة في مجموعتها الشّعرية ـ مزامير الحلم والرّحيل تنطلق من مدينة تونس العتيقة فتجعلها مصدرا للشجون بما توحي لها من حنين وذكريات
دروبنا تتقاطع
ولن تلتقي
ولن تعقل أزقة المدينة العتيقة
خطواتنا الليليّة
وهمساتنا المكتومة
وضحكاتنا عند الزّوايا المظلة
وأنت تمسك يدي
دروبنا تتقاطع
ولن تلقي
ولن نمرّ بعد اليوم
كشبحين جميلين
بسوق العطارين
ولا ببوّاب البركة مساء
تزمّلنا القبلات والعتمات
ولن نُسلم على حارس القصر
قرب الفانوس العتيق
يشعل لفافته
ويضجر
دروبنا تتقاطع
ولن تلتقي
وسأمرّ بالحنّاء والبخور
وبعطر الحلم أضعه مساء
لحين تجئ
وسأمرّ بالكحل
وبشُوش الورد
وباللُّبان والمستكة
وبريح المسك الأبيض
بالصّندل والنّد الهندي
وبالبائع يقول في أدب
تفضلي سيّدتي
لشعرك حنّاء قابسيّة
وكحل الجميلات
وعطور من ليالي شهرزاد
تفضّلي جرّبي
سامرّ بها كلّ يوم من دونك
ولن تعقلني
دروبنا تتقاطق
ولكن …
لن … لن تلتقي
في هذه القصيدة تلحّ رجاء بن حليمة على إعلان القطيعة وتناسي العلاقة القديمة لكنّها في الآن نفسه تؤكد على ذكر مكوّنات المكان الذي كان مسرحا لحميم اللّقاءات بينهما وهي تفاصيل تشمل تقريبا جميع الحواس ممّا يزيد في توهّج الذكريات إنّها نوع جديد من الوقوف على الأطلال لكنه وقوف أصبح مرورا وهي أطلال غدت مليئة بالحركة والحياة فكأنّها تستعذب الفراق من حيث أنّها تنبش فضاء الماضي في الذاكرة : بصرا ولمسا وانتشاقا ومذاقا
إنّ التغنّي بالمكان واضح في تجربة رجاء ين حليمة في هذه المجموعة الشّعرية فثمة تصوير لتونس العتيقة في قصيدة (دروب) وثمة وصف لمدينة ـ بركا ـ على الخليج العربي إذا تقول في قصيدة ـ مزمور المساء ـ
مساء الذّكرى … يا حلوة
إن أنسى فلن أنسى
دروب اللّيل في بركا
وفسحة ساحة الأمل
وموعدنا مع القمر
وجلسنا للسّمر
وكأس الشاي والقهوة …
مساء الشّوق… يا حلوة
مضي عامان
عن يوم تلاقينا
هناك عند الخليج
تزمّلنا … نخلة
في قصيدة (عروس النّيل) تتغنّي بمصر من ( أسوان) إلى إلى جبل (المقطّم) ومن مسجد (الحسين) إلى (النيل) والقاهرة فتضمّن بعض المقاطع من أغنية شعبية مصرية مثل
مصر يا أمّه يا بهيّة يا أمّ طرحة وجلاّبية
الزمن شاب وانتي شابة
هو رايح وانتي جيّة
وبعد تونس ومصر والخليج تكتب رجاء بن حليمة عن مدينة (سراييفو) قصيدة ذات إيقاع ثفيل فيه من الرثاء حزنها وفيه من الإدانة تهمتها إلى العالم كأنها القصيدة الشهادة
من يشهد للميّتين؟
من يرفع قبّعته للّذين قُتلوا بالعراء
على مرأى من اللّه
من … من يصّلي للأنبيا ء…
قبّعات زرقاء
قدّت من لون السّماء
مثقلة بالسّواد
فالذين قتلوا… ههنا
تركوا على أكفان سراييفو
دما أزرق كحلم البحيرات
وقبورا بيضاء … كالثلج بيضاء
وبالإضافة إلى تعلّق رجاء بن حليمة بالمكان تنطلق منه لكثير من نصوصها فإنّها تتمثل وتنطلق من التراث مثل قولها منذ القصيدة الأولى ـ ورقة ـ)
أنا امرأة
من حروف ومن ورق
انا امرأة لن تحترق
أنا النار
إن تقترب منّي
أكن عليك بردا وسلاما
وأهطل حبّا حبّا وهياما
وإن تبتعد
أصليك شوقا وأكويك حنينا وأرق
فتضمين قصّة ابراهيم واضح من خلال هذه القصيدة والشاعرة تستلهم كذلك قصّة مريم عند قولها
وماريا
خطيئتها، أنّها كانت عذراء
وتهمتها أنّها لم يمسسها
أنس ولا جان
وإنها لم تعرف من الرّجال
سوى رجل … ولدته
وحين أشارت إليه في المهد
أن : تكلم …
ت…ك…ل…م
صار إلاها
و مات
فهذه قصيدة ذات دلالات عديدة منذ العنوان إلى آخر كلمة فيها فهي متداخلة المعاني التي يمكن أن تنطلق من المقدس لتصل إلى عوالم المدنّس ويمكن أن ترمز إلى تجربة المذكّر والمؤنث من ناحية وهي تحتمل من ناحية أخري قضية الخلق والوجود والعدم بل يمكن أن تُباشر هذه القصيدة بأدوات التحليل النّفسي أيضا بالإضافة إلى مداخلها الأخرى والتي من بينها حضور النّص المغيّب مثل قولها (ماريا) ويمكن أن نتساءل بعد قراءة هذه القصيدة سؤالا عميق الأبعاد : هل عندما يتكلم الإنسان يموت؟
إن قصائد عديدة لدى رجاء بن حليمة نلاحظ فيها إحالات على التراث الدّيني سواء من خلال عناوينها أو في غضونها من ذلك قولها في قصيدة ـ عروس النّيل ـ
تنام الغيطان،
تتوسّد حضن النّيل
وتحلم بنخلة على مشارف أسوان
أصلها في السماء
وفرعها عند سدرة المنتهى
وقولها في قصيدة ـ تأبينة الفارس الأخير ـ
ارحل
زمن الحريف هذا
ودم الشّقيق
أيحبّ أحدكم أن يأكل
لحم أخيه ميتا
ف …….أكلوه
هذا حطام عصر
تجهله الألوان
لم يدخل ذاكرة الماء
ليكون محفوظا
كما حفظ الله الكتاب الأول
إن تضمين النّصوص التراثية ظاهرة واضحة في الشعر الجديد عامة حتى أمست إحدى أهمّ علاماته ولعلّ ذلك يعود إلى الطّاقة الإبداعية التي مازالت كامنة في تلك النّصوص القديمة فسلطان القديم له تأثير على النفوس وذلك التضمين يؤكد لدى شعراء وشاعرات الشّعر الجديد عامّة تمسكهم بتراثيهم البديع من ناحية وإثباتهم أنّ إضافاتهم تندرج ضمن تفاعل اللاّحق بالسابق اِستمرار تواصل بلا قطيعة أو اِنبتات
تقول رجاء بن حليمة وقد اِستلهمت المخيال الشعبي التونسي في تبدل الطّقس
جمرة أولى
الفصل آخر شتاء
نزلت جمرة الهواء
واشتعلت جمرة الهوى
سود ليالي العمر
وبارد … بارد هذا الغطاء
جمرة ثانية
الفصل آخر شتاء
نزلت جمرة الماء
ونار القلب ما انطفأت
جمرة ثالثة
عاد ربيع الرّوح
ليؤثث هذا الخراب ب
فقد نزلت جمرة التراب
فهذه القصيدة والتي تحمل عنوان (جمرات) اعتمدت على الانطلاق من المخزون الشعّبي في توالي وتعاقب الأياّم خلال فصل الشتّاء وعند دخول فصل الربيع ثمّ وظّفت مجال الإيحاء لترتقي به إلى فضاءات تشتمل على خلجات الجسد وومض الرّوح أيضا
أمّا من حيث الشكل العام للقصيدة فقد اعتمدت على توالي المقاطع كتواتر الجمرات بين الشتاء والرّبيع فإذا هي ثلاث جمرات لثلاثة مقاطع والعدد ثلاثة يفيد تمام الوجود الذي يترتب عليه الكون بالإضافة إلى رموزه الأخرى في الأنوثة والخصب وإلى دلالاته في الطّقوس القديمة
ولرجاء بن حليمة قصيدة أخرى ترتقي فيها من المعنى المباشر إلى الفضاءات الرّحبة فقد انطلقت من (الكمان) لتصل من خلال خشبه وأوتاره ومفاتيحه إلى ذروة النّشوة في شتّى مجالاتها كأنّها تنصهر مع بقيّة العناصر في الطبيعة الشّاملة من خلاله
ضمّني
ضمّني
واعجن ضلوعي
أعد تشكيل خارطة الجسد
شدّني على عنف صدرك
أو أبعدني
اكسرني كموجة تعربد
على صخر لحنك
مزّق بأناملك أوتاري
بعثر مفاتحي الأربعة
وافتح عوالم أسراري
سأتلو عليك وحيي
أسفار الخشب الخمسة
وعهد الغابات القديمة
وقرآن الشّجر
فصص الحطّابين
وصدى أغنيات الغجر الرّاحلين
في الزّمان الغابر
ضمّني …
صمّني
آه
اعزفني
اعرفني
إنّ البعد الذّاتي واضح في تجربة رجاء بن حليمة حيث يبدو الصدق في المعاناة منذ مجموعتها الشّعرية الأولى (المرايا) التي أصدرتها سنة 1990 فهذا الدّيوان عبارة عن رسالة مفتوحة إلى من يهمه الأمر أو هو يمثل شهادة فيها من الصراحة والجرأة ما يجعل الشاعرة في هذا الدّيوان تكتب في أدب البوح والسّيرة الذّاتية
في سياق سنوات التسعينات من القرن العشرين ظهرت الشاعرة آمال موسى في مجموعتها الشعريّة الأولى (أنثى الماء) كاشفة عن عوالم مخفية لدى المرأة بما فيها من توق وشوق وتوهّج وانتصار وانكسار وكبح وضبح ورغبة ورهبة بحيث أنّ مواجد الشاعرة تتجلي في تمام الوضوح من خلال النّصوص فكأنّها تقف وراء بلّور شفّاف وقد أزاحت عن نفسها ستار وبرقع اللّغة لذلك فإنّ المباشرة النفسية لمثل نصوص أمال موسى قد توصل إلى أبعاد مهمّة في مكاشفة تجربتها الشّعرية
نلاحظ حضور الماء ضمن لفظه أو من خلال مدلولاته في أغلب القصائد من ذلك مثلا قصيد ـ اكتمال ـ
أثير بثوبي
خيول الماء
ما سرّ ارتوائي
حسبي أنّ الدّنيا ستقودني
وتلقي بي
إلى النّسيان
بل إنّ الشاعرة تعمد إلى استهلال مجموعتها الشّعرية ببيت للمتني هو
وكم جبال جبت تشهد أنّي
الجبال وبحر شاهد أنّني البحر
وفي قصيدة (أعشقني) ورد فيها أيضا
من البحر
أبارك تدفّقي ، تلاطمي
أحضنني في صدري
إلى أن تقول مصرّحة بالماء
صورتي تحمل الماء للعطش
فالقصيدة لئن صرحت ب (الماء) لفظا فإنّها اشتملت كذلك على نقيضه أي العطش
وفي القصيدة الثالثة قولها
لا الحبّ
يجرفني
ولا ماء الأهداب
يغسلني
فلا تكاد تخلو قصيدة من القصائد لدى آمال موسى إلاّ وفيها تصريح بالماء أو تلميح له بمدلولاته فالأمر بعد أن اِسترعي الانتباه لا بّد من تفسير لدى مختصّي التحليل النفسي فليس من السهل أن نروم مسلك الاستنتاجات العامة في هذه المسألة وليس لدينا مفاتيح مغالقه الدقيقة
إنّ الشّاعرة تبدو م خلال هذه المجموعة الشعّرية مزهوّة بنفسها إلى حدّ التماهي والتمايل في تباه و وله بعشق الذّات فهي القائلة واصفة بعين عاشقة لتفاصيل جسدها
لوني الماء
وهو وجه البسيطة ساعة الغروب
الشّعر ثوبي الملوكيّ
الكتفان وكران
واحد لليمامة
وآخر لصقر ناعس
النّهدان خميرة أسراري
الخصر كوكب يدور حول غزالة
اليدان جرّتان مسجورتان
بالماء
بلوني
السّاقان مدن
ضاقت بمواعيد العشاق
الأصابع تمشط ضفائر قصيدتي
أيّ جدار يتحمّلني لوحة؟
فليس عجبا أن تحمل هذه القصيدة عنوان (لوحة لا يتحمّلها الجدار).
في قصائد آمال موسى ثّمة مدائح للذّات الأنثى إلى حد التغزّل بمفاتن جسدها التي لا يقدر على وصفها الوصّافون والتي لا يصل إلى معرفة كنهها العارفون حيث تقول
أيّ رجل يحتملني
أيّ امرأة تستأنس برفقتي
أيّ طفل لا تقتله دهشتي
أيّ أب يحب شبيهتي
أيّ اسم يسع ملامحي
أيّ فعل يدّعي اختزالي
يا أيتّها النّار
ما الذي يطفئك
قطرة منّي
أم شعلة فيّ؟
إنّ هذا الإعجاب العجيب بنفسها يصل مرّة إلى الشّبق الذّاتي الذي ينصرف إلى التلذّذ الذّاتي ويصل مرّة أخرى إلى المرارة والانكسار.
فأمّا التلذّذ فمثل قول الشّاعرة
حين إلىّ أمضي
أباغت الأسرار
أفصل البقاع
أصوغ أسماء جديدة للأمصار
أتسلّق الأطراف
أتحسسّ النهدين
أطمئن الخصر
أعدّ أصابعي العشر
النجوم السّاكنة خلف السّماء
حين نوقي أطير
أجدني كلّ الجغرافيا
إنّ الشاعرة وهي تقطف فاكهة بساتينها لنفسها بنفسها كحال قولها: (أنثي
في أنثي أنا
متيّمة
أغتسل بأنوثتي
جمرة مبللة
صائبة تعبد كوكبها
أصابعي حبر
خصري لفاف ورق
وفيّ مضيت
لكنّ ذلك العزف العذب على أوتار الذّات قد يغلف المرارة والإنكار أيضا وذلك مثل قولها
هو الجنون يكبر
حتي أولد
النار توقدني اخضرارا
ليتني كلّي أحترق
كما
فعل بعضي
وأعيش الاحتراق
فكثير من نصوص آمال موسى تبدأ منطلقة من ذاتها و من التغزّل بصفاتها لتصل على ذروة التوحّد في تفاصيل كيانها من أصابع وخصر وساقين وشعر وضفائر وشفاه لكنها تنتهي في أغلب الأحيان بالخيبة والارتباك والانكساروالحزن و الانكفاء رغم احتفالها باللذة والجسد
يمكن أن نذهب في الرأي حول قصائد الشاعرة في (أنثي الماء ) أنّ التحليل النّفسي يفسّر الكثير من الحالات في تلك القصائد ويؤدي إلى الإقرار بأنّ الشاعرة وهي تمدح آلاء نفسها فإنّها لتفرّ من مجابهة فشل العلاقة بالآخر والآخرين معها
لذلك يمكن أن نتابع ظلال الأشخاص في هذه النّصوص فإذا هم أشخاص باهتو الملامح فاقدو السّمات وبصماتهم ممحيّة أو تكاد فقط الأنا وحدها هي الواضحة والمهيمنة والمعشوقة والمعبودة لكنها ذاتها مأزومة ومهزوزة لأنّها تثور على ذاتها عندما تبايع ذاتها مثل قولها في هذه القصيدة
التقط لي صورة فاتنة
يشعّ منها بريق حزني
صورة
تتوقف فيها الابتسامة
في زاوية البوح
التقط لي صورة
وأنا أغتسل خلف مرآتي
صورة
ساعة ألتف حولي وأصير مثالي
صورة
حين أقبّل يديّ
لأصفح عنّي
التقط أي صورة
وأنا أمزق هذه الصّور
إنّ تجربة الشّاعرات التونسيات من خلال فضيلة الشابي وزهرة العبيدي ورجاء بن حليمة وأمال موسى تبدو منعتقة من أغلال ورتابة العروض من ناحية وتلوح تائقة إلى فضاء التحرّر الإنساني والاجتماعي والنفساني أيضا فقد عبّرن في أغلب نصوصهنّ عن شوقهنّ العارم إلى تحقيق ذواتهنّ وسجلنّ بصدق كبير تجاربهنّ في أحلامهنّ حينا وفي خيباتهنّ حينا آخر…
……………………………………………………………………..
في تجديد موضوع الموت
قد أخذ المنحى الشكلي ـ بما فيه من مقاربات عروضية و إيقاعية و غيرها ـ جهودا جمة في تنظيرات الشعر الحديث حتى بدا التجديد فيه يكاد لا يتمثل إلا في مظهر المباني بينما ظلت مسألة المعاني و الرؤى والصور قليلة الحضور و التناول على مستوى النصوص النظرية والحجاجية لذلك نرى أنه يتعين على المتابعين لتطور القصيدة العربية الحديثة أن يعكفوا كذلك على سبر مثل هذه الأغوار الداخلية للوقوف على مدى إضافات الشعر الجديد و رصد تحولات القصيدة الحديثة تلك التي ولئن طرقت نفس المواضيع القديمة عموما إلا أنها تناولتها من زوايا أخرى و بأساليب مغايرة مثل موضوع الموت
في الموت قصائد عديدة ضمن أغراض الرثاء والتأمل والزهد وغيرها فهو من المواضيع التي يزخر به ديوان الشعر العربي على مدى توالي عصوره و ترامي أمصاره غير أنه أضحى في مدونة الشعر العربي الحديث موضوعا قد تناوله بعض الشعراء بكثير من التجديد سواء من حيث المناسبة و العبارة أو من حيث الإيقاع والصورة ناهيك عن النظرة إليه من حيث الرؤية الاجتماعية و الدينية و الفلسفية فظهرت قصائد عديدة في ما يسمى بالرثاء الذاتي تتمحور عموما حول فكرة أساسية غالبا ما تؤكد على أن الشاعر قد نفض يديه من الدنيا تلك التي يغادرها وحيدا بلا أهل و بلا أصدقاء وبلا مراسم دفن أو طقوس جنائزية لكأن القصيدة تتحول إلى عتاب لمعاصري الشاعر لتصل إلى الخيبة والمرارة…إنها قمة المأساة
من بين أولئك الشعراء الشاعر والأديب صالح القرمادي في ديوانه ـ اللحمة الحية ـ الصادر بتونس سنة 1970 حيث نقرأ له قصيدا بعنوان ـ نصائح إلى أهلي بعد موتي ـ يقول فيه
إذا متّ مرّة بينكم
وهل أموت أبدا
فلا تقرؤوا على الفاتحة وياسين
واتركوهما لمن يرتزق بهما
ولا تحلّوا لي في الجنّة ذراعين
فقد طاب عيشي في ذراع واحد من الأرض
ولا تأكلوا في فرقي المقرونة والكسكسي
فقد كانا أشهي أطعمة حياتي
ولا تذروا على قبري حبوب التّين
لتأكلها طيور السّماء
فالأحياء بها أولى
ولا تمنعوا القطط من البول على ضريحي
فقد اِعتادت أن تبول على جدار بيتي
كل يوم خميس
فلم تزلزل الأرض زلزالها
ولا تزوروني في كل سنة مرّة
فليس لديّ ما به أستقبلكم
ولا تقسموا برحمتي وأنتم صادقون
ولا حتى وأنتم كاذبون
فصدقكم وكذبكم عندي سواء
ورحمتي لا دخل لكم فيها
ولا تقولوا في جنازتي أنتم السابقون ونحن اللاّحقون
فليس هذا السّباق من رياضاتي
إذا متّ بينكم
وهل أموت أبدا
فضعوني في أعلى مكان من أرضكم
واحسدوني على سلامتي
إنه خطاب تأبين ذاتي أو وصية إلى أهله و أصدقائه يعلن فيه القطيعة بينه وبينهم على جميع المستويات بل ويتهكم من عاداتهم و اعتقاداتهم مما يؤكد الغربة التي عاش فيها بينهم
بحيث أنه عندما يدفن بعيدا عنهم سيلقى الهناء والسلامة
أما على مستوى الأسلوب فيبدو الكلام قريبا جدا من المستوى المحكي اليومي ولكنه حامل لكثير من التضمينات ذات الأبعاد الاجتماعية والفكرية والدينية مما يجعل القصيدة تعبر بالبساطة و السلاسة عن المعاني المعقدة والإشارات البعيدة
وفي هذا السياق نقرأ قصيدة ـ بكائية البحر ـ للشاعر محمد الحبيب الزناد في ديوانه ـ
المجزوم بلم ـ الصادر بتونس سنة 1970 وهو في رثاء أمه حيث يقول في بعض مقاطعها
خرجت تتفقد الأحباب
كان البحرجميلا ساخرا كذاب
عقدت عليه أشواق الأهداب
ورمت إليه بما في العمر من أتعاب
أعجبها النخل على زيفه
و الرمل وضوح سراب
….
خرجت تلوي على فرح جذاب
لبست جلباب
أبيض كالصبح لا حقد فيه
و لا لون اغتراب
خرجت تواجه زبد الموج وتمويه السحاب
مابين فتح الباب و غلق الباب
سنوات شطت وحبيب غاب
…
أعطني من ملحك يا بحر
ملح كلماتي
أعطني شعرا لأمواتي
ماذا عن الدنيا يا غامض الألوان
ويا قادرا عاتي
ماذا عن الأموات
جالت عيناها في البحر
فارتعش البحر لعينيها
علته الزرقة
فيبدو بوضوح أن الرثاء في هذه القصيدة يختلف إلى حد بعيد عن قصائد الرثاء في دواوين الشعراء القدامى لا من حيث المبنى فحسب وإنما من حيث المعنى أيضا بما فيه من مفردات و إسنادات و مواقف و مشاهد جديدة كان البحر فيها نقطة الانطلاق ومدى الآفاق
للشاعرات أيضا نصيب في قصائد الموت الحديثة حيث تناولن هذا الغرض بنظرةتجديدية واضحة نذكر منهن الشاعرة آمال جبارة في قصيدتها ـ مقبرة ـ بديوانها ـ أرق الكلمات ـ الصّادر سنة 2006 و التي تصور فيها مقبرة مدينة المهدية التونسية تصويرا هو أقرب إلى الرسم التشكيلي حتى لكأن القصيدة تستحيل إلى لوحة يطغى عليه اللون الأبيض بداية من أزهار الأقحوان إلى بياض القبور وزبد البحر غير أن اللون الأسود يسجل حضوره في آخر القصيدة وذلك عندما يخيم الليل
القصيدة إذن قائمة على سجل من الثنائيات و المدلولات من بينها ثنائية الأبيض و الأسود وهي تتراوح أيضا بين العمق و الارتفاع و تتنزل بين المد والجزر أو بين البر والبحر وهي تتجلى من ناحية أخرى بين الحضور والغياب أو بين زمن الفاطميين والزمن الحاضر لتظهر معاناة ثنائية الحياة والموت تلك التي تعبر عنها الشاعرة وهي تزور المقبرة البحرية فتلقى في أحضانا الصفاء والسكينة والسلام فالمقبرة في هذه القصيدة لا تعني الموت و إنما تتحول إلى رديف للحياة المنشودة وبذلك تنقلب جميع المعادلات المعهودة
هناك
حيث ينام الأقحوان قيد قبور من البحر
على بعد شهقة من‘ البرج
تتسنّى لي الحياة مرّتين
ما بين قبر وعوسجهصخور الفصل مرهَقة
ترسم حدود الحياة
والعمق يحثّ الزّبدَ
يغازل الشّواهد المؤنّثهعاصمة الموت الفاطميّ
تدلّك مفاصلها بمرهم المدْ
شبق يحتدْ
و تشهق في البرج الأعمدهللموت حضاراتٌ يجهرها الصّمت
هناك…بين القبور
تتقاسم مع البحر كلّ الزّمان
وبعض الأمكنهينهزم الغياب
في الكفّ الفاطميّ المخضّب
تستبيح الأرواح ترك الغطاء الحجريّ
آهلة أراها هاته المقبرهاللّيل يحبّ الانفتاح على المسالك
بين القبور
يخلد الزّبد الى الصّمت
حين تلألأ الأرواح نجوما مبعثرهالموت هديّة المنهكين/عودة مذهلة للصّفاء الأوّل
أمارس النّبش اضطرارا
لأقبر رغبة في الحياة دون النّضج
كم أفارق الجسد في هاته الأمكنهأضرحة يزورها الأ……موات
يربكون هدوءها
بتجويحة اليتم الحقيقي
تتداخل الظّلال في الخميسات
في ليالي الجمعهأضحت طقوس النّدب مشتّتة
بين الرّغبتين
كم ممتع هذا الصّراخ الأزليّ والرّجع مقبور
حين اللّيل يحتضر في هذي الكفّ المقفره
كذلك هو الشعر العربي هذا الجديد ـ في مختلف أنماطه وتسمياته ـ ليس تجديده في خروجه عن التفعيلات والبحور والقوافي فحسب و إنما في ظهوره بأساليب من المفردات و الإسنادات والمجازات والإشارات وحتى في مستوى توزيع كلامه على الورقة ليأتي بمعان و أحاسيس و يرنو إلى أبعاد و يعبر عن معاناة ظروف أخرى لم يعشها السابقون…و تلك لعمري شرعية
التجديد في كل عصر
لقد كان التعبير عن الموت في مختلف أبعاده أحد مظاهر ذلك التجديد
……………………………………………..
النّهرُ … يخرج عن مجراه
إذا كان الشّعر في بعض التعريفات محدودا بالوزن و القافية حينا و بما هزّ النفس وحرّك الطّباع حينا آخر أو هو حُسن التناول للمعاني في جودة اللفظ في تعريف آخر، فإنما الجاحظ يؤكد على أنه صياغة و ضَرْب من التصوير مع اعتبار أنّ مفهوم كلمة التصوير ينبغي أن ندرجه في سياقه اللغوي القديم الذي يدلّ ـ في ما يدلّ ـ على معنى الخلق و الهيئة و الإنشاء و الابتكار.
ثم تمحّضت تعبيرة (الصّورة الشعرية) لمعناها الجديد في السّياق المعاصر بعد أن اطلعنا على الصورة الفوتوغرافية خلال القرن التاسع عشر ثم على الصورة السينمائية و غيرها في ما طرأ على المجالات البصرية العديدة، ممّا جعل الصورة الشعرية في متون شعرنا المعاصر ما عادت تقوم على العناصر البلاغية القديمة من تشبيه و استعارة و تورية و غيرها من ضروب المُحسّنات البلاغية بل أصبحت تستند على كثير من فنّيات الرسم و المسرح والسينما و الكاريكاتور و حتّى السرد و غيرها من التعبيرات بحيث أن الشاعر الحديث ما عاد يكتب متمثّلا الفصاحة والبلاغة في القصائد العصماء وحدها و إنما أضحى يستبطن مجالات عديدة فيوظف أساليبها و أدواتها حتى أضحى النصّ الشعريّ منفتحا على سجّلات متنوعة ومتعددة بعضها من ذاكرته و بعضهامن سليل القصائد و المتون القديمة، بالإضافة إلى إطـلالات الآداب الأخرى وفي بعضها الآخر يمكن أن نلاحظ في تلافيفه و في ظلاله أو في شكله و معماره شتّى آثار الفنون !
فالقارئ لقصيدة ( المساء) لإيليا أبي ماضي مثلا كأنه يشاهد منظرا سينمائيا في قوله :
السّحب تركض في الفضاء الرّحب
ركض الخائفين
و الشّمسُ تبدو خلفها صفراء
عاقدة الجبين
لكنّما عيناك باهتتان
في الأفق البعيد
و كذلك الأمر عند قراءة مطلع قصيدة ( أنشودة المطر) لبدر شاكر السيّاب حيث تبدأ كأنها لوحة تشكيلية أو مشهد تتراوح فيه الكاميرا بين عيني حسناء و بين طبيعة الواحة في العراق عندما يقول :
عيناك غابتا نخيل ساعة السّحرْ أو
شُرفتان راح ينأى عنهما القَمرْ.
ففي هذين المثالين المشهورين من الشعر العربي المعاصر تبدو واضحةً تقنيات الرسم و التصوير بالريشة و العدسة بينما غابت إلى حد بعيد بلاغة الإبداع القديم لنجد مكانها بلاغة النص الشعري الجديد تلك التي تضيف و تثري الإبداع العربي .
أنا من جيل فتح وعيه على الأسئلة الكبرى في الثقافة و الأدب و في الشعر خاصة في الكتابة مثل سؤال بأي لغة نكتب؟ أَبالعربية أَمْ بالفصحى أو بالعامية أم بالفرنسية؟!
ففي المرحلة التي عقبت سنة 1967 اِعترى الثقافة في تونس وفي أغلب البلدان العربية و حتى في الشرق الأقصى و أوروبا و أمريكا حيرة حادة اِستطاعت أن ترُجَّ كثيرا من الثوابت بسبب التأثير المباشر و الحاد للأزمات التي وقعت وقتذاك: فمن حرب جوان 1967 إلى حرب فتنام، ومن أصداء الثورة الثقافية في الصين إلى أحداث ماي 1968 في فرنسا، و إلى حركات التحرّر العارمة في أمريكا و إفريقيا تلك التي كانت كالسّيل العارم أو كالنّار تشبّ في اليابس من الأغصان وفي ما تهاوى من الجذوع واِنشرخ من الأغصان وفي ما تناثر من الأوراق …
كان من الممكن أن أنخرط في سياق السائد من الشعر الذي كان يتراوح بين معاني الغزل و المديح و بين معاني الرثاء و التباكي و جلد الذات ، و كان من الممكن أن أباشر الكتابة بالعامية متمثلا مقولة أنها أقرب إلى الجماهير و أسهل في التداول و الانتشار، بل كان بوسعي أن أنخرط في الكتابة باللغة الفرنسية باعتبار أنها اللغة الثانية في تونس و التي يمكن بها أن أتواصل مع مدى أوسع!
و لقد بدأت فعلا في الكتابة بتلك اللغة و لكنني بعدما اكتشفت أن في العملية انسلاخا و انبتاتا تراجعت.
غير أني لم أنخرط في الكتابة بالعامية التونسية في تلك المرحلة و ذلك لسببين اثنين أولهما أنني علمت أنها كانت تعتبر دعوة للقضاء على الهوية الوطنية ذات الأصالة العربية و ثانيهما عدم قدرتي على التعبير بها عمّا كان يخالج نفسي من المعاني الغزيرة و العميقة و غم ذلك فإني أعتقد أن الأدب العامي بما يشمله من أمثال و حكم وأزجال وأغان و حكايات وخرافات و نوادر إنما هو إثراء للأدب العربي بل هو رافد مهم من روافد تجديده و تنوعه. غير أنه عندما تصبح الدعوة إلى ترك الفصحى و إبدالها بالدارجة مطلبا فإن الأمر عندئذ ينقلب إلى قضايا تتعلق بأساس الشخصية الوطنية التي أعتبر أن العربية هي اللّبنة الأولى في بنائها.
في هذا السياق قد استفدت كثيرا من التراث الشفوي و خاصة في قصيدة ـ الجازية ـ التي راوحت فيها بين مستويات عديدة من اللغة سواء من القاموس الفصيح أو من السجل العامي البدوي و الحضري التونسي و كذلك المشرقي فرسمت صورة للجازية و جعلت من سيرتها مشاهد و لوحات و مواقف فيها الكثير من تقنيات الفنون الأخرى بالإضافة إلى فنيات السرد و غيره من ضروب الكتابة و الشعر بمختلف أنواعه.
-
إن مرجعية الشاعر الحديث اليوم ما عادت تقتصر كما كانت على الشعر القديم المبثوث في المتون و المختارات و المصنفات من الدواوين تلك التي يقتصر الإبداع الحقيقي فيها على بعض القصائد فحسب،بل صارت تلك المرجعية تستند أيضا إلى عديد النصوص الأخرى في الآداب القديمة و المعاصرة تلك التي اطلعنا عليها فاكتشفنا فيها آفقا و أنماط أخرى من الإبداع
* حاولنا أن نقتبس من تلك المعالم الإنسانية إلى شعرنا الحديث من دون نسخ أو نقل مباشر فالآداب تتلاقح و تتمازج و تتحاكى و تتطور ليس بفعل الترجمة و الاطلاع فقط و إنما بسبب العوامل الاجتماعية و الحضارية أيضا. فالجيل الذي كتب قصائده على نمط التفعيلة ـ الشعر الحر ـ و خرج على نمطية البحور و القوافي عند منتصف القرن العشرين قد عبر بذلك عن خروجه على نسق المجتمع العربي القائم على التقاليد و القيم تلك التي تزحزحت بسبب التطور الكبير في حياتها ذلك الذي استطاع أن يؤثر في كل شيء فيها من تخطيط المدينة و معمارها، إلى فضاء البيت ومختلف العلاقات بين ذويه، و من أدوات الكتابة و القراءة، إلى أدوات الطبخ، ومن الأثاث و اللباس، إلى الأفكار و الإحساس…
إنّ قصيدة جيل النصف الثاني من القرن العشرين عبّرت عن ذلك التغيير والشرخ الكبير الذي تمرّ به المجتمعات العربية ضمن دوافعه الاجتماعية و التاريخية العديدة.
* أمّا الجيل الموالي الذي تشكل وعيه في سنوات الثلث الثالث من القرن العشرين فقد عاش فترة الانهيار و الانكسار و الدمار على المستوى المحلي والقومي و العالمي فأراد أن يبني و أن يؤسس على غير ما وجد لعله يجد الخلاص فرأيناه ينشد الجديد و الغريب أحيانا ليس في الشعر والآداب فحسب و إنما في شتى الفنون و قد استند على شرعية التجديد و البحث و التجريب تلك التي ترنو إلى إنجاز إبداع يمثّل هواجسها و يعبّر عن همومها و أحلامها وذلك هو الأمل و المبتغى فحسب كل جيل أن يثبت بصماته !
* لقد قلت مرة إن المحاولة في التجديد أفضل من النجاح في التقليد و إن إيماني بهذه المقولة كان نتيجة المناخ الثقافي الذي كان سائدا سنة 1970 تلك السنة التي بدأت فيها النشر.
من قصائدي الأولى التي صورت فيها ذلك البحث و ذلك الهاجس الجميل في تجاوز السائد قصيدة ـ الحذاء ـ:
جاء الربيع …
سيشتري حذاء
جاء الصيف …
سيشتري حذاء
جاء الخريف …
سيشتري حذاء
انقضى الشتاء …
فتعلم المشي حافيا!
و إلى اليوم و بعد مرور أكثر من ثلث قرن على هذه القصيدة مازلت أحاول و أبحث..!
و من تلك القصائد أيضا قصيدة المحطة التي عبرت فيها عن حيرتي المتأججة بين الأطروحات التي كانت قائمة وقتذاك و التي كانت تتجاذبني مرة نحو اليسار و مرة نحو اليمين فجعلت من المحطة مشهدا يصور تلك المرحلة فقلتفي قصيدة ـ المحطة ـ :
وقف المسافر وسط الميدان
يسأل عن العنوان :
-
إلى اليمين… ثم رويدا رويدا
إلى اليسار
– شكرا.
-
إلى اليسار…ثم رويدا رويدا
إلى اليمين
– شكرا.
أخذ المسافر حقيبته
و مضى إلى الأمام…!
هكذا صورت التناقض الذي عاشته الذهنيات في تلك السنوات المتأجّجة بالأسئلة و قد كانت الحركات الفكرية و السياسية قائمة على قدم و ساق سواء في الجامعة أو في الشارع و المجتمع أو في الأحداث العربية و العالمية و الواقع أنني كنت متابعا لها و قارئا نهما لمختلف أطروحاتها و أدبياتها فبقدر ما كنت أميل لرفض ممارسات الانضباط و التسلط و بقدر ما كانت بعض الإيديولوجيات قائمة على الشمولية بقدر ما كنت أجد التنوع و الاختلاف ثراء في المعرفة وزادا لملء الوطاب و غِنًى للفكرو فسحة للرّوح بحيث كنت أحب أبا ذر الغفاري و شيغيفارا معا و كنت معجبا بغاندي و حنبعل كليهما…
أنا لست منظرا في الفكر و الإديولوجيا و لا محترفا في السياسة و لكنني وجدت أن التاريخ الإنساني أكبر و أشمل من كل النظريات و بالتّالي فإن الشعر عندي أوسع من العروض و البحور و أشمل من البلاغة و البيان، و حتى اللغة قد تضيق به أحيانا… ثمة قصائد عندي ما مسكتها بحرف و لا أسكنتها ورقة فلا عجب أن كتبت في السنوات الأخيرة بعض الأشعار العمودية ربما بسبب الحنين إلى الجذور أو بحثا عن طرافة القديم في خضمّ الجديد لِمَ لا والشعر عندي لا يُحدّ بأشكال و لا يُعدّ بأنواع ؟!
أمّا الغريب والعجيب حقّا فإنه بعدما نشرت قصيدة أو قصيدتين منها تلقّاني بعضهم هاشّا باشّا قائلا : هذا هو الشّعر ! بينما أشاح عنّي بعضهم وجهه عابسا بقوله :ماهذه الردّة !؟
ْقَـلَـمٌ وَ اَللِّسَـانُ ذَهَــب
ذِكْـرَيَـاتِي بِـتِـبْــرٍ كَـتَـبْ
*
أَيْـنَ مِنْهُ يَـرَاعُ اَلصِّــــبَا
كَمْ بَـرَيْتُ دَقِيقَ اَلْقَصَبْ
*
وَرَسَمْتُ اَلْحُــرُوفَ عَلَى
لَوْحَةٍ مِنْ صَقِيلِِ اَلْخَـشَبْ
*
وَدَوَاةٍ كَـــلَـيْلٍ سَــــجَا
لَوْنُهَا الْبَحْرُ فِيهَا اِنْـسَكَبْ
*
وَ مِنَ اَلطِّينِ قَـــوَّرْتُـهَا
حِبْـرُهَا سَاطِـعٌ كَاَلشَّـهَـبْ
*
تَحْتَ قِــنْدِيلِ زَِيْـتٍ بَــدَا
رَاقِـصًا فِي ضِيَاءِ اللََّـهَبْ
*
وَدُخَانُ الشَّـذَى عَـــبِـقٌ
مَائِــسٌ طَيْـفُهُ كَاَلْــخَبَــبْ
*
فِي الشِّـتَاءِ أَنِيسٌ لَـــنَا
بِـخَـيَالٍِِِِ حَـكَايَـا العَـجَـــبْ
*
سَــنَوَاتٌ مَضَى عَــهْدُهَا
مَا أَلَـــذَّ دِثَــارَ الــكُـتُــبْ
*
لَمْ نَجِدْ فِي اَلصِّبَا غَيْرَهَا
فَلَبِــسْـــنَــا رِِدَاءَ الأََدَبْ
*
بِرَغْمِِ البِلَى لَا نُـبَـــدِّلُهُ
لَـــوْ بِأَعْــــلَى اَلــرُّتَـــبْ
*
وَ مَدَى العُمْرِ نَـــذْكُـرُهُ
! فَـلَقَـدْ كَـــانَ أَوَّلَ حُــــبْ
ألا إنّما الشّعر حال و سؤال و بحث لا يهدأ و لا يستقر على هيئة و لا يثبت على شكل ولا ينتهي عند حدّ لذلك ـ ربما ـ سُمّيت أوزان الشّعر بحورا وذلك لمدّها و جزرها ولهدوئها وصخبها و لغموضها و وضوحها… أليس الشعر أيضا كالنهر العظيم دائم الجريان والسيلان و قد يخرج عن مجراه في بعض الأحيان ؟!
.…………………………………………………………………….
من النقطة إلى الأفق
يتشّكل النص عند صاحبه بداية من الإشراقة الأولي التي يلتقطها من مصادر متنوعة في ظروف تساعد على التنصّت و الترصد لحركة الأشياء إنها عملية اللقاح هذه العملية الأولي في النص تختلف من مبدع إلي آخر و هي تختلف كذلك من نص إلي آخر….هي كالومضة تضيء الليلة الدكناء أو كالرعشة تحرك الرواسي.
حقا لقد قال الأولون إن الآلهة تمنحنا الخاطرة الأولي لكن الفنان الماهر يطورها إلي عمل فني متماسك.
و يعتبر المدخل الطللي في الشعر القديم عند العرب لحظة الولوج إلي تخوم التجربة الوجدانية ذلك أن الذكرى على الأطلال ما هي إلا رحلة في الماضي سرعان ما تقترن بوصف الراحلة بحيث أن القصيدة القديمة انعتاق من أغلال الزمان و المكان.
إن البيت الأول هو عتبة تخوم العالم البديل.
إن طبيعة النص تتطلب من قارئه استعدادا معينا حتى تتم عملية الاستيعاب و التفاعل بل إن النص القرآني مثلا له آداب لقراءته من ذلك الطهارة أولا ثم الاستعاذة و البسملة و كلها مراحل تتدرج بالقارئ إلي منزلة تجعله يتصل بالنص اتصالا أوثق حتي يستحيل معه في حالة انسجام بحيث أنه يسجد إذا قرأ آية فيها معنى السجود و كذلك الشأن أثناء حلقات الذكر عند المتصوفة عندما تنسجم الإيقاعات بالكلمات مع الشطحات.
معني هذا أن للنص امتدادا في حركة قارئه أي أن النص ليس ذلك الجامد على الورقة أو ذلك المخزون في الشريط أو الظاهر على الشاشة أو ذلك المترامي في الذاكرة.
النص إذن هو حركة الإنسان من الحدقة إلي اللسان حتى اليدين أو القدمين.
إن النص الأعظم هو الذي يحرك الإنسان كله !
النص لا يكون من فراغ
انه من سلالة نصوص أخرى مخزونة في ذاكرة حبلي تولد منها أثناء التجربة المتميزة بكتابته. فالنص الحسن كالبناء الحسن الذي يتكون من مواد سابقة له لكن عامل البناء جهزها و شكلها تشكيلا معينا… إن سرقات المتنبي هي سر شرعية نصوصه لأنه امتص النصوص السابقة ثم ختمها بطابعه المميز فالنص الحسن أسد يفترس الأرانب و الغزلان أو هو عصا موسى تلتهم الحيات الأخرى.
و النص كذلك ليس إلى انتهاء و تلاش
انه ينتقل إلي نصوص أخري آتية بعده و قد يتشكل النص في نمط شكلي آخر فينتقل من نطاق الكلام و الكتابة إلى الركح و السينما و الرسم فيصبح بذلك في عداد الفنون الأخرى عندما يستوحي من المخرجون و الفنانون و العكس كذلك ممكن.
كما أن النص تتدخل فيه عوامل خارجية عنه مثل التشكيل على الورقة أو على الشاشة أو على الرخام… أو عند الإلقاء فهو يتاون ويتبدل ويتشكل إلى حدّما بظروف قراءته و نشره…
انه يتلون بالقارئ نفسه فكم هو سائل و متلوّن حركي … إنه كائن حي ذلك النص !
النص المتماسك الثريّ و الممتع والمتجدد
هو النص الذي يصمد أمام قراءات مختلفة لأنه قادر على الإجابة عن أسئلة عديدة و بقدر تقلص الإيحاء في النص بقدر جدبه و أخذه القيمة الإخبارية الوثائقية فحسب
فالنص المتماسك الثري و الممتع هو الذي يحافظ على حياته بعد موت القراءة بل و ينبعث في كل مرة انبعاثا جديدا أي أنه شهرزاد تسكت اليوم لتتكلم غدا و هو زيادة على لذة قراءته لذة حقيقية يمكن أن يثبت أمام امتحان النقد عند مباشرته بالأدوات و المناهج المختلفة فيكون عندئذ كالأرض الخصبة المعطاء تهب لفلاّحها من كل لون و طعم !
لأنه امتلك القدرة على التواصل في قارئه بما فيه من عبقرية تبدو في الخصائص اللغوية و النفسية و الفكرية و الحضارية الشاملة. إن النص الأعظم ذو قواعده الخاصة… و لكن لا تخلقه القواعد الجاهزة !
هناك نوعان من النصوص :
نص ممتلئ و نص أجوف
إن النص الممتلئ هو النص المنبثق عن التجربة و قد أنجزه صاحبه في ضراوة المعاناة التي تركت مناخها الواضح نتيجة لحياة خضراء في جغرافية يابسة و هذا النص الصحيح منحاز بطبيعته إلي القيم الإنسانية الثابتة و هو ذو مدلول منسجم مع سيرة صاحبه زيادة على امتلاكه لناصية الصناعة مثل نصوص طرفة بن العبد و عروة بن الورد و جميل بثينة و مالك بن الريب و أبي نواس و الحلاج و المتنبي و أبي فراس و كذلك نصوص أبي حيان و ابن زيدون و ابن خلدون و جبران و الشابي
أما العصور التي يسمونها بعصور الانحطاط فتحتاج إلي قراءة خاصة ضمن نصوص السيرة الشعبية و الخرافات و الأمثال و كذلك الشعر الشعبي الذي سجل بعضه ابن خلدون نحن مطالبون بتدوينه و بحثه.
أما النص الأجوف فهو النص المنسوخ من إملاء الذاكرة أساسا نتيجة معرفة المتون السابقة و حذق الأدوات الصناعية أساسا بحيث تنمحي فيه حرارة التجربة و بذلك يفتقد إلي الشرعية و هو نص قد يقنعنا بالقدرة على اللغة لكنه لا يأخذنا إلي أسرار التجربة فنكتوي بلظاها كما اكتوى صاحب النص الأصيل الصادق
و هذا النص الأجوف يحتل مساحات شاسعة في تاريخ الأدب العربي خاصة النصوص المدحية و الفخرية على النمط القديم و نصوص العبارات الجاهزة والمتناسلة بالنسخ والتصوير في كثير من الشعر العربي المعاصر..
.
لا يمكن فصل النص– و هو الظاهرة اللغوية– عن سياق الظواهر الأخرى في التاريخ فعندما اكتمل القصيد الجاهلي في إنجاز المعلقات إنما عبر عن اكتمال مؤسسة القبيلة التي هي كنمط القصيدة نفسها متكونة من الأبيات التي تنتهي بالقافية التي تقوم مقام الفرد فلا قصيدة بدون القوافي و لا قبيلة من غير عصبية فالفرد و القبيلة يتفاعلان في المجتمع العربي كما تتفاعل القصيدة بقوافيها و عندما نزل القرآن جاء بنمط آخر للنص حيث كان القران عوضا عن القصيدة و الآية عوضا عن البيت و الوحي عوضا عن الإلهام و الإعجازعوضا عن الفصاحة و بالتالي الأمة بدلا عن القبيلة و النبي بدلا عن الشاعر…
توسع النص العربي عند عهد الرسالة المحمدية و تلاءم مع مرحلة المد العربي و أنتج نصوصا أخرى في شتى المواضيع والأمصار إلى أن انغلق على نفسه حتى صار لا ينفتح إلا بالشروح و هي مرحلة التحجر الفكري من ناحية و الانزواء عن الذات نتيجة غزو اللغة الفارسية و اللغة التركية مع تنامي اللهجات المحلية و ذلك نتيجة لركود الاتصال بين الشرق و الغرب بعد اكتشاف الطرق البحرية التي عزلت المنطقة العربية خارج الحركة العالمية فقد كانت تلك القوافل العربية جسورا للاتصال و منابر للحوار.
منذ منتصف القرن التاسع عشر للميلاد تحركت مفاصل النص العربي عندما ظهرت المطابع و الجرائد و المعاهد التي أزعجت السبات العميق للنص القديم على ضجيج الآلات و أخبار حركات المجتمع و أفكار المعاهد الجديدة فأخذ النص المعاصر ينمو شيئا فشيئا و هو بقدر ما هو حفيد ذلك النص القديم و الأصيل بقدر ما هو نتيجة كذلك لتلاقحه مع النص الغربي و خاصة النص الفرنسي و الأنقليزي مثلما كان النص العربي القديم هاضما لنصوص مجاورة كالسرياني و اليوناني و الهندي و لكن مع فارق أساسي يتمثل في أن النص العربي كان وقتئذ يكتب في ثقافة فاعلة كانت في المقدمة و خالية من عقد النقص أما النص العربي المعاصر فإنه يكتب الآن في ثقافة تابعة و مليئة بالفجوات الانكسارات…
إن النص العربي المعاصر لا يسمي بفصاحة الأشياء الموجودة في البيت العربي و هو عاجز كذلك حتى عن تسمية المحيط الذي يعيش فيه و هذا العجز محبط لعملية كتابة النص ذاته بينما نلاحظ أن النص العربي القديم كان يسمي الخيمة بأدق تفاصيلها و كان يسمي محيطه في أصغر أجزائه من الجمل إلي الصحراء فلقد كان العربي مسيطرا على المكان و الزمان و هما العنصران المتلازمان لبناء حضارة الإنسان و لكن العربي في هذا العصر ليس مسيطرا على مكانه ولا على زمانه…
إن النص العربي الآن أمسى عاجزا عن تسمية المحدود في عالم بات فيه كل شيء لا محدودا
لذلك أضاع العروض توازنه في النص الشعري المعاصر و لذلك فقدت البلاغة مكانتها في النص النثري المعاصر. و تراجع دور الشاعر والأديب والمثقف في المجتمع… بلى لقد قد أفل نجم رجل الفكر و برز رجل التقنية
هل العربي الآن هو العربي الجاهلي أو العباسي أو الفاطمي ؟ و هل علاقته بالمحيط هي نفسها ؟
ثمة رواسب أصيلة مشتركة و لكن حدثت مواصفات جديدة فينا من المستحيل أن نتجاهلها….
ذلك هو النص الذي يتشكل الآن في رحم هذا الهزيع الأخير من الزمن العربي وضمن المشروع الحضاري الإنساني المتأرجح إنه نص لا تكتبه يد واحدة !
بل قد صار يُكتب و ينشر على الأنترنيت فيقرأ في لحظة واحدة في أقاصي العالم و أمست الأميّة أن لا يحسن أحدنا لمس الأزرار العجيبة…
لا شيء كما كان
و لاشيء كما نحب أن يكون
فأي مستقبل يواجهنا ؟
……………………………………………………………………..
عود على بدء
إن الذي نطمح إليه من هذا الكتاب هو التعريف بمساهمة الشعراء التونسيين في القرن العشرين في تجديد الشعر العربي الذي عرف على مدى تاريخه الطويل عدة محطات بارزة كان دائما البحث عن الجديد فيها معبرا عن توق وجنوح إلى الحرية والإضافة.
و لقد دأبت حركات متوالية في تونس على شحذ أقلامها لنحت شعر مختلف عن السابق القديم ومغاير للسائد المنتشر وقد كتبته تحت مُسميّات عديدة لعلها لم تستقر بعد كمصطلحات ثابتة إلى حدود هذه السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين ولا عجب في ذلك فإنجاز النص الإبداعي يسبق اسمه و نقده دائما .
ويظل طموحنا نحو أن تنبري أطراف أخرى لدراسة تلك الحركات حركة حركة حتى نقف على الاختلاف والائتلاف بين منطلقاتها وأهدافها و مقولاتها ومنجزاتها و خصائصها كي نصل بعد ذلك إلى دراسة ممثليها والبارزين فيها والآخرين الذين عايشوها وكتبوا في أفقها أو الذين غايروها وبذلك نكون قد اقتربنا منها وأحطنا بها و أزحنا ما علق بيننا وبينها من ملابسات وحواجز و من بينها حجاب المعاصرة .
فعسى أن يكون هذا العمل دافعا ومُعينا لمزيد من المقاربات في الشعر التونسي الذي يمثل أحد الروافد في خضم الشعر العربي الزاخر بما فيه من تعدد وتنوع لا يعبّران إلا عن ثرائه وإبداعه .
……………………………………………………………………………………
.سُوف عبيد
سُوف عبيد تونسي من مواليد 7 أوت 1952 ببئر الكرمة في
منطقة غمراسن من الجنوب التونسي
تعلم الابتدائي بغمراسن ثم
بالعاصمة تونس التي اِنتقل إليها مع عائلته
واصل تعليمه الثانوي بمعهد الصّادقية ثم بمعهد ابن شرف و تخرّج من كليّة اﻵداب بتونس بأستاذية العربيّة سنة 1976 ثم بشهادة الكفاءة في البحث حول الإمام ابن عرفة سنة 1979 / زاول الشّاعر التدريس في المعاهد الثانوية بعد أدائه واجب الخدمة العسكرية بجيش الطيران كملازم
بدأ سنة 1970 النّشر في الصّحف و المجلات التونسية و العربية و مشاركا في النوادي و الندوات الأدبية و الثقافية
اِنضمّ إلى اتحاد الكتّاب التونسيين سنة 1980 وانـتُخب ثلاث مرات في هيئته المديرة
صدر له
الأرض عطشى 1980ـ–
نوّارة الملح 1984 ـ–
امرأة الفسيفساء 1985 ـ–
صديد الرّوح 1989-
جناح خارج السّرب 1991 ـ–
نبع واحد لضفاف شتّى 1999 ـ–
عمر واحد لا يكفي 2000 ـ–
حارق البحر 2008 ـ–
موقع الشاعر
soufabid.com