جناح داخل القلب جناح خارج السّرب ـ مصطفى الكيلاني

للدكتور مصطفى الكيلاني

لا يخطط سوف عبيد لما يكتب في مجمل نصوصه الشعرية، منذ  قصيدته ـ البدء ـ و مرورا ب  ـ خيول الإفرنج ـ  و ـ اِمرأة الفسيفساء ـ و ـ زمن الأزمنة ـ ، ويتأكد هذا المنحى التجريبي في “جناح خارج السّرب” ، ذلك أنّ اللحظة الطارئة هي سيّدة القرار تغمر الشاعر وتدفعه ببريقها الخاطف  إلى تمثّل فعل الكتابة وإنجازه بعفويّة راهنة لا تستند إلى مسبق فكري أو تفضي إلى نهاية، بل إنّ النص – وإن بدت لحظة سرعان ما تبرق وسرعان ما تنقضي – هو زمن خاصّ يعود بالقارئ إلى بدء يتمرّد فيه الشعر على اللغة المتفاصحة الإقطاعيّة وعلى الحالات المغرقة في “ذات مطلقة” تجرد الأشياء والحركات والتفاصيل في معمّم الصّور والمواقف … فيحتفل سوف عبيد – شأن ـ صالح القرمادي ـ على وجه الخصوص – بالأشياء وتفاصيل الوجود المادي، ينقلها بالتذكر والتّخيّل من الماضي الهالك أو زمن الرواية المباشرة إلى زمن الكتابة الذي هو تاريخ متفرد ينفي المسلّم ويندفع في غمرة المتعدّد الأرضي ب “ذات ناقصة” لا تنشد الكمال المخادع

وتسعى باِستمرار إلى أن تملأ البعض من فراغاتها بما تكتبه شعرا، لا تبحث عن نموذج  بل تكتفي  بالتجريب  دون الحياد عن عشقها للحياة الذي يتكرر في عديد المواطن، وإذا الطفولة والأنوثة والطبيعة والإنسان والموت والقلق والقرف والفرح وغيرها من حالات التوتّر والطمأنينة تتفاعل داخل أبنية نصيّة تتفاوت أحيانا في مستوياتها الإبداعيّة … ولعلّ مردّه إلى أن الشاعر حر يص على إبقاء جميع ما يكتب  يتعلّق ببنات وجدانه حدّ الهوس أحيانا ولا يهمّه إن اِتّهمه ناقد فضوليّ بالتقصير في مراجعة ما يكتب والإقدام على حذف بعض الجمل والألفاظ عند الاِقتضاء …

كأنّ الشاعر في هذا الديوان يختار ـ النصّ البرقية ـ أسلوبا في الكتابة الشعرية ليواصل بذلك نهج نصوص سابقة في الدواوين الأخرى، ويلتزم بالعفويّة مبدأ أول ، فقد تكون الحرية أرحب أفقا في دفق كتابة شعرية مختصرة.

واللاّفت للاِنتباه أكثر من غيره، عند قراءة ـ جناح خارج السّرب ـ  هو إشراق اللغة – في بريق اللحظات الطارئة التي تصاغ شعرا – على هلاك يتهدّد كينونة الشاعر فيحزن حدّ الحزن ، وتكاد أجواء “النّصوص” تغرق في قتام اللحظات الهالكة لولا الحب والطفولة والأنوثة تحيي في النفس بعض الأمل وتنقذ الشاعر من هلاك سكته أبدية، فيتشبث بالقول الشعري والحافة يغرس فيها أظفاره ولا يدع نفسه تنحدر إلى الهوّة حيث الكثافة المرعبة….

وتندفع تجربة الشاعر في الاتجاه المعاكس ل”واقعية” باهتة أثبت تاريخ الإبداع الأدبي والفني الكوني – راهنا – عجزها عن النّفاذ إلى أدقّ الحالات والمشاهد، فيلتجئ إلى “سريالية” ذاتية تسقط الحدود الفاصلة بين الواقع ورؤيا الواقع.

ولا عجب إن بدا واقعنا الرّاهن أكثر غرابة وفظاظة من المشاهد السريالية التي يعجّ بها الديوان، واللاّمعقول فيه هو ذات المعقول، فلا معنى ولا موضوع يحدّدان ولا وجهة …

ولئن تكثفت صور الكينونة المقرفة حدّ الرّعب أحيانا ك ـ لون الدم ـ وـ الرأس المصلي ـ و ـ السّكاكين ـ و ـ أنياب الذّئب ـ  و ـ الدّم الأسود ـ و ـ شفرات الحلاقة ـ  … فإنّ لأمل التذكر حضورا بارزا في عديد المواطن داخل الديوان، يظهر ذلك في “الدّمية” و”حصان الطّين” و”تفتيش” و”السّماء السابعة ” و”ظلال الرّوح” ….

إنّ سماء الديوان متقلبة كذات الشاعر، تتلبّد أحيانا وتنجلي أخرى، وتتصارع فيها حالات وقوى متضادّة… إلاّ أنّ الذي يستقر في الذّهن عند القراءة – بالرغم من “القبر المفتوح” الذي في الديوان – هو حبّ البقاء وأمل التغيير وفرط التعلق بالماضي دون  اِنفصال عن المستقل وعشق الأنوثة والحياة :

شفتاها

جناحان من الورد

جناح داخل القلب

وجناح خارج السّرب

عندما ابتسمت

رفرف ثغرها عاليا

وبعيدا

في سماء القبلات…