منذُ عهد قديم كانت الصِّلات مُستمرّةً وثيقة ببن أهالي الجنوب التونسيّ والعاصمة وهي مُوَثّقَةُ منذ العهد الحفصيّ على الأقل وأخبرني عمّي الأكبر أنه أدرك دكانَ جدّه قُرب جامع الزّيتونة وكان أوّل مَحط رحاله من غمراسن عندما قَدِم إلى تونس العاصمة مع جدّته طفلا وقد كانت رحلتُه على متن عربة وذكر لي عمّي أن أربعةً من الخيل كانت تتبدّل في كل مدينة فسارت بهم بحثيث السّير يومين وليلةً وبتطوّر وسائل النّقل أضحت الرحلة العاديةُ تدوم يوما كاملا أو ليلة بتمامها
كانت العائلة الكبرى تجتمع مع بقيّة الأقارب في الحُوش ليلةَ السّفر لوداع المسافر قُبيل المغرب فيخيّم حُزن ثقيل يحاولون إخفاءه بالدّعاء من حين إلى آخر أن تكون الرّحلةُ سالمة والسّفرةُ ميمونةً وبالعودة كاسبًا غانمًا ويحمل بعضُ المُودّعين السّويق والقديد زادًا للمُسافر والبعض يُسلمه رسالة أو صُرّةً ويُوصيهِ ببعض الأمور فلا بريدٌ ولا هاتفٌ ولا أنترنتٌ في ذلك العهد بباديةِ ـ بئر الكرمة ـ فقد عاش أهله مثل غيرهم من هجرة الرّجال جيلا بعد جيل
عند عودة أحدهم مرّة أو مرّتين في السّنة يجتمع الأقارب في حُوش العائلة المنحوت غارًا بجانب غار في سَفح هَضبة تُطل على أشجار الزّياتين والتّين المغروسة في جَنبات الوادي حيثُ بئر الكرمة فيتربّعُ مُبتهجًا على إهابِ خَروف وحصير ويجلس إلى جانبه أكبرُ رجال العائلة الواحدِ بجانب الآخر بحسب الأعمار وقد تتصدّر المجلسَ الجدّةُ أو العمّةُ العجوزُ إذا كانت أكبر الحاضرين فهي التي تُشرف على توزيع كؤوس الشّاي الأخضر المُنعنع وهي التي تقوم بفتح الحقائب والأكياس وهي التي تُوزّع الهدايا وتُقسّم الحُمص المقليّ حفنةً حفنة على الحاضرين والغائبين وتُقسّم بالقِسط حلوى الشاميّة بينهم ويتنازل عادةً الرّجال عن نصيبهم لفائدتنا ـ نحن الصّبيان ـ فترانا نُبادر إلى الحلوى فنجعل من قراطيسِها أوراقا نقديةً نطويها بعناية ثم ندسّها في جيوبنا
ما أجملَ ذلك الزّمن ـ رغم شَظف عيشه ـ حيثُ عاشت فيه عائلتُنا الكبرى حول بئر الكرمة على الوئام والمحبّة ولكن هيهاتَ ! فقد توالت سنواتُ الجفاف وشحّت ينابيع البئر وتزاحمت فيه الحبال والدّلاء وطال حول حوضه الاِنتظار إلى أن يبست أغصان التّين والزّيتون ووحده النّخل ظلّ أخضرَ شامخًا فنزحنا إلى العاصمة عائلةً تِلوَ عائلةٍ وتَشتّتنا في شوارعها وأحيائها وضواحيها وعندما رحل الكبارُ اِنقطعتِ الصّلاتُ والمودّةُ بيننا شيئا فشيئا حتّى أمسَى البعضُ لا يعرف الآخر بل ونسي أو تناسَى بئرَ الكرمة فَما عادَ يُذكَرُ على الألسنة إلا نادرًا…وَاحَسْرَتَاهُ !!
* سُوف عبيد