كل مقالات سوف عبيد
فطيرة الأربع نجوم
لاعب الورق
غزل الطفولة
سُقيا لِشَوْهاءَ ما هَمّتْ بفاحشَةٍ * غدتْ على الغزلِ، ليستْ تعرِفُ الغزَلا
أَيا شِبهَ لَيلى لا تُراعي فَإِنَّني * لَكِ اليَومَ مِن بَينِ الوُحوشِ صَديقُ
فَعَيناكِ عَيناها وَجيدُكِ جيدُها * سِوى أَنَّ عَظمَ السّاقِ مِنكِ دَقيقُ
وهذا الشاعر المنخّل اليشكري هو أيضا يجد شبها وتوافقا آخر ولكنه مع البعير والناقة ليعبّر عن تمام الانسجام وكماله بينه وبين حبيبته حيق قال :
وأحبُّها وتحبّني * ويُحبّ ناقتها بعيري
قيس بن الملوّح يستحضر هو أيضا زمن طفولته مع حبيبته ليلى وهما يرعيان صغار الغنم فيقول :
تمثّل الطفولة الصّفاء والنّقاوة والبياض الذي لم تَشُبه شائبة والعاطفة فيه صادقة تنأى عن هواجس الغرائز وحسابات المصالح وقد صوّر الشابي الطفولة فاِعتبرها حلما لذيذا مرفرفا وذلك في أسلوب صيغة التعجّب الذي يرشح بمعاني المحبّة والاِشتياق المَشُوبة بشيء من الحسرة على اِنقضاء عهدها حيث يقول :
للّه ما أحلى الطفولة إنّها حلم الحياة
عـهد كمعسول الرّؤى ما بين أجنحة السُّبات
وعذوبة الطفولة لدى الشّابي جعلته يفتتح بها ـ معلّقته ـ صلوات في هيكل الحب ـ إذ يستهلّها قائلا :
عذبة أنت كالطفولة كالأحلام كاللّحن كالصّباح الجديد
أمّا الشّاعر التونسي ـ حاتم حمّادي ـ وهو من آخر حبّات العنقود في مدوّنة الشعر التونسي فقد نشر أخيرا قصيدا جديدا عاد فيه هو أيضا إلى ألعاب الطفولة خاصّة منها لعبة الغمّيضة لينال قبلة من حبيبته جائزة له بعد عناء البحث والفوز بالرّهان فهذه اللعبة البريئة والمسليّة تُعتبر أكثر صدقا وأبلغ حميميّة من طقوس الحبّ الرّسمية الخاضعة للبروتكولات
قصيدة ـ الغُمَّيْضَةُ ـ للشاعر ـ حاتم حمّادي ـ تونس
وائل
وائــــــل
على شَوكةِ الاِنتظار وَقفـتُ * مَـع الواقفينَ وبيـنَ الوُفودِ
وفِي قَلق أشْرئِبُّ بعَـيــنـِي * تُرى هل سَألقاهُ حَقّا حفيدي
تُرى هل كمِثل التّصاوير حُسْنًا * أبِي قَدْ رأيتُ ،وفيهِ جُدودي
وفــيهِ بَهــاءُ زيــــــادٍ صَبيّـــا * ببسمتِه تلكَ، تُحْـيِــي عهودي
فيا طائرًا في أعَالي الجِــواء * تَمهّلْ وحاذرْ ففِيكَ وليــــدي
ورَفْرفْ بلطفٍ وحُثُّ الجناحَ * على عجَل رغمَ ريش الحَديـد
وبعـــد اِنتظار أطلّ حفيـدي * فهَشَّ وبَـشَّ بوجه سَــعــيــدِ
إليَّ حبيبي! أشــرْتُ إليــــه * فَهَبّ لِحِضْني كطيـــر غَريـــدِ
وحَطَّ على ساعدي مِثْلَ بَاز * على أيْكهِ قـــادمٍ مِن بعـــيـدِ
فكم مِنْ جبالٍ وبحرٍ تَخطّى *وكم مِن رياحٍ ،وكمْ مِن رُعــود
وعانقتُهُ، كدْتُ أقسُــو عليـهِ * بِضَمٍّ ولثْمٍ وطــوْقٍ شَـــديــد
بشوق أقبّلهُ من يَــــديْــــه * تجُولان في لحيتي كـــالــوُرودِ
يُعابثُ نظّارتي في سُــرور * فِداهُ بعيني، وهَــل مِنْ مَــزيـدِ
يُكفْكِفُ لي دَمعتي ما دَراهُ * بأشجانِها أبحَرتْ في القَـصيـد
فباركْ ليَ اللهُ فيه وأسْعِـدْ * وحَمدًا إلاهِي فَذا يَــومُ عِـيـدي
الخمسون
هَــــــلْ لِــمَا فـَــاتَ مَـــــآبُ؟ * عَـبَـثًـــا يُـرْجَــى اَلسَّــــرَابُ!
هَـــذِهِ اَلْخَمْــسُونَ تُــطْــــوَى * مِـثـْــلَـمَا يُـــطْـــوَى الكتـَـابُ
صَـفـَـــحَـاتُ…ذِكْرَيـَــــــــاتٌ * قـَـــدْ تـَــوَالَــتْ وَ اِنْـسِيَـــاب
قَـدْ حَسِـبْـــتُ اَلْعُمْــرَ عَــــدًّا * فَــاِنْتَــهَى صِــفْـرَا حِسَــــابُ
أَيْــــنَ مِــنْ سَــبْقٍ خُـيُــولِـي * إِذْ تَـهَــــادَتْ وَاَلـــرِّكــــــابُ
عِـــنْـدَ أَعْـــرَاسِ اَلْــبَـــوَادِي * وَقَــــدِ اِخْضَرّتْ هِضَـــــــابُ
تـِــلْــكَ أُمِّــي تَـــتَــجَــلَّــى * حـُــــوشُــــنَا ذَاكَ رِحــــــابُ
جَــــــــدّتِي كَــانَتْ هـُــنَــاك * وَ حـِــــكَايـَـــاتٌ عِــــــذَابُ
وَ أَبِـــي عِنـْــدَ المُـــصَــلـَّى * وَ دُعـَــــــاءٌ مـُــسْتَـــجَابُ !
كَــــمْ بِصْــــيْدٍ قَــدْ ظَفِرْنَـا * وَ يَـــمَـــامَـــاتُ كـِــــعَــابُ
خـُـــذْ سـِــلَاحِـي يَــا بُـنــيَّ * ثـُـمّ يَــمْضِي…وَاِغْـتِــــرَابُ
زَمَــــــنٌ ذاكَ تَـــــوَلَّــــى * إنـّــــمَا اَلْآتِـــــي ضَــبَـــابُ
فـَـمَشَــيْتُ اَلْعُمـرَ وَحْـــدِي * فِــي الْمَدَى حُلْمِي شِهَـــابُ
لَـــدْغَةُ اَلْأَفْـــعَى بِــلَـيْـــــلٍ * وَ بِــلَيْــلٍ كَـــــمْ كـِــــــلَابُ
قَـــدْ أَحَاطَتْ بِاَلْـفَـتَـى..يــا * مِــــزَقًــــا صَــارَتْ ثـِـيـَـابُ
آهِ مِــنْ دَرْسٍ لِـــجَــبْــــــرٍ * كَــيْـف يَـأْتِـيـنِـي اَلْـجَــوَابُ
أَحْـــمَدُ الـــلَّـــه نَـجَـحْـــتُ * وَنــجَـا ذَاكَ اَلْـــمُـــصَـــابُ
إِنَّـــــمَا خَـــــطِّــــي رَدِيءٌ * عَــــبَـــثًا كَــانَ اِجْــتِــنَـابُ
كَــــــــمْ أَكُــفًّا قَــدْ مَدَدْنا * لِـــلْعَـصَـــا، هَانَ اَلْـعِقَـابُ
يـَــا عَــصـَـا رُدِّي صِبَـانـــا * أَيْــــنَــهُم رَاحُــــوا تِـرَابُ
يـَــا صَدِيـقِي لَا تَــلُمْــنِـي * إِنَّــمَا اَلـــذِّكْـرَى اِكْـتِـئَـابُ
رُبَّ ذِئْــــبٍ قَــــدْ دَعَــاهُ * اِنْـــــتِـــزَاحٌ أَوْ خَــــــرَابُ
صَـــــارَ أُنْــــسًا أَوْ رَفِــيقًا * لَـيْـــسَ مِنْــــهُ اَلْمُسْتَرَابُ
لَا كَـمَنْ قـُـلْتُ صَــــدِيقِي * وَ هْـــوَ فِي اَلظَّهْرِ حِـرَابُ
سـَـلَّـهَا لِلـطَّـعْـنِ يَـــوْمًـا * وَ اِنْـزَوَى عَنِّي اَلصِّــحَـابُ!
كَــاَلنَّـعَامَـاتِ وَ دَسَّـــــتْ * رَأْسَـــهَا أَخْــفَـى اَلــتُّرَابُ
كـَــــمْ زَرَعْتُ اَلْوَرْدَ فِيهِـمْ * فَــــإِذَا اَلشَّـــــوْكُ ثَــوَابُ
مِـــنْ لَــئِيــمِ أَوْ حَــسُـودٍ * ذَاكَ نَــــــمَّـــامٌ وَ نَــــابُ
أَوْ طَــــوَاوِيـــسُ تباهَـــتْ * فَـهْيَ زَيْــــفٌ أَوْ سِـبَــابُ
فـَــاِنْــبِطَـــاحٌ وَ اِرْتِـــمَاءٌ * وَالتواءٌ واِنقِــــــــــــــلابٌ
هَــمُّــهَا لَحْسُ اَلصُّــحُـونِ * قـَـــدْ سَــرَى مِنْهَا اَلْلُّعَابُ
تَـمْـــسَحُ اَلْأَعْتَــابَ لَحْسًـا! * تـَــنْحَنِــي، هـَـانَــتْ رِقابُ
قـَــلَبَتْ لَــوْنَ اَلْـقَـــمِيـصِ * فَـبِــفِـلـسٍ تـُــسْــتَـطَـابُ
عُـــمْلَـــةُ اَلـزَّيْـفِ وَ عَمَّـتْ * فَــــعَـــلَا اَلْـحـَـقَّ اَلْحُبَـابُ
بـِــيعَـــتِ اَلْأَوْطَــانُ…بَخْسًا * وَيْــحَنَا…! حَتّـــى اَلْإِهَــابُ
كَمْ شُـعُـوبٍ قَـــدْ أُبِــيـدَتْ * رُبَّـــــمَا نَــــحْنُ نُــصَـابُ !
لَا…هُــــمُ اَلْأَحْرَارُ هَـــبُّـوا * وَ بِـــهِـــمْ سَــالَتْ شِعَـابُ
مِـــنْ شَـــمَالٍ وَ جَـنُــوبٍ * مَـــــــــدَدٌ ذَاكَ رِحَـــــــابُ
قَــــــدْ تَــصَـــدُّوا لِــلْعُـدَاةِ * وَبِــــعَـــزْمٍ قَــــدْ أَجَـابُـوا
صَــــوْتُــهُمْ صَـوْتٌ يُـــدَوِّي * فَـــــإِذَا شَــــــدُّوا أَصَابُـوا
مِــــــنْ قَــدِيمٍ يَـا بِــلَادِي * حـُــــبُّــنَا فِـــيــكِ اَلْمُـذَابُ
وَ كَـــزَيْــتُــونٍ وَ نَــخْـــــلٍ * أَخْـــــضَرٌ دَوْمًــــا عُــبَــابُ
مَا اِنْــــحَــنَــى يَـوْمًا لـِريحٍ * لا رُعُــــودٌ لا سَـــــحَـــابُ
شَــــامِخٌ اَلـــرَّأْسِ أَبِــــيٌّ، * لَا بِـكِبْـــــرٍ ، بـَــلْ مُـهَـابُ
ثَــــابِـــتُ اَلْأَصْـــلِ وَفِـــيٌّ * مُـــــزْهِرُ اَلْقَــلْبِ شَـبَــابُ
لَا جِــــرَاحٌ أَوْ رِمَـــــــــاحٌ * طَاعِـنـَـــــاتٌ أَوْ صِعَــــابُ
مَــــا نَــــفَتْ عَنْهُ اَلْعَــطَاءَ * وَ لَئِـــــنْ سَــادَ اَلْـيَــبَــابُ
فَــــهْـــوَ لِلْأَحْبَابَ رِفْـــــدٌ * لَـيْـسَ يُــبْــقِـيـهِ اِحْتِـسَابُ
إِنَّـــمَا اَلْــــحُبُّ سَجَايـَــــا * لَا عَــــطَايَا وَ اِكْتِسَـــابُ!
كاتب في التسعين
لست أدري أين قرأت قول أحد خلفاء بني أميّ ولعله معاوية اِبن أبي سفيان ـ ما شيّبني إلا اِنتظار المواعيد ـ فغفر الله لكل الذين بقيت أنتظرهم في مناسبات عديدة وعندما يصلون متأخرين يجدون كلّ الأعذار فأبقى متحسّرا على هدر وقتي فمن النادر جدّا الالتزام بالمواعيد لدينا معشر التونسيين إلا بعض اِستثناءات نادرة تشفي غليلي وآخرها ما كان مع الصّديق الأديب مصطفى يحي الذي وصل إلى الموعد قبل ساعة أو أكثر وذلك بمناسبة الاِحتفاء به في نادي الأدب بجمعية اِبن عرفة الذي تديره الأديبة سُونيا عبد اللطيف وأظنه تفاجأ عندما وجدني في اِنتظاره لعله اِعتاد مثلي الاِنتظار في المواعيد
باسمًا طَلقَ المُحيّا يصعد المدارج نشيطًا أنيقَا في كسوته الرّمادية فتراه ممشوقًا كرُمح كأنه في العشرين وهو في عقد التاسع فما شاء الله تبارك الله ومتّعه بالصّحة والعافية صديقي القادم في تلك القيلولة من مدينة قابس على مسافة أربع مائة كيلومتر من العاصمة تونس
الأديب مصطفى يحي بدأ الكتابة الأدبية بعد أن تجاوز الستين عاما وهذه مسألة مهمّة للغاية لأنه يؤكد أن الولوج إلى عالم الأدب لا يمكن أن نحدّه بسنّ معيّنة فهو متاح لكل من يروم معانقة الحرف والكلمة أما المسألة الثانية التي نعتبرها من صديقنا أبي جمال فإنها تؤكد أيضا أنّ الشهادة العلمية ليست ضرورية ولا كافية أيضا ولا شافعة كذلك لكسب صفة الأديب ذلك أن مصطفى يحي لم ينل حظه من التحصيل المدرسي إلا سنوات قليلة من التعليم الاِبتدائي وسبقه الجلوس إلى المؤدّب في الكتّاب ولكنه ثابر على التحصيل والمطالعة بعدهما فقد تمكّن من قواعد اللغة العربية والفرنسية عن كثب وحذق أسرارهما فكتب الشّعر والقصة بفصاحة الجاحظ وفُولتير معا لذلك فقد حلّق في سماء الأدب بجناحين معًا وقد زادته تجربته الطويلة والمتنوعة في الحياة من الاِستفادة من معاناته في الحياة فهو من مواليد سنة 1935 بقابس التي تجمع بين الواحة والبحر والصحراء وقد عمل سنوات في سلك الأمن الوطني إبّان السنوات الأولى من الاِستقلال وكان من المتطوعين في حرب بنزرت سنة 1961 ثم هاجر إلى فرنسا وعاش هناك سنوات طويلة متقلّبا في أطوار مختلفة فكل هذه المراحل أفادته في مواضيع كتبه باِعتبارها منهلا لا ينضب وقد أوجزت الأديبة سُونيا عبد اللطيف مسيرته في هذه الفقرة قائلة عند تقديمه :
أوّل كتاب له هو “ذكريات من المستقبل” سنة 2001 وهو مجموعة شعري) مزدوجة بين العربية والفرنسي، عبّر فيها عن اِنبهاره بمدينة الأنوار باريس.. وحنينه للوطن
المجموعة الشعرية الثانية “شظايا” 2007 بالعربية رثا في قصائده مآسي الأمة العربية…
في سنة 2008 فاجأ ابو جمال الساحة الثقافية بإصداره للجزء الأول من سيرته الروائية بالفرنسية passent les jours.. وتحدث فيه عن حرب بنزرت والمجزرة التي حصلت.. ولم يكشفها التاريخ..
و ـ الأمل لا يموت ـ هو عنوان مجموعته الشعرية الثالثة سنة 2009 وهي قصائد مزدوجة بين اللغتين..
في سنة 2013 أصدر روايته “لظى بنزرت” التي هي ترجمة للجزء الأوّل من من سيرته الذاتية passent les jourS فيها فضح المستور وعرّى المطمور..
في سنة 2015 أصدر مجموعته القصصية الأولى “أخشى النسيان” وهي مزيج بين الواقع والخيال، ومن خلالها نلاحظ فيها اِسترجاعا للذكريات واِستحضارها وكأنه يعيش على حنينها… وكأنه يتعجّل تدوينها خشية التلف والضياع…
ونشطت الذاكرة بعد الاضطراب فأتت المجموعة القصصية الثانية ـ قطوف الخريف ـ سنة 2018 وهي مزيج بين الماضي والحاضر.. وكان الأهداء فيها لروح زوجته التي فارقته..
وخريف أبو جمال ليس ذلك العراء وذلك الذبول بل هو بداية موسم جديد.. بداية دورة الحياة…
وكانت المجموعة القصصية الثالثة “حين يزهر الخريف ” وهو الكتاب التاسع في حصيلته..
(خريف أبو جمال خصب ومازالت أشجاره تزهر …
والأديب مصطفى يجي أبو جمال متيّم بمدينته قابس الفيحاء وعاشق لواحتها التي قضّى فيها طفولته وتمتع بجمالها وصفائها قبل أن تصاب الواحة والمدينة بالتلوّث وقد كتب قصيدة بديعة يتغنى فيها بالواحة والنخلة مستحضرا فيها سنواته العذبة في أرجائها ومتحسّرا على ماضيها بما كان فيه من هدوء ومرح وهناء ثم في آخر القصيدة يُبدي غضبه ونقمته على ما آلت إليه تلك الربوع حيث نالت منها أيدي العبث بالطبيعة نتيجة لطغيان المادة والجشع… وله قصائد أخرى من بينها قصيدة ـ شموخ ـ وقد رسم فيها مبادئه في الحياة لكأنها دستوره الخاص أو كأنها خلاصة حياته حيث يقول:
لا وجه منيّتي أخشاه
لا طول حياتي يغويني
*
في عقدي التاسع هذا
لا شيء عاد يغريني
*
ما المال كان مرادي
فنزر النزر يكفيني
*
شربت الحب أكوابا
من ذابلات الجفون
*
بعزم ذدت عن وطني
ما مال للغازي جبيني
*
وللتمجيد ما سعت قدمي
ولا فخم القصور يعنيني
*
فصديقة في الود صادقة
عن كل الغواني تغنيني
*
وخلّ إذا العواصف هبّت
هبّ في الحين يحميني
ومن قصائد أبي جمال بالفرنسية هذه القصيدة التي يمجّد فيها الرّفق بالحيوانات وهي لعَمري أرقى درجات الإنسانية التي تتجاوز الإنسان إلى الحيوان والطبيعة جمعاء حيث يقول:
MES AMIS LES ANIMAUX
Jamais je ne monte un cheval
Ni le faire courir à en crever
Jamais je ne chasse un animal
Ni priver un oiseau de liberté
Je ne tue point vipère ni crotale
Si je ne suis en grand danger
Le lion, le loup ou le chacal
Ne chassent que par nécessité
Le superbe tigre du Bengale
Ne traque le cerf que pour manger
La viande je mange car c’est vital
Mais n’use jamais de cruauté
Le toréro ce sanguinaire médiéval
Torture la bête pour des « Olé »
ومن مآثر أقوال صديقنا الأديب مصطفى يحي وهو في عقده التاسع ما يلي:
الصّبا له أريجه وكذلك المراهقة والشباب والكهولة أما الشيخوخة فهي داء لا دواء له. شخصيا أمقتها ولكني أجاريها ولا أجد لها أيّ طعم بل طعمها ترياق وحنظل نرى الشهد ولا نستطيع أكله ونرى الورد ولا نستطيع قطفة ويرانا الجمال فيفرّ هاربا من أمامنا.
هذه تحية لأديب تونسي أعتبره مثالا في العطاء وتقديرا له على مسيرته الجديرة بالدراسة متمنيا له المزيد من الإبداع في كنف الصحة والعافية وطول العمر
لا تحسب عُمرك بالسّنوات وإنما بالذكريات ولا تحسب ثروتك بالمال بل بالأصدقاء كما يقول المثل السويدي
***
سُوف عبيد ـ تونس
مع أصدقاء مدينة المهدية
شكري بالعيد شاعر أيضا
شُكري بلعيد…شاعرٌ أيضًا
– 1 –
شَاربٌ كثيفٌ أسودُ وبجانبه على اليمين شامةٌ سوداءُ على بياض ,ذلك ما تراه على غلاف ديوان الشّهيد شكري بلعيد وما الشّارب والشّامة إلا سِمتان تمتاز بهما ملامح الشهيد الذي ـ ولئن عُرف مناضلا وطنيا بارزا ـ فهو لم يُعرف شاعرًا بين الأدباء والشّعراء خاصة لكنّني عندما قرأت ديوانه – أشعار نقشتها الريح على أبواب تونس السبعة – تبيّن لي أنّ النصوص الشعرية الواردة ضمنه تمثّل شاعرا من الطّراز الرّفيع فهي تؤكّد أنّها صادرةٌ من لَدُن مُهجةٍ كثيفةِ الشّجون ومُعبِّرةٍ عن مُعاناةٍ صادقةِ التجربة وهي قصائد لُحمتُها وسَداها من نَسْج ثقافةٍ عميقة وشاملة جعلت تلك القصائدَ ذاتَ أبعاد وآفاق مشحونةٍ بشواهدَ ودَلالاتٍ ذاتية واِجتماعية وتاريخية ناهيكَ عن قيمتها الأدبية فنقرأ مثل :
وجهك والريح في ما تقول الفصول
وجهك خيل المرايا
وامرأة عابرة
وجهك الآن ما خلفته الخبول
وما تركه الفاتحون على الأرض من دعوات
ومن أمنيات
وما شكلته الخفايا
إذن سوف تمضي وحيدا
إلى راية قاتلة ـ ص 58
أو كقوله أيضا :
إنّي الحلاج
هاكي الجبة فاللّه هنا يسكن فانوس الروح بأتعابي
هاكي الجبة واحتضني مسكن أيامي وعذابي
إني الحلاج
صبحي أقبل
يا امرأة من نيروز ومن شبق الذكرى
من خلجات المطلق حبن نساء الأرض تخون
فأنا المجنون
يا امرأة يخرجها الله من ضلعي أتيهُ بها في ليل الغربة
وأنادي
يا امرأة الطير، هنا حُلّي في جسدي المسجون
وانفجري كالكلمات الحبلى
بنشيجي المخزون –ص54
-2-
كان من المُنتظر أن نقرأ شِعرا معناه في ظاهر لفظه ويَغلِب فيه الخطاب الإديولوجي ويطفُو عليه المنحى السياسي المِنْبري على النّواحي الفنية الجمالية فالشاعر مناضل عتيد وملتزم إلى النخاع بالقضايا الوطنية التونسية والقومية العربية في أبعادها الإنسانية ولكن ما نكاد نمضي في القراءة قصيدا تلو قصيد حتى ترتسم لدينا ملامح شاعر مُقتدر يمتلك ناصية القول الشعري فيرسل المعاني صُورا صورا فإذا المجازات والتضمينات والإلماحات تتوالى في إيقاعات متنوعة حتى تستحيل شعرا بديعا بما فيه من وهج الصدق والمعاناة وبما في أبعاده من انتصار لقيم المحبة والبذل فيبدو الكون الشعري لدى شكري بلعيد كونا قَدَّهُ من ملكوت شعريّ ذي بصمات خاصة قد اكتسبها ولا شك من اطلاعه على مدونات القدامى الشعرية ونتلمّس في بعض نصوصه صدى معاصريه من الشّعراء ولا عجب في ذلك فالإضافة لا تأتي من فراغ والإبداع لا يتسنّى إلا لمن كان مُطلعا على منجزات معاصريه.
-3-
من الخصائص الدالة على القيمة الفنية لقصائد شكري بلعيد ذلك الانصهار الذي تمكّن به من المزاوجة بين الشّجن الذاتي الحميمي وبين الهاجس الاجتماعي العام كقوله :
حين أنهض في غيبتي
أرسم عمري على راحتيك
وأمضي قليلا
لقطف الندى
ثم أكتب سيرة عشقي
على نهدك
والعيون مدى
وأشد إلي البلاد وأصرخ
يا طير
يا بحر
يا نهر
يا حجر الموج يا فتنة الفجر
يا لون زهر المنافي
ويا كبرياء الأنوثة –ص55
وهو حتى عندما يعبر عن مواقفه النضالية فإنه لا يصرّح بها بإفصاح صارخ كما تُكتب الخُطب والبيانات وإنما يجعلها في صياغة فنية وبأسلوب فيه الكثير من الإيحاء كقوله :
رفاقي نشيدي الأخير
جنون حبهم للبلاد التي وزعوا نارها بينهم
ثم مالوا على جفنها.واستباحوا بريق عيونهم
وردة لانبلاج الصباح
نسجوا من الدم المتوحد
أغنية الرفض والعاشقين
ملء هذي الأرض نحن
ملء هذا العمر نحن
ملء كل الحب
شحذنا الروح من أزل
وقلنا وحدنا الباقون –ص147
ـ 4 ـ
إن قصائد مثل – القرمطي ـ اِنبلاج الجسد الفلسطيني ـ للحبّ طقوس فلترحل هذه الدنيا – أعتبرها منجزات إبداعية تمكّن فيها الشاعر من الموازنة بين المنحَى الفكري والسياسي وبين الوشائج الذاتية العميقة وما كان ليصل إلى هذا المستوى من القدرة لولا تمكنّه من تجاوز الكثير من الاِختلافات الفكرية وجعلها منسجمةً في أطروحة جديدة جعَلها كسنفونية لا يمكن عزفها إلا باِنسجام عديد الآلات الموسيقية المتنوعة…تلك هي القناعة التي توصّل إليها وعيُ الثلث الأخير من القرن العشرين والمتمثّلة في ضرورة تجاوز مقولات الإديولوجيات الجاهزة لأن الممارسة والتجارب أثبتت فشلها في شتّى نواحي العالم وليس أمام البلدان العربية خاصة إلا أن تجد الحلقة المفقودة بين تراثها وواقعها من ناحية وبين تحديات العصر وآفاق المستقبل من ناحية أخرى وإنّ قصائد مثل ـ رسائل بغداد ـ أو ـ نشيد الخيول ـ أو ـ القرمطي ـ تؤكّد أنّ شكري بلعيد شاعر اِكتسب أسلوبا خاصا به يتميّز بقاموس جَزْل المفردات أي التي فيها قوّة ووضوح وبنصاعة المعاني في غير مباشرتيّة عارية وبمعمار قائم على إيقاعات متنوّعة وثمّة قصائد أخرى مثل ـ حلم ـ أو ـ لوحة ـ أو ـ طاولة المقهى ـ أو ـ وحدي ـ أو ـ إليّ ـ نلاحظ فيها محاولات البحث والتجديد في مواضيع التفاصيل الصغيرة كما ترسم بعض الظلال من سيرته الشخصية فحضور بغداد مثلا واضح المعالم وهي قصائد وردت في شجن عميق وبأشكال فنيّة قائمة على مخالفة النّمطية وبنهايات مفاجئة فشكري بلعيد شاعر واع بمسارات القصيدة العربية الحديثة ولا شكّ ,وقد كانت قصائده شاهدة أيضا على قناعاته فقد سار على منهاجها في حياته التي كانت ثمنًا لنضاله من أجلها فهو من هذه الناحية أحد الشّعراء الذين لا يجود بهم التاريخ إلا نادرًا وإنّ شاعريته الفيّاضة بمحبة الأوطان والقيم الخالدة للإنسان تلك الشّاعرية من رقّتها ولطفها وشفافيتها لامست أحيانا تخوم حالة من التصوّف في مقولة وحدة الوجود وذلك في قصيدة ـ إله ـ
واقفٌ في مَخرج الرّوح
لم يعتلّني القديم
يا رياحَ البنفسج لا تَنسيْني
بلّغي مُهرة الرّوح كلّ الجنون
سمّيني عندها بالفتى
والمدى
والحنين
ولِدِيني ثانيةً
كي يستطيع النّهارُ اِبلاع صدايْ
أنا واحدٌ في رؤايْ
عَدّدتني المراحل ثمّ هوتْ
فتَشكّلَ ثانيةً من دمايْ
ولدٌ ملأ البحر في كفّه
ومضى يُنشد انْ
لا إلهَ سِوايْ ـ ص 16
ثمّة كلمةٌ كثيرا ما تتواتر في قصائد شكري بلعيد وفي سياقات مختلفة ألا وهي ـ الدّم ـ باِعتبارها الرّمز للتضحية والفداء ولقد تحقّق له ما خطّه من نبوءته ذات صباح كأنه كان معها على موعد حيث ورد في قصيد ـ نشيد الخيول ـ مثلا :
فلتترجّلْ كل الوُعول التي أعلنت موتنا ذات فجر
فالخيول
في اِشتباك الفصول أخرجت لونها
واِحتفت بضجيج الصباح
هذا وجه الرّقفيق الأبيّ
هذا دمع الصبيّة حين يفارقها العاشقون
هذه أمّنا المتعبة تلوّح بالفجر بين يديها
وتعلن للذاهبين
دم للمرايا
دم للزوايا
دم للجسد
اِستعدْ
يا رفيق الكفاح اِستعدْ
والبلاد على دَمِنا أجمعت عشقها
ـ 5 ـ
ختامًا لابدّ من إسداء الشّكر الجزيل للجهود التي أخرجت لنا هذه المدوّنة الشعرية فهي مرجع ينير جوانب أخرى من مسيرة الشّهيد شكري بلعيد بما في بعض القصائد من شواهد وإحالات وغيرها من الإشارات وإنّ هذه المدوّنة الشعريّة ذات قيمة إبداعية كبيرة فهي إضافة متميّزة للشّعر التونسي والعربي لذلك يجب اِعتيار شكري بلعيد ـ أيضا ـ ضمن الشّعراء التونسيين والعرب المعاصرين الكبار وقصائده البديعة شاهدة على ذلك.
غير أنّه كان من الأحسن لو أنّ الدّيوان ضمّ النصوص الشّعرية كلّها متواليةً حسب تاريخها قدر الإمكان وخاصة من دون حَجب البعض منها ورقابةٍ عليها بِتِعِلّةٍ أو لأخرى وبدون إضافة عناوين للقصائد التي ليس لها عناوين في الأصل وبدون جعلها في أقسام ثلاثة ذات عناوين ليست من اِختيار الشّاعر وبذلك يتسنّى لنا قراءتُها مثلما تركها صاحبُها بلا زيادة ولا نُقصان ولعلّ الطبعة الثانية يمكن أن تضمّ ما بقي من القصائد وتتلافى ما أشرنا إليه فالشّكر لأُولِي العزم مُسْبقًا.
إنّ ما دفعني إلى تسجيل هذه الملاحظة هو ما وقع لديوان الشّابي ـ أغاني الحياة ـ الذي لم يصدر ـ إلى اليوم ـ مثلما اِختار الشابي قصائده ورتّبها وعَنونها ففي كل مرة يصدر بإضافةٍ أو نقصان وكان من الأجدر أن يصدر الدّيوان كما أراده صاحبه ثم يُضاف إليه في مُلحق خاص القصائد الأخرى وللقارئ والدارس أن ينظر وأن يُمحّص النظر بعد ذلك من دون وكيل أو رقيب أو حسيب وعسى أن يكون لنا في ذلك عبرة.
برادس في 3 فيفري 2019
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جبل القرنين
جبل القرنين
سُوف عبيد
ــ 1 ــ
صديقي الشاعر معمّر الماجري هو ثالث الثلاثة من الأصدقاء المتيّمين بمحبّة مدينة حمام الأنف مع الأديب جلال المخ والشاعر عبد الحكيم زريّر هذه الضاحية التي كتب عنها ـ بالإضافة إليهم ـ عديد الأدباء من بينهم علي الدوعاجي في إحدى قصصه والشاعر مصطفى خريّف في قصيده ـ بين جبل وبحر ـ وذكرها الأديب عزالدين المدني عند سرد ذكريات طفولته عندما لجأ إليها مع عائلته إبّان الحرب العالمية الثانية التي كتب عن إحدى وقائعها في مدينة حمام الأنف الشاعر مصطفى المؤدب وللشاعر عبد الرحمان الكبلوطي قصيدة فيها أيضا وقد ذكرها كذلك الأديب ميخائيل نعيمة في إحدى رسائله على إثر زيارته لتونس سنة 1961
ــ 2 ـــ
دعاني الصديق الشاعر معمّر الماجري في يوم رائق معتدل بعد أيام قرّ شديد إلى زيارة هذه الضاحية فكانت مناسبة لزيارة قبر جدّي رحمه الله في المقبرة القديمة ثم صعدنا الهُوينا عبر دروب جبل بوقرنين حيث كان صديقي يحدّثني بحنين عن ذكريات طفولته في محتلف الأحياء والشّعاب فكان ـ سي معمّر ـ محلّ ترحاب حيث ما مررنا أو جلسنا كيف لا وهو الذي عاشر مختلف أصناف أناسها جيلا بعد جيل عن قرب وعلى مدى سنوات فعرفهم وعرفوه في عديد الظروف وله معهم حكايات طريفة وعجيبة أحيانا
يوم كأنه من أيام الرّبيع ظفرنا به في عزّ أيام الشتاء الباردة والممطرة فلاحت الأشجار خضراء يانعة لامعة بقطرات المطر المتبقّية على أوراقها تحت الشمس الدافئة فكان كلما مررنا بشجرة ذكر لي اِسمها وخصائصها وأوجه الاِستفادة منها لكأنه خبير بها …كيف لا وقد كانت هذه الفجاج والشعاب والأودية مسرحا لألعاب طفولته مع أتراب حيّه بين كرّ وفرّ وبين سهر وسمر
عندما بلغنا منبسطا من إحدى الشعاب توقف وحدثني أن هذا المنبسط كان في السنين الخوالي منتزها في فصل الربيع لعائلات ـ حيّ الملاسين ـ فترى الجميع في سرور وحبور مجتمعين حلقات حلقات طاعمين مع بعضهم شاربين كؤوس الشاي والأطفال في لهوهم وألعابهم بين الأشجار فرحون فيا لها من ذكريات ممتعة اِسترجعها بحنين صديقي الذي كلّما مررنا بأحدٍ أو جماعةٍ توقّف ليسلّم عليهم فيستقبلونه بحرارة ومودة وتقدير إذْ عاد إليهم بعد غياب مثلما عاد إلى مرابع طفولته في وهاد جبل بوقرنين الذي يعرفه شجرة شجرة ونبتة نبتة من العرعار والكالتوس بالإضافة إلى الصّنوبر الذي كان يقطف منه حبّات الزّقوقو
ــ 3 ــ
كم حدّثني صديقي عن ولعه بجمع باقات زهرة السّكلمان ـ بخور مريم ـ الجميلة والنادرة الوجود والتي يختصّ بها جبل بوقرنين وكان يشير من حين لأخر إلى أصناف عديدة أخرى كالإكليل والزعتر والصبّار وإلى نبتة ( صبّاط الغول )التي كان يلُفّ بها باقة السّكلمان لتحفظها وتزيدها جمالا
ومن النباتات الجبلية الأخرى التي أرانيها صديقي نبتة القيز وأعلمني أنّ نبتة البُصّيلة هي غذاء للخنزير يستخرجها من تحت الأرض وقد صادفتنا يومئذ آثار سيره أمّا نبتة التّيفاف فهي طعام لذيذ للحيوانات العاشبة يشاركها الإنسان أيضا في أكلها وقد قيل في المثل الشعبيّ ( آش يكفي الجمل م التّيفاف ) وحين تطلّ طلائع الرّبيع بأيّامه الأولى يكتسي الجبل بحلّته المزركشة التي فيها صفرة (القْرّيسة ) وحمرة الأقحوان فيلوح جبل بوقرنين بديعا للناظرين
صعدنا رويدا رويدا حتى أشرفنا على زرقة الخليج المقابلة للاِخضرار تحت زُرقة السماء فيا لها من متعة رائقة إذ يحفّ بنا النّسيم كأنه أجنجة نرفرف بنا في خضمّ هذه الطبيعة البديعة في تونس الجميلة في كل ناحية من نواحيها حيث ما كنتَ أو اِتّجهتَ ولكنّنا لم نقدّرها حقّ قدرها مع الأسف فحينما بلغنا الربوة المطلّة على مدينة حمّام الأنف بدا لنا ـ البُرج الأخضر ـ في حالة دون ما يجب أن يكون لأنه كان في السنين الخوالي مَعلما سياحيا متميّزا أمّا عن ـ الكازينو ـ
وكذلك ـ قصر الباي ـ فحدّث عن خرابهما ولا حرج
ــ 4 ــ
لقد كان جبل بوقرنين مُلهما لبعض الشعراء والأدباء مثل الشاعر مصطفى خريّف الذي اِستقرّ بمدينة حمام الأنف مدّة من الزمن أثناء الحرب العالمية الثانية فكتب قصيدة ـ بين جبل وبحر ـ وهي في صيغة حوار بينهما وقد نشرها في ديوانه الأوّل ـ الشّعاع ـ سنة 1949 ثم أعاد نشرها في ديوانه الثاني ـ شوق وذوق ـ سنة 1965 ومنها قوله
(الجبل)
يا بحر
أيّها الغائص في بطون الأرضين
السجين في أغوار الصخور وأكناف الرمال
يا رهين القيود والأصفاد والظلمات
ما أبعد أعماقك ! وما أبهم اِمتدادك
(البحر)
يا جبل
أيّها الضائع في أجواز السماوات
التائه في آفاق الفضاء الأبدية
المتحمّل أثقال السّحب وأنفاس الكواكب
يا مُنبت الصّخر والشّوك
و القتاد والجيف المتعّفنة
ما أحمق رسوخك
و ما أحقر تطاولك
ــ 5 ــ
عندما زار الأديب ميخائيل نعيمة تونس تونس سنة 1961 أرسل رسالة إلى اِبن عمّي سي الحبيب عبيد الذي كان في توديعه ذكر فيها جبل بوقرنين قائلا ـ
لكَم وددت يا صديقي الفتيّ لو كان لي أن
أتحدّث إليك وإلى الكثير من الشبّان التونسيين أمثالك لا من على منبر المسرح البلدّي بل على شاطئ البحر أو في بستان من الزّيتون أو في سفح “بوقرنين” أو في أيّ مكان يطيب فيه الحديث فيجري طلقا عفويا ودونما أقل كلفة ـ
نص الرسالة منشور في العدد الأخير من مجلة الحياة الثقافية التونسية
ولصديقنا الشاعر عبد الحكيم زريّر قصيد زجلي بديع بعنوان ـ الهَمْهَامَا ـ وهو الاِسم الشّعبي لمدينة حمام الأنف وصف فيه مختلف معالم المدينة ومناطقها التي من بينها ـ جبل بوقرنين ـ حيث ورد فيه قوله
مْدِينَة حَيَّة
مِزْوَارَة شِرْهَة شَعْبِيَّة
خْصُوصِي تْجِيهَا عْقَابْ عْشِيَّة
وْمَا نَحْكِيشْ عْلَى امَّالِيهَا
يَا مَحْلاَهَا
حِسْدُوهَا إِلِّي بَحْذَاهَا
بْخَصْلْتِينْ الْبَارِي حْبَاهَا
جْبَلْهَا وِبْحَرْ مْحَاذِيهَا
رَاهِي نَارُو
كَرْنَازِيسْ مَحْلَى خُنَّارُو
بْقِمْتِينْ وُسْطَ اشْجَارُو
قِمَّة وَحْدَة يْقُولُو بِيهَا؟
فُخْرِةْ نَارُو
تَدْفَا بْمَاهْ وْمَا تْشُوفْ نَارُو
مِنْ قْدِيمْ وْعَرْفُو كَارُو
جْمِيعْ لِبْرَايِدْ يْدَاوِيهَا
مِنْ بْعِيدْ
يْنَاجِي فِي سِيدِي بُوسْعِيدْ
الْمُوجَة تْوَصِّلْ فِي التَّنْهِيدْ
بْنِسْمَة فَايْحَة يْعَبِّيهَا
ــ 6 ــ
جمع صديقنا الأديب جلال المُخ في كتابه ـ حمّام الأنف في قلوب الشعراء ـ الصّادر عن دار المعارف للطّباعة والنشر سنة 2008 عديد القصائد لجمهرة من الشعراء والأدباء الذين كتبوا عن مدينة حمام الأنف ومن نكد الدّهر أن بلديتها رفضت اِقتناء ولو نسخة واحدة من هذا الكتاب المَرجع وهي المدينة التي كانت وماتزال سَكنا ومَزارا وقِبلة الأدباء والشّعراء والفنانين على توالي الأجيال وتتالي العصور من الشّرق والغرب على السّواء ومن أولئك الشّعراء المتيّمين بحبّها والوفاء إليها صديقنا معمّر الماجري صاحب قصيدة مبتكرة في غرض الرثاء أعتبرها إضافة جديدة لما حوته من الحنين والألفة في أسلوب سرديّ يعتمد بساطة التفاصيل الصغيرة ضمن السّهل الممتنع ولكنها بساطة وسلاسة تعبّران عن ألم ثخين بسبب فراق رفيقة عمره والقصيدة بعنوان ـ اِنعم بزوجك يا زوج الحذاء ـ
كلّ الأفضيةِ
تَنَفٌّسُ ريحَكِ
في ” المغازة ” هذا الصّباحَ
حدّثَني زوجُ حِذاءٍ
أَنّهُ يُناسبُ مقاسَكِ
وأنّ لونَهُ الذي تُفضّلينْ
وأنّه قُدّ من الجلدِ الثّمينْ
و أنّ سِعرَهُ مناسبُُ
و أنّهُ … و أنّهُ …
قلتُ لهُ
يا زوجَ الحذاءْ
إنّها اِرتقَتْ
ما عاد يتّسعُ المَقاسُ
ما عادت تُغريها الألوانُ
ولا الأثمانُ
حبيبتي
حلّقَتْ روحُها
لا زوجةَ لي
اِنْعَمْ بزوجكَ
يا زَوجَ الحذاءْ
والشّاعر معمر الماجري يكتب في شتّى الأجناس الأدبية سَردا ونقدا وشعرُه مختلف المواضيع والأشكال إلا أنّه إلى الطقوس العمودية أميل مثل قصيدة ـ رحلة هوجاء ـ التي كتبها عندما بلغ الستين من العمر والتي يذكر فيها الحيّ الذي مررنا به حيث يقول فيها
ستّون عاما قد ركبتُ مَطيّها
في رحلة هوجاءَ دون قرارِ
في حيّنا الشعبيٌّ نسجُ ملامحي
غصنا تربّى في حِمى الأشجارِ
و لقد نشأنا في العراكِ من الصّبا
” سيزيفُ ” يعشق لذّة الإصرارِ
والفقرُ لمٌا سامنا بسياطه
قلنا له إنّي اِتّخذتُ إزاري
من صبر أيّوبَ الجميلِ حبكتُهُ
من قصّة الإيمان بالأقدارِ
ما زلتُ أذكر في الديار حمامتي
زجل الحمام معلّق بجداري
قد بحت بالحبّ الجميل كرامةً
لا يُفقد البوحُ الجميلُ وَقاري
ستّون عاما قد مررن بسرعة
الله أعلمُ ما مدى الأعمارِ
هي إذن قصيدة السّيرة الذاتية المفعمة بالحنين والشجون
ــ 7 ــ
ما كنت أدري قبل أربعين أن أحد تلاميذي النّجباء في معهد فرحات برادس وهو الصّديق عبد الوهّاب الهاني كان يعرض عليّ وقتها بعض القصائد لصديق له حتّى أبدي فيها رأيي فكنت أشجّع صديقه على المواصلة والمطالعة وتمرّ الأيام والأعوام لأجد نفسي أمشي مع صاحب تلك القصائد على دروب جبل بوقرنين
وبهذه المناسبة أذكر عندما كنت بالسنة الأولى أو الثانية من التعليم الثانوي بالمدرسة الصّادقية في منتصف ستينيات القرن العشرين الماضي بعثتُ مع زميلي وصديقي هشام بالشّيخ قصائدي الأولى إلى أخته الأديبة حياة بالشيخ فقد كانت من أبرز الأديبات التونسيات في تلك السنوات فقرأت قصائدي وكتبت لي ملاحظاتها القيّمة التي اِستفدتُ منها فإليها جزيل الشكر وفائق التقدير
ما أبلغ قول الجاحظ
ـ ينبغي أن يكون سبيلنا لمن بعدنا كسبيل من كان قبلنا فينا ـ