** رأى ما لا يُرى **
للشاعر سوف عبيد
بقلم عبد العزيز بن عبد الله
صدر هذا الديوان الشعري عن دار خريف للنشر في 153 صفحة ويتضمن 58 قصيدة.
على ظهر غلاف الكتاب، نقرأ رأي الكاتب الراحل عبدالمجيد يوسف في شعر سوف عبيد جاء فيها ما يلي :
” لعلّ ما يميّز سُوف عبيد في كتابته قصيدة النّثر هو البساطة في الخطاب وبساطة المعجم وقصر الجملة وقرب التخييل رغم أنّ نصوصه لا تخلو من تعميق للتّيمات المتناولة وتضمينات وإحالات ورموز وأقنعة يتوسّل بها في بلوغ مأرب الدّلالة. ولعلّ مجاميعه الأخيرة أصبحت أميل إلى مضمونيْ الحكمة النّاتجة عن تراكم التّجاريب الوجودية ووفرة حصاد السّنين والحنين إلى وقائع الماضي وأحواله وفضاءاته.”
من عتبة العنوان تبدأ قراءة ديوان “رأى ما لا يُرى “.
عندما نستطلع رأي الدكتور مصطفى عطية جمعة نقرأ ما يلي :
” يشكّل التعريف اللّغوي للفظة” رؤية” مدخلا مهمّا لفهم مصطلح الرؤية الشعرية، فهي تعود إلى الجذر اللغوي” رأي” الذي يتفرع منه لفظتا” رؤية” بالتاء المربوطة، وتعني الإبصار المادي المحسوس في حالة اليقظة، والثانية لفظة” رؤيا” بألف المد. ودلالتها معنوية تتصل بالقلب، وما يراه الإنسان في منامه، وجمعها” رؤى” أي أحلام، ويرى ابن منظور أن الرؤيا يمكن أن تكون أيضا في اليقظة” .
ويضيف مصطفى عطية فيقول :
” رؤية الشاعر تنحت خصائصها من جماع التجربة الإنسانية التي يعيشها الشاعر في عالمنا المعاصر، والرؤيا بذلك تكون مرادفة للبصيرة الشعرية، أما الرؤية فهي تترادف مع البصر”.
وعن نفس موضوع الرّؤيا يقول الدكتور الوارث الحسن ما يلي :
” يُراد بمصطلح (الرؤيا)، «البعد المتجاوز لكل ما هو مادي وواقعي وجزئي، فالرؤيا بهذا المعنى مرتبطة بمنطقة الحلم، تتجاوز حدود العقل وحدود الذاكرة».
أما في مجال الإبداع الشعري، فإن الرؤيا «تشكل موقفا جديدا من العالم والأشياء، وهي بذلك عنصر أساس من العناصر المنتجة لدلالة القصيدة الجديدة، إلى حد أصبح فيه الشعر، عند شعراء الحداثة الشعرية ونقادها المنظرين رؤيا، أي : التقاط شعري وجداني للعالم يتجاوز الظاهر إلى الباطن، ويتجاوز حدود العقل وحدود الذاكرة والحس، ليكشف علاقات جديدة تعيد القصيدة في ضوئها ترتيب الأشياء، وخلق عوالم جديدة تنصهر فيها تجربة الشاعر باعتباره مبدعا، وتجربة المتلقي باعتباره مشاركا الشاعر في تلك التجربة».
………………………………….
في ديوان “رأى ما لا يُرى” نقرأ قصيدة تحمل عنوان “لارا” ص 147.
و”لارا” هي حفيدة الشاعر، وقد أهدى لها القصيدة بقوله :
إلى حفيدتي تعانق البحر أوّل مرّة.
ولعلّ الصّورة تذكّر الشاعر بإحساسه عندما رأى البحر أوّل مرّة عندما قدم من عمق الصحراء من مدينة غمراسن إلى مدينة تونس.
لارَا
رَفّةٌ
خُطاها
أوْ كنقْر البيانُو
تتسارع نحو البحر
يّعْشَوْشبُ الرّملُ
يُزهر
مِن تحتِ قدميها.
……………………………………..
في قصيدة “النخلة القديمة” ص 121 يقول الشاعر سوف عبيد في بدايتها :
ونَخْلّةٍ قامتْ على الهُزالِ رَأَيتُهَا تَنُوءُ في انْعِزالِ
مَا بالُهُمْ قّدْ أهْمَلوا حِماهَا وَلاَ يُبَالُونَ فلمْ تــــــُبَالِ
هَانَتْ علَيهِمْ مَا دَرَوْا جَمَالاً وَ مَا بِهِمْ حٍسٌّ إِلَى الجَمالِ
قال بعض النقاد أنّه عندما يتحدث الشاعر العربي عن النخيل، فإنه غالباً ما يقصد به رموزًا متعددة، بما في ذلك الانتماء إلى الأرض والوطن، والخصب، والنعمة، والأمان، والراحة.
والنخيل يمثل أيضاً رمزًا للمقاومة والتحدي، حيث يمكن للنخلة أن تعيش وتزدهر في الظروف الصعبة.
يقول الكاتب العماني: فهد محمود الرحبي :
” تغزّل شعراء العرب قديماً وحديثاً بالتمر وأشجار النخيل ونادرا ما تجد شاعرا لم يذكر النخلة في إحدى قصائده غير أنها قد أخذت بلب العربي منذ اقترنت حياته بالنخلة : بتمرها وظلها وسعفها.. فأصبحت رمزًا للشخصية العربية، وللمشرق بعامة”.
…………………………………..
ويعتصر الشاعر الألم وهو العربي الذي عايش قضية فلسطين وجرحها المفتوح من نكسة 1967 إلى اليوم .
يقول في مطلع قصيدة “غزّة” ص 85 ، ما يلي :
“غزّة”
السّادسةُ صباحًا
دُون أن أغسل وجهي
أفتحُ التلفزيون
للصّباح حُمرةُ الشّفق القادم من الشّرق
اليومَ أيضًا
تُشرِقُ الشَّمسُ دمًا
في غزّةَ
……………………………..
يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
» لا يزال الشعر عاطلاً حتى تزينه الحكمة؛ ولاتزال الحكمة شاردة حتى يؤويها بيت من الشعر. «
والحكمة نجدها في قصائد سوف عبيد، ومثال ذلك قصيدته “السّلحفاة” ص 117 التي يقول فيها :
ألا يَا سَابق الرّيح رُويدًا…أين منْ فاتُوا
هُنَا مَرُّوا بِلاَ ذِكْرَى وتَسبُقُ السُّــلحفــاةُ
………………….
قال بعض النقّاد أنّ المكان يمثل عنصرًا هامًا في الشعر العربي، حيث يلعب دورًا مهمًا في تكوين الصورة الشعرية وتعبير الشاعر عن مشاعره وعواطفه.
ومن قول د.نجود هاشم الربيعي ما يلي :
” استعمال المكان في الشعر العربي، مرّ بمراحل وانتقالات، فهو في القصيدة الجاهلية كان إشارة إلى نمط الحياة الماضية التي كان يحفل بها المكان، فهو على الرغم من دلالته الإنسانية إلا أنه بقي مناسبة للوقوف والاستيقاف ومناسبة للبكاء والاستبكاء.
لكنه في الشعر الحديث ولاسيّما لدى شعراء المدرسة الإحيائية كأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، كان يتّخذ مناسبة للاعتبار من حكم الزمن وتقلبات الدهر.
أما في شعر المدرسة الرومانسية في الشعر العربي، عند إبراهيم ناجي على وجه الخصوص الذي اتخذناه مثالا تطبيقيا، فقد كان مكانا مشحونا بالأحاسيس والانفعالات والأفكار الرومانسية والمشاعر الذاتية.
أما الشعر المعاصر ولاسيما عند السياب وشعراء مدرسة الشعر الحرّ، فقد امتزج الذاتيّ بالموضوعيّ والداخليّ بالخارجيّ بشكل واضح”.
وعن المكان كتب الشاعر سوف عبيد قصيدة بعنوان ” مقهى العِنبة” ص 39 ، يقول في مطلعها :
مقهى العِنبة
– باب البحر – جامع الزّيتونة –
أسْواقٌ تفتحُ على أسواقْ
مفاتيحُ تَلجُ وتدُورُ في أبواب
باتتْ طول اللّيل ساهرةً
على الله الأرزاقْ
زُقَاقٌ في زُقَاقْ
وزقزقةٌ صبَاحيّة.
.................................. هذا بعض ما رأينا، والباقي يراه الشاعر سوف عبيد فهو الذي "رأى ما لا يُرى".