على ضفاف دجلة والفرات

هذه بغداد…

 من تحت جناحي الطائرة تبدو في الليل كوشي بساط متلألئ …هذه هي بغداد الرشيد…بغداد دجلة وعيون المها بين الرصافة والجسر …بغداد أبي نواس والتوحيدي…بغداد الكرخ ومقامات الهمذاني…كنت سارحا في صفحات الأدب حتى شعرت بأن الطائرة العراقية تحط بتماس لطيف على الأرض فطفق الركاب يصفّقون بحرارة تحية شكر وإعجاب بالقائد وأغلب الركاب شعراء وأدباء تونس والجزائر والمغرب وموريطانيا حتى قال أحدهم مازحا إنه لو سقطت الطائرة وهلك من فيها من الشعراء المغاربة لكتب بقية الشعراء العرب  ديوانا كاملا في رثائهم…!

هذه بغداد…

 حلم وتحقق أن أزور بلاد دجلة والفرات التي قرأت عنها منذ مطالعاتي الأولى وحدثنا عنها أستاذ التاريخ في معهد الصادقية سيدي  الهداوي الذي تخرج من كليتها فكان كثيرا ما يعرج بنا في الدرس للحديث عن ذكرياته في  بغداد فيصف لنا وصفا دقيقا شارع الرشيد وشارع المتنبي وحي الأعظمية حتى جعلنا نشتهي مختلف الحلويات البغدادية من كثرة ما حدثنا عن تفاصيل ذكرياته في العراق وهنا لابد من ذكر العلاقة الأدبية الوطيدة بين الأدباء التونسيين المعاصرين والعراق حيث أتمم كثير منهم دراسته الجامعية ونذكر على سبيل المثال أبا القاسم كرو والميداني بن صالح وعلي دَب الذي كان يجلس معنا أحيانا  بمقهى الكوليزي حيث أقبل علينا الأديب يوسف عبد العاطي ذات يوم من ربيع سنة 1984 وأعلمني أنه علم بدعوة عراقية لوفد من الشعراء والأدباء التونسيين وأن اِسمي من ببنهم فاِبتهجت اِبتهاجا كبيرا وكان اِستقبالنا بحفاوة كبيرة ناهيك أن سيارات فخمة خُصّصت لنا ضمن موكب تَحُفُّ به الدراجات النارية أوصلتنا إلى فندق الرشيد وهو أرقى فنادق العراق وكان رفيقي في الغرفة الصديق الشاعر محمد بن صالح الذي أتّفق معه في كثير من الأشياء ومنها تلك التفاصيل البسيطة…عدم التدخبن مثلا….

عندما أصبح الصباح نزلت إلى بهو الفندق ذي الصالات الواسعة والرّدهات الممتدّة بعضها يُفضي إلى بعض وإذا بجموع الشعراء والأدباء والصحافيين وقد جاءت من بلدان القارات الخمس تتبادل التحايا وكلمات التعارف وتلتقط الصّور مع بعضها وتتهادى الكتب بعدما يخطّ الشاعر والأديب على صفحاتها الأولى عبارات المودّة وقد عدت بعشرات الدواوين والكتب من مختلف البلدان التي بدوري أهديت شعراءها ما حملت في حقيبتي من نسخ من ديواني الأول ـ الأرض عطشى ـ والثاني ـ نوارة الملح ـ وقد رجعت ـ والحق يُقال ـ بأكثر ممّا حملت معي

هذه بغداد …

عشرة أيّام بلياليها اِنقضت في لمح البصر بين جلسات للقراءات الشعرية وزيارات سياحية للمعالم والآثار ولبعض المدن من بينها بابل والنجف والموصل وسامراء وغيرها وكلّما وجدت سُويعات خارج البرمجة حَثثت الخطى أجوب شوارع بغداد وأحيائها وأتمشّى على جسورها وعند ضفاف دجلة عندما صادفت تمثال شهريار وشهرزاد فمكثت أكثر من ساعة أتأمّل من مختلف الجهات ذلك الإبداع الجميل الذي جعل من الصّنم الجامد كيانا مُعبّرا حتّى لكأنّي كنت حينذاك أسمع حكاية من حكايات شهرزاد بينما شهريار يتّكئ كالمسحور من كلامها وكم هي كثيرة المنحوتات  والتماثيل الجميلة في العراق الذي يٌعتبر من أوّل البلدان العربية  في الفنون التشكيلية الحديثة .

هذه هي البصرة…

حيث يلتقي في شطها دجلة والفرات وتتآلف الحضارات أيضا….هذه مدينة الجاحظ والخليل بن أحمد والسيّاب… كانت شمس الصباح قد لاحت من فوق نخيل مدينة البصرة بعد رحلة قطار الليل ولم أدر كيف وجدت نفسي وجهًا لوجه مع تمثال بدر شاكر السيّاب الذي نال منه الرّصاص والشّظايا في إحدى المواجهات الحربية بين العراق وإيران وهي الحرب التي ليتها لم تكن فقد كانت مآسي ودمارًا وكانت القوى الاِمبريالية هي المستفيدة الوحيدة منها وقد لاحظت أنّ عديد الشرفات والنوافذ تُسدل لافتاتٍ سوداء بأسماء شهداء عائلاتها…نعم كانت تلك الحرب تضحية بالأرواح وهدرًا للطاقات وذلك بسبب غياب العقل الرّشيد بين الجارين 

التّمثالُ والخليجُ*

مِثلما يُيَمِّمُ بَاسِقُ النّخلِ
للشطّ سَعفَهُ
إنّك تُولّي للخليج ظهركَ
أيّها الشّاعرُ
شَبَهٌ بينكَ وبين النّخل اِنتصابًا
عندمَا أغمضتْ البَصْرةُ
جريدَها
هَوى في العينِ عُرجُونٌ
وفي الأزرق وراءَكَ
غَرِقَ سِربُ السّمكِ

في الجُذوع نرَى
الرّصاصَ في صَدركَ مضَى
كالنَّشيج
مِن شَناشِيل
اِبنةِ الجَلَبِي

ألا أيّها الواقفُ
اُخرُجْ من التّمثال
و اِخلعْ عنك لباسَ الحديدِ
لتجلسَ قارئًا على الزُوّار
كتابَكَ الذي في الجيبِ

وإذا الأوراقُ تطايرتْ
بأيِّ ذنبٍ
تلك المدرسةُ
هُدّمتْ؟ !

هل يا تُرى في المحفظةِ
قطعةُ حلوى ومقلمهْ
أم في المحفظة شَظيّةٌ
من قُنبلهْ؟!

وُقوفًا
واجمينَ نظلُّ
كاِنحباسِ الكلمةِ
الكلِمةُ شَفَةٌ
شِفاهُنا هواءٌ في خَواءٍ
وشَفتُكَ حديدْ

ألا أيّها الواقفُ
بين الموج والجريدْ
يُبَرقِشُكَ الرّملُ والملحُ
ينُوشُكَ الصّديدُ
لا تَغمِسْ ريشتكَ
في خليج المِحبرةِ
جُثَثٌ موجُهُ
وتحتَ الزّوارق
دمٌ

واقفٌ
يداهُ برغم الصّديدِيدانِ
تَجنيان بَلحًا
يداهُ في الحديدِيدانِ
تُسابحان طيرًا
تقُولان 
سلامًا
سلامًا
متَى تعودُ للشّرق
شمسُهُ
الآفلهْ

*هو تمثال بدر شاكر السيّاب في البصرة

حول سوف عبيد

* من مواليد موسم حصاد 1952 وسُجّل في دفتر شيخ المنطقة بتاريخ يوم 7 أوت 1952 ببئر الكرمة في بلد غُمراسن بالجنوب التونسي درس بالمدرسة الاِبتدائية بضاحية ـ مِقرين ـ تونس العاصمة سنة 1958 ـ بالمدرسة الابتدائية بغُمراسن سنة 1960 ـ بالمدرسة الابتدائية بنهج المغرب بتونس سنة1962 ـ بمعهد الصّادقية بتونس سنة 1964 ـ بمعهد اِبن شرف بتونس سنة 1969 * تخرّج من كلية اﻵداب بتونس بشهادة ـ أستاذية الآداب العربية ـ ثمّ في سنة 1976 بشهادة ـ الكفاءة في البحث ـ حول ـ تفسير الإمام اِبن عَرْفَة ـ سنة 1979 * باشر تدريس اللّغة العربية وآدابها بـ ـ معهد اِبن أبي الضّياف بمنّوبة ـ المعهد الثانوي ببوسالم ـ المعهد الثانوي بماطر ـ معهد فرحات حشاد برادس * بدأ النّشر منذ 1970 في الجرائد والمجلات : الصّباح ـ الملحق الثقافي لجريدة العمل ـ الصّدى ـ الفكر ـ ألِف ـ الحياة الثقافية ـ الموقف ـ الشّعب ـ الرأي ـ الأيام ـ الشّرق الأوسط ـ القدس,,,وبمواقع ـ دروب ـ إنانا ـ المثقّف ـ أنفاس ـ أوتار ـ ألف ـ قاب قوسين ـ … * شارك في النّوادي والنّدوات الثقافية بتونس وخارجها : ليبيا ـ الجزائر ـ المغرب ـ مصر ـ العربية السعودية ـ الأردن ـ سوريا ـ العراق ـ إسبانيا ـ فرنسا ـ إيطاليا ـ ألمانيا ـ بلجيكا ـ هولاندا ـ اليونان ـ * من مؤسسي نادي الشّعر بدار الثقافة ـ اِبن خلدون ـ بتونس سنة 1974 واِنضمّ إلى اِتّحاد الكتاب التونسيين سنة 1980 واُنْتُخِبَ في هيئته المديرة في دورة سنة 1990 أمينا عاما ثم في دورة سنة 2000 نائب رئيس فساهم في تنظيم مؤتمر اِتحاد الأدباء العرب ومهرجان الشعر العربي بتونس سنة 1991 وفي إصدار مجلة ـ المسار ـ وفي تأسيس فروعه وفي تنظيم الندوات والمهرجانات الأدبية وشارك في الهيئة الاِستشارية لمجلة الحياة الثقافية وأسّس منتدى أدب التلاميذ سنة 1990 الذي تواصل سنويا في كامل أنحاء البلاد إلى سنة 2010 ونظّم الملتقى الأوّل والثاني لأدباء الأنترنت بتونس سنتي 2009 و 2010 وأسس نادي الشعر ـ أبو القاسم الشابي ـ سنة 2012 وترأس جمعية ـ اِبن عرفة الثقافية ـ سنة 2013 و2014 وأسس جمعية مهرجان الياسمين برادس 2018 * صدر له 1 ـ الأرض عطشى ـ 1980 2 ـ نوّارة الملح ـ 1984 3 ـ اِمرأة الفُسيفساء ـ 1985 4 ـ صديد الرّوح ـ 1989 5 ـ جناح خارج السرب ـ 1991 6 ـ نبعٌُ واحد لضفاف شتّى ـ 1999 7 ـ عُمرٌ واحد لا يكفي ـ 2004 8 ـ حارقُ البحر ـ نشر إلكتروني عن دار إنانا ـ 2008 ثم صدر عن دار اليمامة بتونس ـ 2013 9 ـ AL JAZIA ـ الجازية ـ بترجمة حمادي بالحاج ـ 2008 10 ـ ألوان على كلمات ـ بلوحات عثمان بَبّة وترجمته ـ طبعة خاصة ـ 2008 11 ـ حركات الشّعر الجديد بتونس ـ 2008 12ـ صفحات من كتاب الوجود ـ القصائد النثرية للشّابي ـ2009 13 ـ oxyde L’âme قصائد مختارة ترجمها عبد المجيد يوسف ـ2015 14ـ ديوان سُوف عبيد ـ عن دار الاِتحاد للنشر والتوزيع تونس2017