نشيد الصباح في ـ كوثر الصباح ـ

 

 نشيد الصباح ـ في ديوان ـ  كوثر الصباح ـ
بقلم سُوف عبيد
ــ 1 ــ
تُنسب بعض المختارات الشعرية القديمة إلى أصحابها مثل المفضليات والأصمعيات وغيرهما وتنسب بعض القصائد والدواوين أيضا إلى شاعرها مثل العنتريات والشوقيات وعلى نمط هذا التقليد الأدبي لعل الشاعرة التونسية كوثر بلعابي اختارت عنوان _ كوثر الصباح  _ لمجموعتها الشعرية  الجديدة نسبة إلى اِسمها والكوثر لغة مشتق من الكثرة ومن معاني الكوثر  في قواميس اللغة الخير العميم والشراب العذب وقيل هو نهر في الجنّة ويعني أيضا جمّار النّخيل وفي بعض التفاسير أعطيناك الكوثر أي أعطيناك من المواهب كثيرا وفي اللغة السّريانية هو الثّبات  أصيلة والعزم وفي اللغة  اليونانية تعني كلمة الكوثر الصّفاء والطمأنينة 
إذا علمنا أن الشاعرة كوثر بلعابي أصيلة ربوع ـ تالة ـ المعروفة بكثرة عيونها  الجارية وإذا علمنا أيضا أن كلمة ـ تالة ـ تعني في اللغة التونسية   القديمة ـ العين الجارية ـ فإن  هذا العنوان جاء محملا بأبعاد ذاتية لمطابقته اسم الشاعرة في أبعاده الذاتية والتاريخية والبيئية أيضا 
لذلك فإن جميع هذه المعاني يمكن أن ترشح من هذا العنوان الدّال أيضا على الصباح بما يبعث من إشراق وجلاء  واِنشراح ووضوح ومحو لظلام الليل وكلمة الصباح نقرؤها مبثوثة في كثير من الصفحات والقصائد بل نجدها في عنوان أكثر من ثلاثين قصيدة مثل ـ ضوء الصباح ـ مطر الصباح ـ مرآة الصباح ـ نبض الصباح ـ إيقاع الصباحات ـ أحبّ الصباح ـ الكتابة للصباح ـ إيقاع الصباحات ـ شهد الصباحات ـ كتاب الصباح ـ صباح بلادي ـ صباح الكرامة ـ صباح تونس ـ….
فالصباح يذكرنا إذا استعرضنا العناوين بقصيدة ـ الصباح الجديد ـ لأبي القاسم الشابي 
والصباح يمثّل المحور الأهمّ كأنه قطب الرّحى أو العروة الوثقى التي تربط مختلف المعاني في القصائد أو كمثل القافية التي تعود إليها بقية الأبيات فالصباح هو الغرض الأصلي حسب القاموس النقدي القديم وهو التّيمة البارزة لدى النقاد المعاصرين
ــ 2 ــ
إن التكرار من سمات إيقاع الشّعر عامة وفي النثر أحيانا كالقرآن والمقامات وهو من خصائص  بعض  اللوحات في الفنّ التشكيلي والفسيفساء وفي المنمنمات النباتية والحروفية ونلاحظ ظاهرة التكرار كذلك في نقائش الجدران والخشب أما تكرار كلمة واحدة في عناوين القصائد وفي مختلف سياقاتها ومقاطعها فهذا لم أقرأه من قبل ولعل قصيدة الشاعر منوّر صمادح التي بعنوان ـ الكلمات ـ اِستثناء في هذا المجال فقد وردت جميعها على النحو التالي
عنــدما كنت صغيرا كنت أحبو الكلمات
كنت طفلا ألعب الحرف وألهو الكلمات
كنـــت أصـواتا بلا معنى وراء الكلمات
وتخطـــيت سنينــــا عثــرتهـــا الكلمات
أركض الأحلام والأوهـام خلـف الكلمات
ووراء الزمــن الهــارب أعــدو الكلمات
كـــل مــا أعرفــــه أني ظلمــت الكلمات
وسمعت الناس يصغون لصوت الكلمات
فتكلمـــت ولكـــن لـــم أفـــــدها الكلمات
إلخ….
هذا التكرار والترديد كأنه صدى إيقاعي لسورة الرحمان أو لقصيدة الحريّة لفدوى طوقان التي هي صدى لكلمة ـالحرية ـ التي تردّدت في قصيدة الشاعر الفرنسي ـ إلوار ـ ونجد هذا الترداد لعبارة ـ لم تأت ـ في قصيدة ـ المجزوم بلم ـ للشاعر محمد الحبيب  الزناد ولقد وضّح ابن بسّام الشّنتريني الأندلسي هذا التصادي والتأثر بين مختلف الشعراء عندما قال ـ قد يقع الحافر على الحافر إذ الشعر ميدان والشعراء فرسان ـ
ــ 3 ــ
إن كلمة ـ الصباح ـ تتردّد في سياقات مختلفة في قصائد كوثر بلعابي كأنها تعبيرة هندسية واحدة متكرّرة في ألوان مختلفة وفي أحجام متنوعة مثل نمط الفن التشكيلي أو مثل الرسومات الهندسية في الزرابي وغيرها فالصباح ليس واحدا ولا متشابها لدى الشاعرة حيث تقول في الصباح عند الشروق
للشروق رحم واحد
ولكن لكل صباح
مذاقه الخاص 
وحكايته الخاصة
 
وهي تقول في الصباح عند المطر
أعشق نقر المطر
حين يبهج صحوتي
عند الصباح بنبضه
ينعش سطح الرصيف والتّخوم
بنقاط وخطوط من رقوم
يوقظ سمعي بلحن
أحلى من عزف المطر
 
وقد تواتر ذكر المطر في عديد القصائد مثل قولها ـ عبق المطر ـ نقر المطر ـ  خفق المطر ـ لون المطرـ دمع المطر ـ مما يؤكد الأثر الواضح للمطر في وجدان الشاعرة فتبدو العلاقة بين الشاعرة والصباح  ذات وشائج جميمية ومذاقات مختلفة وكثيرة حيث تعبّر عن ذلك قائلة 
يدغدغ هجعتها
وينادم قهوتها
على ترانيم فيروز
وحروف نزار قبّاني
 
وحينا آخر تتحدث عن المطر وعن نفسها بصيغة الغائب قائلة
تنتظر من الصباح
أن تظفر بوردة تليق بشعرها
وهي تنادم قهوتها
فكل صباح هو ولادة جديدة
تشهدها أناملها المثقلة 
بالحبر
 إذن أضحى الصباح  يمثّل لدى الشاعرة ضربا من طقوس الكتابة مع القهوة التي اِحتفت بذكرها في عديد القصائد أيضا
ــ 4 ــ
واضح إذن أن الصباح هو أكثر الكلمات تردادا وتكرارا في سياقات متعددة ومتنوعة في قصائد الديوان فصار يمثّل سِمة أو ظاهرة إيقاعية واضحة بمختلف معانيها وأبعادها وثمة تكرار صيغة تركيبية أخرى ـ هي صيغة التمنّي ـ نلاحظها في بعض القصائد  مثل ما ورد في قصيدة ـ فرحة الصباح ـ ص90 حيث تقول
ما ضرّ لو
حملنا عبء الموت قسرا
لو مع كل صباح
أرسلنا بسرعة
لو تحت رماد الحزن
نبشنا عن فرحة
ما ضر لو
 
ومثلما تردّدت صيغة الأمر في قصيدة ثناء جميل ص87 التي تقول فيها
لنكنْ مثل الصباح
بياضه يطوي ظلاما
لنكتبْ على صفحة يومنا
معنى أثيلا ولفظا جميلا
لنرسمْ على نجمة الوطن
عشقا وشوقا
 
كذلك نلاحظ تكرار جملة _ رغم كل هذا _ في قصيدة سيرة الحب ص67 حيث تقول
رغم كل هذا الجدب
أكتب سيرة الحب
رغم كل هذا الجدب
أكتب خفقة من روحي
رغم كل هذا الجدب
أكتب ثورة نشوى
رغم كل هذا الجدب
أكتب سيرة الحب
 
يبدو التكرار أيضا في قصيدة همزة وصل ص 64 عندما تتردّد لازمة ـ بيني وبينك ـ قائلةً
بين وبينك
حيرة
بين وبينك
أرض
بين وبينك
فجر
بين وبينك 
حرف
ــ 5 ــ
إذا كان هذا الديوان قائما خاصة على تكرار وترداد بعض الكلمات والتعابير والصيغ بحيث أنها أضحت تمثل لازمة إيقاعية أو تقفية داخلية فإن بعض القصائد الأخرى كانت قائمة على تكثيف الصورة الشعرية التي تعتمد على العناصر الطبيعية مثل الصورة الشعرية الواردة في ص55
صباحاتك الشتاء الحالة
غلالة من سحر
يكتب ضبابها بلطف
أحلامنا
تلك الأماني الهائمة
 
وفي ص55 تواصل رسم هذه الصورة الشعرية قائلة
هذه الصباحات الغائمة
في قلبي ناصعة جميلة
أمشط غرتها بنغم فيروزي
أضفر حرير خصلها جديلة
 
والشاعرة عندما تفتح شجون الوطن تبدو يائسة محبطة منه لكنها سرعان ما تنعكس هذه الحالة في صورة ترمز إلى الأمل حيث تقول في قصيدة ضمادات ص38
لم يبق يا وطني
غير ميلاد الصباحات
عسى خيط من الشمس
يرتق شروخك
يسعفك بالضمادات
 
فتتحول الصورة الشعرية من اليأس إلى الأمل مع انبلاج الصباحات وهذا الأمل تراه الشاعرة كوثر بلعابي في سعي  الأطفال والشباب إلى المدارس حيث تقول في قصيدة صباح بلادي ص39
لأني أحب صباح المدارس
تحث الخطة
نحو آت جميل
ــ 6 ــ
الشاعرة كوثر بلعابي جعلت من سندرلا التي ورد ذكرها في تراث الفراعنة والإغريق وانتشرت قصة حذائها في مختلف آداب العالم لكنها في هذه القصيدة تحولت إلى رمز جديد ينوء بحمل قضايا الوطن وأوجاعه في صبر من دون أن تنحني أو تتراجع أو يصيبها الإعياء في الالتزام برسالتها حيث تقول في قصيدة سندرلا ص28
تغفو على وجع
ومع ذلك تصحو موشوشة عشقها
الورد والريحان
لا يحبها حمل قضايا الوطن
الثقيلة
وتجعل في هذا السياق من الإلتزام بقضايا الوطن  من _ جبل الشعانبي _ معلما تتغنى به في شموخ وطنها التونسي والقصيدة بعنوان  _ صباح الشعانبي _ ص100 ومن المعلوم أن الشعانبي هو أعلى قمة جبلية في تونس وقد صار رمزا للتضحية والفداء في سنوات الجمر التي عاشتها البلاد بعد سنة 2011
ــ 7 ــ
إن ديوان ـ كوثر الصباح ـ بقدر ما يعبّر عن وجدان ذاتي بمختلف الأحاسيس فإنه يعبّر أيضا عن شعور الانتماء للوطن بما في قصائد الديوان من اِعتزاز ومعاناة بعيدا عن نبرة الحماس وجلد الذات وإنما ضمن نظرة تفاؤلية ترنو إلى شروق الصباح الجديد .
 
* سُوف عبيد

حول سوف عبيد

* من مواليد موسم حصاد 1952 وسُجّل في دفتر شيخ المنطقة بتاريخ يوم 7 أوت 1952 ببئر الكرمة في بلد غُمراسن بالجنوب التونسي درس بالمدرسة الاِبتدائية بضاحية ـ مِقرين ـ تونس العاصمة سنة 1958 ـ بالمدرسة الابتدائية بغُمراسن سنة 1960 ـ بالمدرسة الابتدائية بنهج المغرب بتونس سنة1962 ـ بمعهد الصّادقية بتونس سنة 1964 ـ بمعهد اِبن شرف بتونس سنة 1969 * تخرّج من كلية اﻵداب بتونس بشهادة ـ أستاذية الآداب العربية ـ ثمّ في سنة 1976 بشهادة ـ الكفاءة في البحث ـ حول ـ تفسير الإمام اِبن عَرْفَة ـ سنة 1979 * باشر تدريس اللّغة العربية وآدابها بـ ـ معهد اِبن أبي الضّياف بمنّوبة ـ المعهد الثانوي ببوسالم ـ المعهد الثانوي بماطر ـ معهد فرحات حشاد برادس * بدأ النّشر منذ 1970 في الجرائد والمجلات : الصّباح ـ الملحق الثقافي لجريدة العمل ـ الصّدى ـ الفكر ـ ألِف ـ الحياة الثقافية ـ الموقف ـ الشّعب ـ الرأي ـ الأيام ـ الشّرق الأوسط ـ القدس,,,وبمواقع ـ دروب ـ إنانا ـ المثقّف ـ أنفاس ـ أوتار ـ ألف ـ قاب قوسين ـ … * شارك في النّوادي والنّدوات الثقافية بتونس وخارجها : ليبيا ـ الجزائر ـ المغرب ـ مصر ـ العربية السعودية ـ الأردن ـ سوريا ـ العراق ـ إسبانيا ـ فرنسا ـ إيطاليا ـ ألمانيا ـ بلجيكا ـ هولاندا ـ اليونان ـ * من مؤسسي نادي الشّعر بدار الثقافة ـ اِبن خلدون ـ بتونس سنة 1974 واِنضمّ إلى اِتّحاد الكتاب التونسيين سنة 1980 واُنْتُخِبَ في هيئته المديرة في دورة سنة 1990 أمينا عاما ثم في دورة سنة 2000 نائب رئيس فساهم في تنظيم مؤتمر اِتحاد الأدباء العرب ومهرجان الشعر العربي بتونس سنة 1991 وفي إصدار مجلة ـ المسار ـ وفي تأسيس فروعه وفي تنظيم الندوات والمهرجانات الأدبية وشارك في الهيئة الاِستشارية لمجلة الحياة الثقافية وأسّس منتدى أدب التلاميذ سنة 1990 الذي تواصل سنويا في كامل أنحاء البلاد إلى سنة 2010 ونظّم الملتقى الأوّل والثاني لأدباء الأنترنت بتونس سنتي 2009 و 2010 وأسس نادي الشعر ـ أبو القاسم الشابي ـ سنة 2012 وترأس جمعية ـ اِبن عرفة الثقافية ـ سنة 2013 و2014 وأسس جمعية مهرجان الياسمين برادس 2018 * صدر له 1 ـ الأرض عطشى ـ 1980 2 ـ نوّارة الملح ـ 1984 3 ـ اِمرأة الفُسيفساء ـ 1985 4 ـ صديد الرّوح ـ 1989 5 ـ جناح خارج السرب ـ 1991 6 ـ نبعٌُ واحد لضفاف شتّى ـ 1999 7 ـ عُمرٌ واحد لا يكفي ـ 2004 8 ـ حارقُ البحر ـ نشر إلكتروني عن دار إنانا ـ 2008 ثم صدر عن دار اليمامة بتونس ـ 2013 9 ـ AL JAZIA ـ الجازية ـ بترجمة حمادي بالحاج ـ 2008 10 ـ ألوان على كلمات ـ بلوحات عثمان بَبّة وترجمته ـ طبعة خاصة ـ 2008 11 ـ حركات الشّعر الجديد بتونس ـ 2008 12ـ صفحات من كتاب الوجود ـ القصائد النثرية للشّابي ـ2009 13 ـ oxyde L’âme قصائد مختارة ترجمها عبد المجيد يوسف ـ2015 14ـ ديوان سُوف عبيد ـ عن دار الاِتحاد للنشر والتوزيع تونس2017