في ذكرى صالح القرمادي
لست بعيدا حتى أذكرك
لست قريبا حتى أراك
بقلم سوف عبيد
(1)
آخرعهدي به كان جالسا في سيارته يدير محركها بعد أن غادر المركز الثقافي الدولي بالحمامات إثر انعقاد جلسة صباحية طويلة في الملتقى الثاني للشعر
وقتها حضر أغلب الشعراء الشبان و عدد وافر من المثقفين و كان صالح القرمادي سيد تلك الجلسة بل إنه أذهل الذين استمعوا إليم لأول مرة و أفحم الذين كانوا يحملون عنه أفكارا مسبقة حول اللغة و الفكر لأن الرجل قد لخّص وقتئذ البحر في كأس حينما اِستعرض بفاعلية العمق و قوة الإيجاز تاريخ الشعر العربي فأقنع و أخرس الذين يتهمونه بالدارجة و الفرنكوفونية فكم كنتَ متواضعا يا سيدي حينما لم تفتخر بالكتب و المقالات التي نقلتها من الفرتسية الى لغة الضاد بينما كم من مُتحمّس لها قد أساء إليها
(2)
تلك الجلسة التاريخية ستظل وضاءة في حركة الشعر العربي بتونس لأنها طرحت أسئلة خطيرة في ذهن الشعراء الحاضرين أهمها سؤال اللغة و سؤال الفن كذلك سؤال الإيديولوجيا و أجاب المرحوم صالح القرمادي جوابا حاسما يدل على سعة الإطلاع على التراث العربي والمدارس النقدية الحديثة فبيّن أن سرّ لغة الشعر كامن في طرافة خروجها عن النّسق العادي المتوقع عند المتقبل وهو ما سماه بالاِنزياح أو ما عبّر عنه القدامى بالعدول أو التضمين
و تدخّل بعده الأستاذ المنجي الشملي و رشاد الحمزاوي لتوضيح هذه المسألة فكانت حقا جلسة نادرة بين النقاد و الشعراء ليتها تواصلت في مناسبات أخرى
(3)
إن شخصية المرحوم صالح القرمادي متعددة الجوانب قصةً وشعرا و دراسات لغوية ونقدية وترجمة ونقلا ومشاركة فعّالة في عديد المجالات من أهمها ضمن مجلات ( التجديد ) و ( ثقافة ) و (أليف ) إلا أن قيمة الرجل الحقيقية تكمن في تحريكه للسّاحة الثقافية بتونس منذ أواخر الخمسينيات إلى أوائل الثمانينيات بمُعاصرته عن قرب لشخصيات مُهمة مثل البشير خريف و محمد فريد غازي و تشجيعه لعدد هام من الشبان هم الآن قد أثبتوا مقدرتهم في عديد المجالات قصة ونقدا وشعرا فصالح القرمادي هو ثالث ثلاثة في كلية الآداب بتونس درسوا بعمق الأدب العربي المعاصر و كان لهم الفضل في تحديد ملامح هذا الجيل الأدبي الجديد وهل يمكن أن ننسى الأستاذين الجليلين توفيق بكار والمنجي الشملي .؟
(4)
إنّ صالح القرمادي مثال نادر للمثقف الذي عاش تناقضات عصره وبيئته فعبّر عنهما بصدق وبشجاعة ولم يركن إلى الأبراج العاجية بل خالط الناس جميعا وجلس إلى الأدباء الشبان وساهم في عديد النشاطات بحماس و بقدر ما كان يسمح به المجال
قد نختلف في قيمة شعره وقصصه ولكننا نكبر فيه مقدرته العلمية في المجال اللغوي بالخصوص ونتعلم منه تواضعه و دأبه في سبيل الكلمة الملتزمة
(5)
تمضي بنا السنوات يا سيدي و لكنّ صورتك وصوتك مايزالان في ذاكرتي جلاءً و شموخًا برغم جحود البعض وبرغم نسيان البعض الآخر وبرغم هذا الوقت الصعب
الآن و قد تركتنا وشأننا
يا سيدي
سنقرع الأبواب وحدنا
مرة بلطف
ومرة بعنف إن لزم الأمر
وسنجلس على عتبات البيوت
القديمة
و في ردهات العمارات الشاهقة
كالأطفال الهرمين
يرسمون على الجدران خطوطا واهية
لنوقع … ربما … بالموت
في شباك الحروف
(6)
لأنه الشّتاء
تركتَ الموقد يشتعل على مهل
لأنه الظلام
ظل النور في غرفتك حتى الصباح
لأنها قلعة النحاس هي الدنيا
أبقيت الباب مفتوحا
هو الدهر أعمى
فتركتَ نظارتبك على المكتب
واِنسللت كي لا تعود ؟
فيا غزلان البحار ويا أسماك الصحاري
جُرح في البحر غزال
وخُنقت في البريّة سمكة
(7)
يا سيدي هل أقول لك صراحة ـ إنني لست بخير وأن الدنيا رديئة كما تعرفها فالأمطار قليلة على بلادنا هذا العام وهل أقول لك أيضا إن تلك الجلسة في المركز الثقافي الدولي بالحمامات لم تتكرّر فلقد أغلق ذلك المكان أبوابه أمام المثقفين و الشعراء الذين نظموا الملتقى الثالث و كان يحمل اِسمك و لكن – معذرة – لم يكن كما نُحب و كما نريد وهل أقول إن الملتقى القادم لا أحد يتكلم عنه إلى الآنفقد أصبح للشعراء طموحات أخرى غير القصيدة
بالأمس القريب كنا نتناقش و نتشاجر وربما نتقاتل من أجل الشّعر واليوم كذلك نحن و لكن من أجل الكراسي وتذكرة سفر . فبرغم كل شيء وبرغم كل الأشياء سنواصل خطواتنا على درب الكلمة وقد نتعثر و قد نستريح و لكننا يا سيدي لن نسقط أبدا فما أعذب الشّعر و ما أقصر العمر
يا سيدي ها أنك تقول لي : لا تقل كما قيل و اِطلع مكان الشّمس . فما أعسر أن نقول أنفسنا بلسان حالنا وما أقرب الشّمس إلينا و لكن ما أبعد أصابعنا نحوها ؟
لستَ بعيدا حتى أذكرك
لستَ قريبا حتى أراك
فكل عام و أنت في ذاكرتي حيّ نابض لا تموت
جريدة الصياح ـ تونس ـ 25 مارس 1986