إذا كان الشّعر في بعض التعريفات محدودا ـ بالوزن و القافية ـ حينا و بما ـ هزّ النفس وحرّك الطّباع ـ حينا آخر أو ـ هو حُسن التناول للمعاني في جودة اللفظ ـ في تعريف آخر، فإن الجاحظ يؤكد على أنه صياغة و ضَرْب من التصوير مع اِعتبار أنّ مفهوم كلمة التصوير ينبغي أن ندرجه في سياقه اللغوي القديم الذي يدلّ ـ في ما يدلّ ـ على معنى الخلق و الهيئة و الإنشاء و الابتكار.
ثم تمحّضت تعبيرة (الصورة الشعرية) لمعناها الجديد في السياق المعاصر بعد أن اطلعنا على الصورة الفوتوغرافية خلال القرن التاسع عشر ثم على الصورة السينمائية و غيرها في ما طرأ على المجالات البصرية العديدة، ممّا جعل الصورة الشعرية في متون شعرنا المعاصر ما عادت تقوم على العناصر البلاغية القديمة من تشبيه و استعارة و تورية و غيرها من ضروب المُحسنات البلاغية بل أصبحت تستند على كثير من فنّيات الرسم و المسرح والسينما و الكاريكاتور و حتّى السرد و غيرها من التعبيرات بحيث أن الشاعر الحديث ما عاد يكتب متمثّلا الفصاحة والبلاغة في القصائد العصماء وحدها و إنما أضحى يستبطن مجالات عديدة فيوظف أساليبها و أدواتها حتى أضحى النصّ الشعريّ منفتحا على سجّلات متنوعة ومتعددة بعضها من ذاكرته و بعضهامن سليل القصائد و المتون القديمة، بالإضافة إلى إطـلالات الآداب الأخرى وفي بعضهايمكن أن نلاحظ في تلافيفه و في ظلاله أو في شكله و معماره شتّى آثار الفنون !
فالقارئ لقصيدة ( المساء) لإيليا أبي ماضي مثلا كأنه يشاهد منظرا سينمائيا في قوله :
السّحب تركض في الفضاء الرّحب
ركض الخائفين
و الشّمسُ تبدو خلفها صفراء
عاقدة الجبين
لكنّما عيناك باهتتان
في الأفق البعيد
و كذلك الأمر عند قراءة مطلع قصيدة ( أنشودة المطر) لبدر شاكر السيّاب تلك التي تبدأ كأنها لوحة تشكيلية أو مشهد تتراوح فيه الكاميرا بين عيني حسناء و بين طبيعة الواحة في العراق عندما يقول :
عيناك غابتا نخيل ساعة السّحرْ أو
شُرفتان راح ينأى عنهما القَمرْ
ففي هذين المثالين المشهورين من الشعر العربي المعاصر تبدو واضحةً تقنيات الرسم و التصوير بالريشة و العدسة بينما غابت إلى حد بعيد بلاغة الإبداع القديم و إنشائه لنجد مكانها بلاغة النص الشعري الجديد تلك التي تضيف و تثري الإبداع العربي .
أنا من جيل فتح وعيه على الأسئلة الكبرى في الثقافة و الأدب و في الشعر خاصة في الكتابة مثل سؤال بأي لغة نكتب؟ أَبالعربيةأَمْ بالفصحى أو بالعامية أم بالفرنسية؟!
ففي المرحلة التي عقبت سنة 1967 اِعترى الثقافة في تونس وفي أغلب البلدان العربية و حتى في الشرق الأقصى و أوروبا و أمريكا حيرة حادة اِستطاعت أن ترُجَّ كثيرا من الثوابت بسبب التأثير المباشر و الحاد للأزمات التي وقعت وقتذاك: فمن حرب جوان 1967 إلى حرب فتنام، ومن أصداء الثورة الثقافية في الصين إلى أحداث ماي 1968 في فرنسا، و إلى حركات التحرّر العارمة في أمريكا و إفريقيا تلك التي كانت كالسّيل العارم أو كالنّار تشبّ في اليابس من الأغصان وفي ما تهاوى من الجذوع واِنشرخ من الأغصان وفي ما تناثر من الأوراق …
كان من الممكن أن أنخرط في سياق السائد من الشعر الذي كان يتراوح بين معاني الغزل و المديح و بين معاني الرثاء و التباكي و جلد الذات ، و كان من الممكن أن أباشر الكتابة بالعامية متمثلا مقولة أنها أقرب إلى الجماهير و أسهل في التداول و الانتشار، بل كان بوسعي أن أنخرط في الكتابة باللغة الفرنسية باعتبار أنها اللغة الثانية في تونس و التي يمكن بها أن أتواصل مع مدى أوسع!
و لقد بدأت فعلا في الكتابة بتلك اللغة و لكنني بعدما اكتشفت أن في العملية انسلاخا و انبتاتا تراجعت. غير أني لم أنخرط في الكتابة بالعامية التونسية في تلك المرحلة و ذلك لسببين اثنين أولهما أنني علمت أنها كانت تعتبر دعوة للقضاء على الهوية الوطنية ذات الأصالة العربية و ثانيهما عدم قدرتي على التعبير بها عمّا كان يخالج نفسي من المعاني الغزيرة و العميقة و غم ذلك فإني أعتقد أن الأدب العامي بما يشمله من أمثال و حكم وأزجال وأغان و حكايات وخرافات و نوادر إنما هو إثراء للأدب العربي بل هو رافد مهم من روافد تجديده و تنوعه. غير أنه عندما تصبح الدعوة إلى ترك الفصحى و إبدالها بالدارجة مطلبا فإن الأمر عندئذ ينقلب إلى قضايا تتعلق بأساس الشخصية الوطنية التي أعتبر أن العربية هي اللّبنة الأولى في بنائها. في هذا السياق قد استفدت كثيرا من التراث الشفوي و خاصة في قصيدة ـ الجازية ـ التي راوحت فيها بين مستويات عديدة من اللغة سواء من القاموس الفصيح أو من السجل العامي البدوي و الحضري التونسي و كذلك المشرقي فرسمت صورة للجازية و جعلت من سيرتها مشاهد و لوحات و مواقف فيها الكثير من تقنيات الفنون الأخرى بالإضافة إلى فنيات السرد و غيره من ضروب الكتابة و الشعر بمختلف أنواعه.
إن مرجعية الشاعر الحديث اليوم ما عادت تقتصر كما كانت على الشعر القديم المبثوث في المتون و المختارات و المصنفات من الدواوين تلك التي يقتصر الإبداع الحقيقي فيها على بعض القصائد فحسب،بل صارت تلك المرجعية تستند أيضا إلى عديد النصوص الأخرى في الآداب القديمة و المعاصرة تلك التي اطلعنا عليها فاكتشفنا فيها آفقا و أنماط أخرى من الإبداع * حاولنا أن نقتبس من تلك المعالم الإنسانية إلى شعرنا الحديث من دون نسخ أو نقل مباشر فالآداب تتلاقح و تتمازج و تتحاكى و تتطور ليس بفعل الترجمة و الاطلاع فقط و إنما بسبب العوامل الاجتماعية و الحضارية أيضا. فالجيل الذي كتب قصائده على نمط التفعيلة ـ الشعر الحر ـ و خرج على نمطية البحور و القوافي عند منتصف القرن العشرين قد عبر بذلك عن خروجه على نسق المجتمع العربي القائم على التقاليد و القيم تلك التي تزحزحت بسبب التطور الكبير في حياتها ذلك الذي استطاع أن يؤثر في كل شيء فيها من تخطيط المدينة و معمارها، إلى فضاء البيت ومختلف العلاقات بين ذويه، و من أدوات الكتابة و القراءة، إلى أدوات الطبخ، ومن الأثاث و اللباس، إلى الأفكار و الإحساس…
إنّ قصيدة جيل النصف الثاني من القرن العشرين عبّرت عن ذلك التغيير والشرخ الكبير الذي تمرّ به المجتمعات العربية ضمن دوافعه الاجتماعية و التاريخية العديدة.
* أمّا الجيل الموالي الذي تشكل وعيه في سنوات الثلث الثالث من القرن العشرين فقد عاش فترة الانهيار و الانكسار و الدمار على المستوى المحلي والقومي و العالمي فأراد أن يبني و أن يؤسس على غير ما وجد لعله يجد الخلاص فرأيناه ينشد الجديد و الغريب أحيانا ليس في الشعر والآداب فحسب و إنما في شتى الفنون و قد استند على شرعية التجديد و البحث و التجريب تلك التي ترنو إلى إنجاز إبداع يمثّل هواجسها و يعبّر عن همومها و أحلامها وذلك هو الأمل و المبتغى فحسب كل جيل أن يثبت بصماته ! * لقد قلت مرة إن المحاولة في التجديد أفضل من النجاح في التقليد و إن إيماني بهذه المقولة كان نتيجة المناخ الثقافي الذي كان سائدا سنة 1970 تلك السنة التي بدأت فيها النشر.
من قصائدي الأولى التي صورت فيها ذلك البحث و ذلك الهاجس الجميل في تجاوز السائد قصيدة ـ الحذاء ـ:
جاء الربيع …
سيشتري حذاء
جاء الصيف …
سيشتري حذاء
جاء الخريف …
سيشتري حذاء
انقضى الشتاء …
فتعلم المشي حافيا!
و إلى اليوم و بعد مرور أكثر من ثلث قرن على هذه القصيدة مازلت أحاول و أبحث..!
و من تلك القصائد أيضا قصيدة المحطة التي عبرت فيها عن حيرتي المتأججة بين الأطروحات التي كانت قائمة وقتذاك و التي كانت تتجاذبني مرة نحو اليسار و مرة نحو اليمين فجعلت من المحطة مشهدا يصور تلك المرحلة فقلتفي قصيدة ـ المحطة ـ :
وقف المسافر وسط الميدان
يسأل عن العنوان :
إلى اليمين… ثم رويدا رويدا
إلى اليسار
– شكرا.
إلى اليسار…ثم رويدا رويدا
إلى اليمين
– شكرا.
أخذ المسافر حقيبته
و مضى إلى الأمام…!
هكذا صورت التناقض الذي عاشته الذهنيات في تلك السنوات المتأجّجة بالأسئلة و قد كانت الحركات الفكرية و السياسية قائمة على قدم و ساق سواء في الجامعة أو في الشارع و المجتمع أو في الأحداث العربية و العالمية و الواقع أنني كنت متابعا لها و قارئا نهما لمختلف أطروحاتها و أدبياتها فبقدر ما كنت أميل لرفض ممارسات الانضباط و التسلط و بقدر ما كانت بعض الإيديولوجيات قائمة على الشمولية بقدر ما كنت أجد التنوع و الاختلاف ثراء في المعرفة وزادا لملء الوطاب و غِنًى للفكرو فسحة للرّوح بحيث كنت أحب أبا ذر الغفاري و شيغيفارا معا و كنت معجبا بغاندي و حنبعل كليهما…
أنا لست منظرا في الفكر و الإديولوجيا و لا محترفا في السياسة و لكنني وجدت أن التاريخ الإنساني أكبر و أشمل من كل النظريات أ و بالتّالي فإن الشعر عندي أوسع من العروض و البحور و أشمل من البلاغة و البيان، و حتى اللغة قد تضيق به أحيانا… ثمة قصائد عندي ما مسكتها بحرف و لا أسكنتها ورقة فلا عجب أن كتبت في السنوات الأخيرة بعض الأشعار العمودية ربما بسبب الحنين إلى الجذور أو بحثا عن طرافة القديم في خضمّ الجديد لِمَ لا والشعر عندي لا يُحدّ بأشكال و لا يُعدّ بأنواع ؟!
أمّا الغريب والعجيب حقّا فإنه بعدما نشرت قصيدة أو قصيدتين منها تلقّاني بعضهم هاشّا باشّا قائلا : هذا هو الشّعر ! بينما أشاح عنّي بعضهم وجهه عابسا بقوله :ماهذه الردّة !؟
ْقَـلَـمٌ وَ اَللِّسَـانُ ذَهَــب
ذِكْـرَيَـاتِي بِـتِـبْــرٍ كَـتَـبْ
*
أَيْـنَ مِنْهُ يَـرَاعُ اَلصِّــــبَا
كَمْ بَـرَيْتُ دَقِيقَ اَلْقَصَبْ
*
وَرَسَمْتُ اَلْحُــرُوفَ عَلَى
لَوْحَةٍ مِنْ صَقِيلِِ اَلْخَـشَبْ
*
وَدَوَاةٍ كَـــلَـيْلٍ سَــــجَا
لَوْنُهَا الْبَحْرُ فِيهَا اِنْـسَكَبْ
*
وَ مِنَ اَلطِّينِ قَـــوَّرْتُـهَا
حِبْـرُهَا سَاطِـعٌ كَاَلشَّـهَـبْ
*
تَحْتَ قِــنْدِيلِ زَِيْـتٍ بَــدَا
رَاقِـصًا فِي ضِيَاءِ اللََّـهَبْ
*
وَدُخَانُ الشَّـذَى عَـــبِـقٌ
مَائِــسٌ طَيْـفُهُ كَاَلْــخَبَــبْ
*
فِي الشِّـتَاءِ أَنِيسٌ لَـــنَا
بِـخَـيَالٍِِِِ حَـكَايَـا العَـجَـــبْ
*
سَــنَوَاتٌ مَضَى عَــهْدُهَا
مَا أَلَـــذَّ دِثَــارَ الــكُـتُــبْ
*
لَمْ نَجِدْ فِي اَلصِّبَا غَيْرَهَا
فَلَبِــسْـــنَــا رِِدَاءَ الأََدَبْ
*
بِرَغْمِِ البِلَى لَا نُـبَـــدِّلُهُ
لَـــوْ بِأَعْــــلَى اَلــرُّتَـــبْ
*
وَ مَدَى العُمْرِ نَـــذْكُـرُهُ
! فَـلَقَـدْ كَـــانَ أَوَّلَ حُــــبْ
ألا إنّما الشّعر حال و سؤال و بحث لا يهدأ و لا يستقر على هيئة و لا يثبت على شكل ولا ينتهي عند حدّ لذلك ـ ربما ـ سُمّيت أوزان الشّعر بحورا وذلك لمدّها و جزرها ولهدوئها وصخبها و لغموضها و وضوحها… أليس الشعر أيضا كالنهر العظيم دائم الجريان والسيلان و قد يخرج عن مجراه في بعض الأحيان ؟!
————
*** نص الكلمة التي شاركت بها في ندوة ـ الصورة في الشعر العربي الحديث ـ بمدينة رادس يوم الجمعة 01/02/2006 مع الشعراء حسين العوري و جميلة الماجري و سالم اللبان و الأستاذ حسن بن حميدة الذي أدار الندوة وبمشاركة جمهرة من أساتذة الأدب العربي في تونس .