قراءة في قصيدة ـ لاعب الورق ـ الأستاذ حاتم حمّادي

مقاربة بُنيوية لقصيدة “لاعب الورق”
للشّاعر العربي التونسي الكبير “سوف عبيد”
****** لاعب الورق ******
لاعبُ الورقِ الماهرُ
ليس ذاكَ الذي
يأتيهِ الحظُّ بالأوراقِ الثمينةِ
دفعةً واحدةً
أو… واحدةً.. تلوَ واحدةٍ
الماهرُ حقاً في اللَّعِب
هو ذاك الذي
يُحسِنُ تنسيقَ الأوراقِ
كيفَما جاءتْ
وينتظرُ الورقةَ الخامسة
فإذا جاءتْ
هُيِّئَ لها مكانُها المناسبُ
ثمَّ
يَنظرُ نظرةً
نظرتينِ
في العيونِ المُقابلةِ
ويفرشُ أوراقَهُ
على الطاولةِ !
سوف عبيد
التحليل البنيوي لقصيدة لاعب الورق يتطلب تفكيك النص إلى عناصره الأساسية وفهم العلاقات بين هذه العناصر، مع التركيز على البنية اللغوية والدلالية والأسلوبية.
سأقدّم تحليلاً بنيويا لهذه القصيدة.

1. عنوان القصيدة:
“لاعب الورق”: العنوان يثير فضول القارئ بتقديم صورة رمزية لشخص يمارس لعبة الورق، وهي نشاط يحمل أبعادًا دلالية عديدة (اللعبة، الحظ، التفكير الاستراتيجي).
يوحي العنوان ببنية قائمة على التلاعب بين المهارة والصدفة، كما يتضمن إيحاءات فلسفية تتعلق بمصير الإنسان وقراراته.
2. بنية القصيدة:
القصيدة تتكون من مقاطع شعرية مترابطة، مقسمة عبر أسطر قصيرة، وهو ما يخلق إيقاعًا خاصًا، يتسم بالبطء والتركيز.
البداية: تبدأ القصيدة بوصف اللاعب الماهر وتمييزه عن اللاعب الذي يعتمد على “الحظ”، مما يشير إلى ثنائية المهارة مقابل المصادفة.
“لاعب الورق الماهر
ليس ذاك الذي
يأتيه الحظ بالأوراق الثمينة”
التحليل البنيوي: النص يُظهر التوتر بين القدر والإرادة البشرية. فاللاعب الماهر يمثل الإنسان الذي يتحكم في أدواته ويتجاوز العشوائية.
الوسط: ينتقل النص إلى التركيز على مهارة التنسيق والتخطيط:
“الماهر حقًا في اللعب
هو ذاك الذي
يُحسن تنسيق الأوراق”
التحليل: هنا تتحول الورق إلى رمز للحياة أو للفرص المتاحة، حيث تتطلب الحياة ترتيبًا دقيقًا واتخاذ قرارات حكيمة. اللاعب الماهر لا ينتظر، بل يرتب و”يُهيئ” كما يشير النص.
الختام: ينتهي النص بتصوير حركي ودقيق للّحظة التي تُكشف فيها الأوراق:
“ثم ينظر نظرة
نظرتين
في العيون المقابلة
ويفرش أوراقه
على الطاولة !”
التحليل: النهاية مفتوحة وتشير إلى ذروة اللعبة أو الحياة: لحظة المواجهة والكشف. التركيز على “العيون المقابلة” يوحي بحالة التوتر والرهان على النتائج.
3. البنية اللغوية والأسلوبية:
التكرار:
تكرار الكلمات مثل “واحدة… تلو واحدة” يُحدث إيقاعًا هادئًا ومتتابعًا يحاكي التدرج في ترتيب الأوراق.
التكرار يعزز المعنى ويبرز دقة الحركة.
الصور الفنية والرمزية:
“الأوراق الثمينة” = الفرص الكبرى في الحياة.
“تنسيق الأوراق” = الحكمة والتخطيط.
“يفرش أوراقه” = لحظة الكشف أو اتخاذ القرار.
التقابل:
تقابل واضح بين الحظ والمهارة، وبين الانتظار والفعل، ما يعزز ثنائية الصدفة والاختيار.
الإيجاز والتركيز:
الأسلوب يتسم بالإيجاز، حيث تُستخدم جمل قصيرة وكلمات محددة تبتعد عن الزخرفة، مما يخلق توترًا يُناسب جو اللعبة.
4. الدلالة والبنية العميقة:
البنية السطحية للقصيدة تُظهر لعبة ورق، لكن البنية العميقة تُعبر عن فلسفة الحياة:
اللاعب هو الإنسان،
الأوراق هي الفرص المتاحة،
التنسيق يُحيل إلى الإرادة والتخطيط،
النظرات تُوحي بالتفاعل مع الآخر والمواجهة المصيرية.
النص يكشف أن التفوق في الحياة (أو اللعبة) لا يعتمد على الحظ بل على المهارة والإدارة الذكية للموارد.
5. الخاتمة:
في قصيدة لاعب الورق، تتجلى الحياة بوصفها لعبة وجودية كبرى، تتقاطع فيها مهارة الإنسان مع عبثية المصادفة. الورق، الذي يُلقى في يد اللاعب، ليس مجرد أدوات، بل هو تمثيل رمزي للفرص والاحتمالات التي تُلقى في درب الإنسان عبر مسارات الزمن. هنا، يتخذ اللاعب الماهر موقعه بوصفه تجليًا للوعي الإنساني اليقظ؛ إنه الكائن الذي يرفض الانصياع للعبة القدر الأعمى، ويواجه الوجود بوعي يتحدى الفوضى، ليخلق نظامًا منسجمًا وسط بعثرة الورق.
في هذا الصراع بين الحظ والإرادة، تتماهى اللعبة مع جوهر الإنسان الوجودي:
هل الإنسان مُسير أم مُخير؟
القصيدة لا تُقدم إجابة حاسمة، لكنها تُبرز أن الكائن الحر هو من يملك “مهارة التنسيق”؛ أي القدرة على إعطاء معنى لما يبدو عبثيًا. فالورق لا يُرتب نفسه، والوجود لا يكشف نفسه دون فعل واعٍ؛ هنا تُصبح “اليد” التي تُهيئ الورقة الخامسة رمزًا لفعل الإرادة البشرية، حين تُعيد تشكيل الفوضى وتحولها إلى قرار ومصير.
وفي اللحظة التي “يفرش فيها اللاعب أوراقه على الطاولة”، يتجسد الوجود الإنساني في ذروته:
إنها لحظة المواجهة، لحظة الكشف التي تعري الإنسان أمام الآخر وأمام نفسه. في هذه اللحظة، تُحطم الذات أقنعة التردد والخوف، وتُعلن ما اختارته وما هيّأته بوعي كامل. لكن، ومع ذلك، يبقى السؤال معلقًا في العيون المقابلة:
هل انتصر اللاعب؟ أم أن اللعبة مستمرة؟
هكذا، تتجاوز القصيدة حدود اللعبة لتُصبح تأملاً في جدلية الوجود:
الإنسان ليس ضحية المصادفة المطلقة، ولا سيدًا مطلقًا على مصيره، بل هو لاعب دائم الترقب، يفاوض الزمن والقدر بحذر ومهارة، ويُعيد تشكيل “أوراقه” وفق وعيه وحدوده.
وفي النهاية، يُوحي النص بأن الحياة هي “طاولة اللعب الكبرى” التي تُفرد عليها الأوراق بلا ضمانات، حيث تبقى كل لعبة رهينة النظر إلى الآخر، إلى المصير، وإلى المجهول؛ تلك النظرة التي تُعبر عن اغتراب الإنسان وسط عالمه، لكنها في الوقت ذاته تؤكد حريته في أن يكون ما يُريد.
حاتم حمّادي.

حول سوف عبيد

* من مواليد موسم حصاد 1952 وسُجّل في دفتر شيخ المنطقة بتاريخ يوم 7 أوت 1952 ببئر الكرمة في بلد غُمراسن بالجنوب التونسي درس بالمدرسة الاِبتدائية بضاحية ـ مِقرين ـ تونس العاصمة سنة 1958 ـ بالمدرسة الابتدائية بغُمراسن سنة 1960 ـ بالمدرسة الابتدائية بنهج المغرب بتونس سنة1962 ـ بمعهد الصّادقية بتونس سنة 1964 ـ بمعهد اِبن شرف بتونس سنة 1969 * تخرّج من كلية اﻵداب بتونس بشهادة ـ أستاذية الآداب العربية ـ ثمّ في سنة 1976 بشهادة ـ الكفاءة في البحث ـ حول ـ تفسير الإمام اِبن عَرْفَة ـ سنة 1979 * باشر تدريس اللّغة العربية وآدابها بـ ـ معهد اِبن أبي الضّياف بمنّوبة ـ المعهد الثانوي ببوسالم ـ المعهد الثانوي بماطر ـ معهد فرحات حشاد برادس * بدأ النّشر منذ 1970 في الجرائد والمجلات : الصّباح ـ الملحق الثقافي لجريدة العمل ـ الصّدى ـ الفكر ـ ألِف ـ الحياة الثقافية ـ الموقف ـ الشّعب ـ الرأي ـ الأيام ـ الشّرق الأوسط ـ القدس,,,وبمواقع ـ دروب ـ إنانا ـ المثقّف ـ أنفاس ـ أوتار ـ ألف ـ قاب قوسين ـ … * شارك في النّوادي والنّدوات الثقافية بتونس وخارجها : ليبيا ـ الجزائر ـ المغرب ـ مصر ـ العربية السعودية ـ الأردن ـ سوريا ـ العراق ـ إسبانيا ـ فرنسا ـ إيطاليا ـ ألمانيا ـ بلجيكا ـ هولاندا ـ اليونان ـ * من مؤسسي نادي الشّعر بدار الثقافة ـ اِبن خلدون ـ بتونس سنة 1974 واِنضمّ إلى اِتّحاد الكتاب التونسيين سنة 1980 واُنْتُخِبَ في هيئته المديرة في دورة سنة 1990 أمينا عاما ثم في دورة سنة 2000 نائب رئيس فساهم في تنظيم مؤتمر اِتحاد الأدباء العرب ومهرجان الشعر العربي بتونس سنة 1991 وفي إصدار مجلة ـ المسار ـ وفي تأسيس فروعه وفي تنظيم الندوات والمهرجانات الأدبية وشارك في الهيئة الاِستشارية لمجلة الحياة الثقافية وأسّس منتدى أدب التلاميذ سنة 1990 الذي تواصل سنويا في كامل أنحاء البلاد إلى سنة 2010 ونظّم الملتقى الأوّل والثاني لأدباء الأنترنت بتونس سنتي 2009 و 2010 وأسس نادي الشعر ـ أبو القاسم الشابي ـ سنة 2012 وترأس جمعية ـ اِبن عرفة الثقافية ـ سنة 2013 و2014 وأسس جمعية مهرجان الياسمين برادس 2018 * صدر له 1 ـ الأرض عطشى ـ 1980 2 ـ نوّارة الملح ـ 1984 3 ـ اِمرأة الفُسيفساء ـ 1985 4 ـ صديد الرّوح ـ 1989 5 ـ جناح خارج السرب ـ 1991 6 ـ نبعٌُ واحد لضفاف شتّى ـ 1999 7 ـ عُمرٌ واحد لا يكفي ـ 2004 8 ـ حارقُ البحر ـ نشر إلكتروني عن دار إنانا ـ 2008 ثم صدر عن دار اليمامة بتونس ـ 2013 9 ـ AL JAZIA ـ الجازية ـ بترجمة حمادي بالحاج ـ 2008 10 ـ ألوان على كلمات ـ بلوحات عثمان بَبّة وترجمته ـ طبعة خاصة ـ 2008 11 ـ حركات الشّعر الجديد بتونس ـ 2008 12ـ صفحات من كتاب الوجود ـ القصائد النثرية للشّابي ـ2009 13 ـ oxyde L’âme قصائد مختارة ترجمها عبد المجيد يوسف ـ2015 14ـ ديوان سُوف عبيد ـ عن دار الاِتحاد للنشر والتوزيع تونس2017