تجديد ـ الشّوق ـ

تجديد الشّوق

سُوف عبيد

عَبّر الشّعراء العرب في مختلف الأعصار والأمصار عن الشّوق والحنين مُستعملين سِجّلا من الكلمات المترادفة والصّور الدّالة على المعاني المتقاربة فهي ولئن اِمتاز الكثير منها بقدر كبير من رهافة الإحساس على نمط جمالية البلاغة القديمة فإنّها كانت تنحُو منحى التّعبير المباشر كقول عنترة اِبن شدّاد:

يا دارَ عبلةَ بالجِـــواء تكلّمـــــــــي ** وعِمِي صباحا دارَ عبلة واسلَمِي

ومثل قول قيس بن الملوّح:

أَمُـرُّ عَلَـى الدِّيَـارِ دِيَـارِ لَيْلَــى ** أُقَبِّــلُ ذَا الجـِدَارَ وَذَا الجــِدَارَ

ويصرّح البُحتري بشوقه قائلا:

شَوْقٌ إلَيكِ تَفيضُ منهُ الأدمُعُ ** وَجَوًى عَلَيكِ، تَضِيقُ منهُ الأضلعُ


كما باح اِبنُ زيدون بذلك:

إنّي ذكرْتُكِ، بالزّهراء، مشتاقَا ** والأفق طَلق ومَرأى الأرض قد راقَا

ومع تطوّر الشّعر العربيّ بفضل المدّ الرّومنطيقي أضحى الشّوق من

معاني المعاناة الوجوديّة كما في قول الشّابي:

يَنْقَضِي العَيْشُ بَيْنَ شَوْقٍ وَيَأْسِ ** والمُنَى بَيْنَ لَوْعة ٍ وَتَأَسِّ

وفي قوله:

ومَــن لــم يُعانقْـه شـوْقُ الحيـاة ** تبخَّـــرَ فــي جوِّهــا واِندثــرْ

ويجعل الشّابي من الأشواق التائهة عنوانا لإحدى قصائده المتميّزة وعلى خطى الشّابي جعلت فدوى طوقان أشواق حائرة عنوانا لإحدى قصائدها أيضا وهذا مصطفى خريّف يختار شوق وذوق عنوانا مُلخّصا لجميع قصائد ديوانه.

وقد اِنبرى الشّعر الحديث للتّعبير عن الوجدان المعاصر فسلك مسالك أخرى على مستوى المَبنى والمعنى ويمكن أن تكون قصيدة قوافل الشّوق لوهيبة ڤويّة وقصيدة المقهى الأزرق لعبد المجيد يوسف أنموذجين في موضوع الشّوق ضمن النّمط الجديد من الشّعر الّذي أضحى من سِمات بعض المدوّنات الشّعريّة العربيّة على مدى سنوات مطلع القرن الحادي والعشرين.

قوافل الشّوق ـ وهيبة ڤويّة

أجالس كرسيّك المستريح أمامي

أجالس فنجان شوقي

وأحضن طيفك يمضي

فأهمس سرّاوأهذيتعال

تعال

ولا تبتعد إلاّ نبضا بنبضي

بنبضي قوافل شوق تمرّ ربيعاخريفا

وتحطب من غصّة الكلمات قصيدا

وتبذر في الرّيح كرما

وتجني عناقيد صمتي بصمتٍ

وصمتيوأنت تعير خطاك إلى الرَّحْلِ

محرابُ قلبي

وبوح الأناشيد

جرْس القوافي

وصحوة أحلاميَ اليانعات

ونبض الورود على الشّفة الذّابله

ويذبل نبضي

ويُخفي ضياءُ المصابيح عِقدَ السّماء

وأَلْقَى أمامي

ثلوج المدى قد ترامت بأقصى خطوطٍ بكفّي

وفنجانيَ الفارغَ مستريحا

وكرسيّ طيف

يجالس ضوءًا بأعماق روحي

المقهى الأزرق ـ عبد المجيد يوسف

أخطأت النّادلة

فأحضرت لنا كأسيْــن

كأنّ بها حــــــــوَلا

نحن واحـــد متّحـــد، فكيف رأتنا اثنيْــن؟

الطّرف يأخذ بالطّرف

والنّبض مشوب بالنّبض

والعين تسيـــــــح في العين

والجزء يذوب في الجزءوالصّوت صدى

روحان في جسدجسدٌ في روحيْــــن

واليوم أعود إلى ذات المقهى

وأنا غير أنا

مختلفمنشطر وكسير

أجلس في ذات الرّكن

قمرا متهرئا وقديم

تقف النادلة

ثمّ تولّي مدبرة حيرى

تبحث في السلّة عن شيء يشبهني

كوب مشطور نصفــــــيْن.

إنّ قصيدة قوافل الشّوق اِستحضارٌ لطيْفٍ غائب ودعوةٌ للأنس به وذلك بالمجالسة والحديث معه حول فنجان قهوة فالشّاعرة تتخيّله جالسا على كرسيّه وتشعر به قريبا جدا منها بل تحسّ به من خلال نبضاتها فهو قد صار أقرب إليها من حبل الوريد من خلال المجالسة والاِحتضان والهمس وإذا ما ابتعد عنها فإنّ المسافة لا تتجاوز الزّمن الّذي يفصل بين نبضة ونبضة فكأنّه بذلك يزداد قُربا ولكنّه قُرب كالسّراب فعندما تناديه وقد حسبته جالسا أمامها أو بقربها تكتشف أنّه لا يعدو أن يكون طيفا على الكرسي

من ثَمّةَ تتهاوى اللّحظات البهيجة من علياء الوجد والحبور إلى الفراغ السّحيق فيتحوّل الرّبيع إلى خريف والهمس إلى غُصّة والطّيف إلى حطب والبوح والأناشيد والأحلام اليانعات والورود تغدو إلى ذبول وانكسار فبعد لذيد الحلم أفاقت على كوابيس الغياب ولكن دون السّقوط في اليأس والعدمية بل إن خاتمة القصيدة وقد سادت العتمة في أرجائها فإنها تُفضي إلى النّور في الختام.

القصيدة إذن تصوير لحالة الشّوق عندما يشتدّ حتّى يتخيّل المشتاقُ حضور المشتاق إليه فيراه بقربه يناجيه ولكنّه ما يكاد يُوقن بوجوده حتّى يكتشف الخواء والخلاء ورغم تلك الخيبة فإن التّفاؤل يظل باسطا نوره في آخر القصيدة.

ومن ناحية المبنى فالقصيدة تمثّل حركة لولبيّة إذْ تبدأ كلّ حلقة تقريبا من حيث انتهت السّابقة كقولها:

فأهمس سرّاوأهذيتعال

تعال

ولا تبتعد إلاّ نبضا بنبضي

بنبضي قوافل شوق تمرّ ربيعا

وكقولها أيضا:

وتجني عناقيد صمتي بصمتٍ

وصمتيوأنت تعير خطاك إلى الرَّحْلِ

ذلك ما يجعل القصيدة تدفع بعضها بعضًا في حركة تصاعديّة قائمة على توالي الصّور والمناظر بداية من الكرسيّ والفنجان إلى الرّحل والمحراب ومرورا بالقوافل والورود وانتهاءً بالثّلوج والضّياء ممّا يجعلها عديدة الإيحاءات عميقة الأبعاد فهي بطرقها موضوع الشوق عبّرت عنه بمحامل اللمح والرّمز أكثر من محامل البوح والتصريح وتلك من أساليب الإضافات والتجديد وسمات البحث والابتكار.

وفي نفس السّياق تقريبا أي التّعبير عن الشّوق والحنين بأسلوب جديد مبتكر نقرأ المقهى الأزرق لعبد المجيد يوسف الّذي نهج فيه أسلوب السّرد لكأنّه ينقل لنا خبرا أو يصف واقعة بعيدا كلّ البعد عن معجم الشّوق وما قاربه من سِجلاّت الحبّ والشّجون حيث نقل لنا حالتين أو واقعتين.

تتمثّل الأولى في جلوسه مع الحبيبة في ركن مقهى وهما في حالة اِنسجام تامّ ثمّ صوّر لنا جلوسه في نفس المكان وحيدا مشتاقا إلى ذكرى الجلسة الأولى وقد بدأ القصيدة قائلا:

أخطأت النادلة

فأحضرت لنا كأسيْــن

كأنّ بها حــــــــوَلا

غير أنّ القصيدة تنزاح انزياحا غريبا عندما نعلم أنّ الشّاعر كان من الاِنسجام والتآلف والتّوحّد مع حبيبته حتّى صار وهما الإثنان واحدا:

نحن واحـــد متّحـــد، فكيف رأتنا اثنيْــن؟

الطّرف يأخذ بالطّرف

والنّبض مشوب بالنّبض

والعين تسيـــــــح في العين

والجزء يذوب في الجزءوالصّوت صدى

روحان في جسدجسدٌ في روحيْــــن

لذلك تعجّب الشّاعر من النّادلة عندما أحضرت لهما كأسين إثنتين! وهنا يكمن الوقع الشّديد في التّعبير بالصّورة والرّمز عن قوّة الاِنصهار بين الحبيبن كقول بِشَارة الخُوري:

لو مرّ سيف بيننا لم نكن نعلمُ هل أجرى دمى أم دمَكْ

ثمّ تعجّب الشّاعر ثانيةً عندما عاد مرّة أخرى وحده في حالة نفسيّة متدهوة عبّر عنها بصورة القمر المهترئ القديم وبتعجّب النّادلة الّتي عوض أن تُقدّم إليه كأسا فإنّها سارعت حيرى تبحث عن كوب مشطور إلى نصفين رمزا للفراق أو كناية عن البُعد بينه وبين حبيبته:

تقف النّادلة

ثمّ تُولّي مدبرة حيرى

تبحث في السلّة عن شيء يشبهني

كوب مشطور نصفــــــيْن.

فالقصيدة اِتّخذت من السّرد والرّمز والمفاجأة عناصر أساسيّة للتّعبير عن الحالة النّفسيّة للشّاعر في حالتيْ الاِئتلاف والِاختلاف مع حبيبته وقد ركّز على حضور النّادلة وتصرفها العجيب في المناسبة الأولى والثّانية وفي كلّ مرّة يكون ردّ فعلها عاكسا لوجدان الشّاعر.

إنّ قصيدي قوافل الشّوق و المقهى الأزرق يمكن أن نعتبرهها إنجازا شعريّا بما فيهما من إضافة وبحث في موضوع قديم جديد… ألا وهو الشّوق والحنين .

رادس ـ 1 ماي 2015

حول سوف عبيد

* من مواليد موسم حصاد 1952 وسُجّل في دفتر شيخ المنطقة بتاريخ يوم 7 أوت 1952 ببئر الكرمة في بلد غُمراسن بالجنوب التونسي درس بالمدرسة الاِبتدائية بضاحية ـ مِقرين ـ تونس العاصمة سنة 1958 ـ بالمدرسة الابتدائية بغُمراسن سنة 1960 ـ بالمدرسة الابتدائية بنهج المغرب بتونس سنة1962 ـ بمعهد الصّادقية بتونس سنة 1964 ـ بمعهد اِبن شرف بتونس سنة 1969 * تخرّج من كلية اﻵداب بتونس بشهادة ـ أستاذية الآداب العربية ـ ثمّ في سنة 1976 بشهادة ـ الكفاءة في البحث ـ حول ـ تفسير الإمام اِبن عَرْفَة ـ سنة 1979 * باشر تدريس اللّغة العربية وآدابها بـ ـ معهد اِبن أبي الضّياف بمنّوبة ـ المعهد الثانوي ببوسالم ـ المعهد الثانوي بماطر ـ معهد فرحات حشاد برادس * بدأ النّشر منذ 1970 في الجرائد والمجلات : الصّباح ـ الملحق الثقافي لجريدة العمل ـ الصّدى ـ الفكر ـ ألِف ـ الحياة الثقافية ـ الموقف ـ الشّعب ـ الرأي ـ الأيام ـ الشّرق الأوسط ـ القدس,,,وبمواقع ـ دروب ـ إنانا ـ المثقّف ـ أنفاس ـ أوتار ـ ألف ـ قاب قوسين ـ … * شارك في النّوادي والنّدوات الثقافية بتونس وخارجها : ليبيا ـ الجزائر ـ المغرب ـ مصر ـ العربية السعودية ـ الأردن ـ سوريا ـ العراق ـ إسبانيا ـ فرنسا ـ إيطاليا ـ ألمانيا ـ بلجيكا ـ هولاندا ـ اليونان ـ * من مؤسسي نادي الشّعر بدار الثقافة ـ اِبن خلدون ـ بتونس سنة 1974 واِنضمّ إلى اِتّحاد الكتاب التونسيين سنة 1980 واُنْتُخِبَ في هيئته المديرة في دورة سنة 1990 أمينا عاما ثم في دورة سنة 2000 نائب رئيس فساهم في تنظيم مؤتمر اِتحاد الأدباء العرب ومهرجان الشعر العربي بتونس سنة 1991 وفي إصدار مجلة ـ المسار ـ وفي تأسيس فروعه وفي تنظيم الندوات والمهرجانات الأدبية وشارك في الهيئة الاِستشارية لمجلة الحياة الثقافية وأسّس منتدى أدب التلاميذ سنة 1990 الذي تواصل سنويا في كامل أنحاء البلاد إلى سنة 2010 ونظّم الملتقى الأوّل والثاني لأدباء الأنترنت بتونس سنتي 2009 و 2010 وأسس نادي الشعر ـ أبو القاسم الشابي ـ سنة 2012 وترأس جمعية ـ اِبن عرفة الثقافية ـ سنة 2013 و2014 وأسس جمعية مهرجان الياسمين برادس 2018 * صدر له 1 ـ الأرض عطشى ـ 1980 2 ـ نوّارة الملح ـ 1984 3 ـ اِمرأة الفُسيفساء ـ 1985 4 ـ صديد الرّوح ـ 1989 5 ـ جناح خارج السرب ـ 1991 6 ـ نبعٌُ واحد لضفاف شتّى ـ 1999 7 ـ عُمرٌ واحد لا يكفي ـ 2004 8 ـ حارقُ البحر ـ نشر إلكتروني عن دار إنانا ـ 2008 ثم صدر عن دار اليمامة بتونس ـ 2013 9 ـ AL JAZIA ـ الجازية ـ بترجمة حمادي بالحاج ـ 2008 10 ـ ألوان على كلمات ـ بلوحات عثمان بَبّة وترجمته ـ طبعة خاصة ـ 2008 11 ـ حركات الشّعر الجديد بتونس ـ 2008 12ـ صفحات من كتاب الوجود ـ القصائد النثرية للشّابي ـ2009 13 ـ oxyde L’âme قصائد مختارة ترجمها عبد المجيد يوسف ـ2015 14ـ ديوان سُوف عبيد ـ عن دار الاِتحاد للنشر والتوزيع تونس2017