إنَ المتأمّل في سيرة الفقهاء والعلماء في إفريقية على توالي العصور وتتالي الأمراء والسّلاطين والبايات يلاحظ
أولا ـ أنهم دأبوا على نشر العلم في الحواضر والبوادي والجبال والفيافي فعاشوا بين الناس عيشة البساطة والشَظف ونشروا اللغة العربية والقرآن الكريم فبفضلهم أضحى اللسان العربي سائدا في ربوع بلاد الأمازيغ بل اِمتدَت بفضلهم لغةُ الضاد إلى ما وراء الصحراء في إفريقيا واِنتشرت على مدى السواحل الشمالية من الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط من صقلية إلى الأندلس والبرتغال
ثانيا ـ أن الكثير من أولئك الفقهاء والعلماء قد كانوا من المدافعين عن حمى الأوطان أو مرابطين في قلاع الثغور أو مشاركين ضدّ الغزاة أو حاملين للألوية في الفتوحات من بينهم ـ عبد الرحمان بن زياد بن أنعم المولود حوالي سنة 74 للهجرة وقد شارك في الوقائع البحرية فأسره الرَوم ثم اُفتدي وفُكّ من الأسر فأرسل مقطوعة إلى أهله يقول فيها
ذكرتُ القيروانَ فهاج شوقي * وأين القيروان من العراقِ
مسيرة أشهر للعِيس ِ نــصًا * على الخيل المضَمّرَةِ العِتَاق
فَبَلِّغْ أنْعَمًا وبني أبيــــــــــه * ومَنْ يُرجَى لَنَا وَلَهُ الــتّلاَقي
بأنَّ الله قد خلّى سبيــــلي * وَجَدَّ بِنا المسيرُ إلى مـزاقِ
ومن أولئك الذين حملوا لواء الجهاد الإمام سحنون المولود سنة 160 هـ فقد كان كثيرا ما يَتَمثّل بقوله
كُلّ شيءٍ قد أراه نُكْــــرًا * غيرَ ركز الرّمح في ظهر الفرسْ
وقيامٍ في حناديس الدّجى * حارسًا للقوم في أقصى الحرسْ
ثالثا ـ أن عددا كبيرا من أولئك العلماء والفقهاء كانوا مستقلين عن الحاكمين غير راغبين في تولَي المناصب مثل منصب القضاء والحسبة وتدريس أبناء الطبقة الحاكمة فعاشوا من كدّ يمينهم ومن كسبهم في سائر ضروب المعاش وكانوا ينتصرون للضعفاء ناصحين لأولي الأمر ولا يخشَوْن في الحق لومة لائم وإنّ كُتب التراجم والطبقات زاخرةٌ بعديد الأمثلة من بينها ما أورده حسن حسني عبدالوهاب فقد أورد أنّ الإمام سحنون الذي توفي سنة 240 للهجرة اِشترط على الأمير الأغلبي عندما قلّده القضاء بعد إلحاح أن يبدأ بتطبيق الأحكام على أهل بيته وأعوانه وأن لا يتسلم عطية أو مالا منه فقبل الأمير منه ذلك وأورد كذلك حسن حسني عبد الوهاب أن محرز بن خلف كتب رسالة إلى الأمير الصنهاجي يقول فيها وقد أوصى إليه ببعض تلاميذه ـ أنا رجل عرف كثيرٌ من الناس اِسمي وهذا من البلاء وأنا أسأل الله أن يتغمدني برحمةٍ منه وفضل وربما أتاني المضطر يسأل الحاجة فإن تأخرتُ خفتُ وإن ساعدتُ فهذا أشدّ وقد كتبتُ إليك في مسألة رجُل من الطلبة طولب بدراهم ظلما ولا شيء عليه فعاملْ فيه مَن لابد لك من لقائه واِستح ممّن بنعمته وَجدتَ لذيذ العيش واِستعنْ في أمرك بمن يتّقي الله
أمَا الملاحظة الأخيرة فإنها تتمثل في أن العديد من أولئك الفقهاء والعلماء في تونس و إفريقية تُنسب إليهم أشعار قليلة أو كثيرة و لم يخالف هذه الوتيرة حتى الفقيهُ اِبنُ عرْفة والمؤرخ اِبنُ خلدون ويمكن أن نعدّ البعض منهم شعراء بارزين في عصورهم مثل مُحرز بن خلف الذي عاصر القرن الرابع والخامس الهجري ومثل إبراهيم الرياحي الذي عاصرالقرن التاسع عشر الميلادي وقد سار على هذا المنهج في قرض الشعر كثيرٌ من الشيوخ المعاصرين المتخرّجين من الزيتونة نذكر منهم خاصة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور والشيخ الخضر حسين وقد نسج على منوالهما الشيخ الحبيب المستاوي الذي نعتبره آخر عنقود الفقهاء الذين جمعوا بين منهج الدعوة الدينية ووجدان الملكة الشعرية فكيف تجلت هذه الثنائية في شعر الشيخ الحبيب المستاوي ؟
في أكثر من قصيدة في ديوان ـ مع الله ـ نجد ذكر الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور الذي يعتبره رمزا للعلم والإصلاح حيث يقول في تأبينه
ِهو الغيثُ مَنهلا وقد أصبحتْ به * مرابعُ أهل العلم خيرَ المَرابــــــع
أفاضَ على الدنيا فضائلَ روحه * وحَبّب في الإسلام أهلَ الــــذرائع
بأخلاقه المُثلى وحكمته التي * تشرّبها من فيض تلك المـــنــــــابع
سنبقى ـ مع التوفيق ـ جُندَ محمد * ونعملُ للإصلاح دون تــــــراجع
فَنَمْ مُطمئنّ البال خلفك نخبةٌ * سَمَوا بالمعاني عن رخيص المطامع
وداعا أيا شيخي وشيخُ زمانه * وداعَ مُحبّ للمُهيمن خــــــــــــاضع ـ ص 31
ونراه يذكر شيخه أيضا حتى وهو بعيدٌ عن أرض الوطن في قصيدة قالها وهو بالمغرب الأقصى ـ ص 39 ـ
وللعلم فإن الشّيخ محمد الفاضل بن عاشور يُعتبر سليلَ المدرسة الإصلاحية التونسية تلك التي ظهرت منذ منتصف القرن التاسع عشر وقامت على دعامتين أساسيتين متلازمتين هما الأصالة والتحديث , الأصالة في الدعوة إلى التمسك بقيم الإسلام وجوهره ومقاصده والتحديث في الدعوة إلى روح العصر والاِستفادة من منجزات الغرب, تلك هي الثنائية التي تأسّست عليها الحركات والمبادرات الاِجتماعية والأدبية والفنية والسياسية عامة ولكن بدرجات متفاوتة أحيانا بين هذا الطرف وذاك وإننا نستشفّ في أغلب دواوين شعراء القرنين التاسع عشر والعشرين المنهج الإصلاحيَّ الداعيَ إلى العدل والعلم حينا وإلى التحرر من الاِستعمار حينا ثم إلى الخروج من مظاهر التخلف ومواكبة التقدم حينا آخر كما في قصيد ـ من وحي المولد ـ للشيخ المستاوي حيث يقول
َ إيه يا أمّة الخلود لماذا * فاتك الرّكب ؟ أفصحي بالمقـــــــال
ليت شعري كم ذا يدوم هُجوعٌ ؟ * هل أصيب اِتصالُنا بانفصال ؟
هل فُتنا ببهرج وطـــــلاء * واِنتشينا بفارغ الآمــــــــــــــــال
ونبذنا تراثنا بـــــــازدراء * في عُقوق وقِحّة وابتــــــــــــذال
أقفر القلبُ والعزائم خارتْ * وأصيب الذكاء بالاِمّحـــــــــــال
فأفيقُوا ـ فديتُكم ـ من سُبات * اِرجِعوا ـ ويحَكم ـ بدون مِطال
حيث يُقرّ الشيخُ أنّ الأمة العربية الإسلامية أضحت متخلّفة عن ركب الحضارة ويُرجع ذلك إلى عدة أسباب من بينها خاصة اِستفحالُ الوهَن في النفوس وضُمور الذكاء في الرؤوس ونسمعه ينادي أن أفيقوا واِستيقظوا وإنَ المتأمل في مسيرته يلاحظ أنه دأب على العمل التربوي والنقابي والخطابي والدعوي والصحفي والإذاعي على مدى أغلب فترات حياته التي لم تخلُ من الاِنخراط في النشاط السياسي أيضا وقد سمح له ذلك بالوقوف أمام بعض الرؤساء والملوك منشدا قصائده التي كانت مناسبة لإعلان منهجه الإصلاحي القائم على النقد لبعض الأوضاع مما يجعلها تخرج إلى حد بعيد في كثير من الأحيان عن تقاليد غرض المدح وتضع الإصبع على الجرح فعندما أنشد قصيده أمام الملك فيصل ملك العربية السعودية قد اِستهلّها بالتغنّي بمدينة القدس قائلا
رحاب القدس أهزُج في رُباها * أهيم بها وأفنَى في علاها
وأسبح في خضم من رؤاها * فكيف أطيق عيشا في سواها
ولها دمي وأنفاسي وقصدي
وفي غضون وسط القصيدة نراه يقول
لقد عبث اليهود بأرض قدس * وقد ملأوا البلاد بكل رجس
ويمضي اليومُ يجري خلف أمس * ونحن نعيش في أمل التأسّي
ولا نأتي بما يُغني ويُجدي
وفي القصيدة بعض المقاطع التي تُعتبر جريئة بل ربما لا تُناسب المقام الملكي حيث يقول في أسلوب النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكنه أسلوب مشوب بكثير من الزجر والتوبيخ كذلك
ألا عُودوا إلى سُبل الرشاد * وذُودوا عنكم شبح الفساد
ولبّوا مَن دعا للاِتحاد * به قد جاءنا خيرُ العـــــــــــــباد
وليس الجمعُ يُكسر مثلَ فرد
ونراه كذلك يؤكد على ضرورة صدق الحكام وصلاح العلماء وهو بتركيزه على هذه الثنائية الأساسية إنما يؤكد على تلازم الثقافي والسياسي ضمن جدلية قائمة أساسا على الإخلاص حيث يقول
ولو صدق الكبار الحاكمونا * ولو صلُح الشيوخ العالمونا
لما عبث القُساة الظالمونا * ولا غلب الخصوم الماكرونا
ولا درج البُغاث على التحدّي
ويتدارك الشيخ المستاوي هذه اللهجة الصريحة والحادة في آخر القصيدة قائلا في أسلوب المجاملة والكياسة هو أقرب إلى الدبلوماسية ذلك أن القصيدة قيلت بمناسبة مشاركته في الوفد الرسمي للحجيج التونسيين إذ يقول
تحايانا إلى الشعب السّعودي * وفيصلُه المُعلَّم بالصمود
مَليك شأنُه حفظ العهود * وقاهُ الله من حسد الحسود
فلم يحفل بمدح أو بنقد
من الخضراء والبطل الحبيب * أخيكَ الطيّبِ القلب النَجيب
نُراعي رفقة الزمن العصيب * وما قد شدّ من نسب قريب
ونأتي للحمى في خير وفد
ومثلُ هذه القصيدة قصيدةٌ أخرى في لُحمتها وسَداها قالها في الملك الحَسن الثاني ملكِ المغرب حيث بدأها بوصف رحلته على الطائرة ثم اِستعرض أمجاد المغرب المختلفة عبر العصور ومذكرا إيَاه بنَسبه بالرَسول المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم بدأ في إسداء النصيحة من باب الوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك في قوله
المُلك عدل والشعوب وديعة * والحبّ يجرحه عنيف المــلام
من صانه لا شك سوف يصونه * أبدا فيضحى فوق كل خصام
يا أيها الملكُ المنيعُ جنابُه * اِسلمْ لشعبك حافظا لذِمــــام
اِرجع به نحو الأصالة إنها * أصلُ الخلود ومِرهمُ الأســـــــقام
فالمنهج الإصلاحي في شعر الشيخ الحبيب المستاوي قائم على القيم الأصيلة تلك القيم التي كانت أساسَ الحضارة العربية الإسلامية عندما كانت في أوج اِزدهارها لذلك نراه ينظر إلى بعض المظاهر الدخيلة على المجتمع نظرة اِزدراء واِستنكار حيث يقول
فترى الفتاة خليعة مرذولة * ممسوخة في الشكل والــــهندام
وترى الفتى متخنثا متشبها * بالمائسات وساخرا بمــــــــــلام
زحفتْ قشور حضارة مزعومةٍ * نحو الشباب فغاب في الأوهام
هلا أعدتم يا مليك بناءه * في الحكم في التعليم والإعـــــــــلام
إنّ مثل هذه القصائد التي تَوجّه بها الشيخ الحبيب المستاوي إلى بعض الرؤساء والملوك والتي دعا فيها إلى منهجه الإصلاحي لابدّ من التساؤل إلى أي حدَ كان الذين خاطبهم فيها مثّلوا جزءا من الفساد الذي واجهه وهل كان بإمكانهم الإصلاح المنشود ؟ وهل كان شاعرا وواعيا بذلك ؟
في هذا السّياق من الضروري أن نبحث بعمق وبكل موضوعية في العلاقة التي كانت بين الشاعر الحبيب المستاوي والرئيس الحبيب بورقيبة وكيف تعايش في فترة من الفترات المنهج الإصلاحي لدي الشيخ الزيتوني ذي الأس التقليدي مع المشروع التحديثي لدى الزعيم بورقيبة ذي التوجه الغربي بالرّغم من أنّ ذينك البُعدين يُمثلان طرَفي معادلةٍ سادت على مدى القرن العشرين في تونس وقد تراوحت العلاقة بينهما بين المدّ والجزر حينا وبين الاِختلاف والاِئتلاف حينا وبين الوئام والاِنسجام أحيانا وقد مثّل شعر الشيخ الحبيب المستاوي صورة لبعض تلك الفترات من العلاقة بين المشروعين المتناقضين في الظاهر لكنهما يمثلان في الباطن جدلية التطور في تاريخ المجتمعات تلك الجدلية التي لم نظفر بمعادلتها الصحيحة إلى اليوم غير أني أرى أنها تتطلب بعض الشروط من بينها
ـ إذكاء حركة الاِجتهاد والتجديد ضمن مقاصد الإسلام السّمحة
ـ اِعتبار المنجزات الإنسانية في العالم من مساهمات العرب المسلمين فيها أيضا
ـ الاِبتعاد عن الولاءات الخارجية فلا ولاء إلا للأوطان وحدها
ـ إبراز قيمة العمل والكسب والسّعي نحو الترقّي
ـ إشاعة مناخ الحوار وقبول الاِختلاف في كنف الاِحترام
فلقد قال أسلافنا الصّالحون ـ رأيي صحيح يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل
الصّواب
وفي ذلك فليتنافس المُتنافسون واللّه وليُّ التّوفيق
سُوف عبيد
رادس 7 مارس 2014