ذكرى الشّابي رسالة الشابي
عند فجر يوم التاسع من أكتوبر 1934 أسلم أبو القاسم الشابي روحه إلى باريها بعد معاناة ضارية مع المرض والشعر وتاركا ديوانه ينتظر الطبع والنشر لكنه ظلّ على الرفوف أكثر من عشرين سنة حتّى نشر في مصر سنة 1955.
إنّ مسيرة الشابي ومعاناته ستبقى مرجعا للمبدع الذي يروم أن يعانق شوق الحياة وجمال الوجود متحدّيا شوق الحياة وجمال الوجود متحدّيا بذلك العوائق والحواجز والمُحبطات وكم كانت عديدة أمام الشابي لكنه اِستطاع أن يجعلها حافزا يستنهض همته ويقوي عزمه ودافعا يرنو به نحو الآفاق الرحبة العالية!
– لم يكتب الشابي الشعر فحسب، وإنما جال بقلمه في فنون النقد والخاطرة والقصة والمذكرات والرسائل والمحاضرات وكان مستوعبا لإنجازات الأدب العربي في عصره ومطّلعا على المدارس الغربية الرائجة وقتذاك ومنخرطا في حركة التطلع والتحرّر لشعبه ومواكبا لإرهاصات العالم الاِستعماري ومتوثبا للدفاع عن القيم الإنسانية الخالدة والنبيلة فكان شعره ونثره معًا سِجّلا للمبدع إذ يحلم وللمثقف إذ يلتزم.
– ما أحوجنا اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى أن نكتشف مسيرة الشابي من جديد خاصة بالنسبة لشعراء تونس وأدبائها ومثقفيها ومبدعيها عامة ذلك أنّ الشابي كان على مدى سنوات عطائه متمثلا ومتحملا لمسؤولية المبدع الحرّ والنزيه والمدافع عن المثل العليا فلم ينخرط في شعر المدح والهجاء والغناء المبتذل وإنما عكف على المطالعة والمواكبة والبحث والتجديد والنشاط على مستوى الأندية والجمعيات والمجالات المتوفّرة بل نراه داعما للحركة الثقافية وثائرا على الجمود في أكثر من مناسبة وفي عديد المجالات فهو يحثّ ويدعو ويشارك في المشاريع التي تنهض بالأدب سواء في مجال النّشر أو في مجال التأليف والتعريف.
– والشابي لم يلهث وراء الجوائز والمسابقات وحتّى عندما أجرت بعض المنابر الثقافية استفتاء حول أهم شاعر في تلك السنوات الأولى من ثلاثينات القرن العشرين لم يحتل الشابي المراتب الأولى ولكن الزمن غربل فلم يُبق إلا من يستحق الذّكر عن جدارة.
– والشابي عاش بسيطا مع أبناء جيله وشعبه بل وتحمّل شظف العيش أحيانا فلم يتنصّل من مسؤولية عائلته ولم يتزلّف الشخصيات الوجيهة أو يبحث عن الاِمتيازات التي كانت متوفّرة لمن كان في مثل أسرته وثقافته وإنما عاش للأدب فحسب ، فربط العلاقات الإيجابية مع ثُلة من أبناء جيله يقاسمونه همومه وطموحه في كتابة أدب تونسي جديد يكون متطوّرا ومُتفاعلا مع بقية البلدان العربية لذلك كتب عن الأدب في المغرب والمشرق فكانت مراسلاته سِجلاّ حيّا نابضا بالمعاناة والآمال والآلام في آن!
– لقد عانى الشابي من عدة عوائق كانت كمثل المُحبطات في مسيرته الغزيرة رغم قصر مدّتها بداية من صعوبة تحدّي الجمود الفكري في عصره الذي اِعتبر بعضُهم شعرَه مُروقا عن الدّين، إلى اِستفحال ظاهرة عدم الاِعتراف بالإبداع لدى بني الوطن حيث يُواجَه كل مُتفوّق في ذلك العصر وربما إلى اليوم، يتحدّى السّبقَ المشرقي في مقولة “هذه بضاعتنا رُدّت إلينا” باِعتبار أنّ المشرق هو الأصل والمركز وأنه لا أفضلية لبقيّة الأقطار والأقاليم، ويُضاف ذلك الاِستهجان من أطراف أخرى بمقولة أنّ الغرب هو المرجع في الفكر والأدب والحضارة ولا يمكن للعرب أن يُضيفوا أو يُبدعوا أكثر منه!
– بلى قد عرف المبدعون التّونسيّون على مرّ العصور هذا الغبن وهذا الجحود منذ العهد القرطاجي مع الشّاعر ـ فُلورُوس ـ الذي سحب الإمبراطور روما منه الجائزة باِعتبار أنّ الأفارقة لا يمكن أن يتفوّقوا على الرّومان في أيّ مجال!
وكذلك الأمر بالنّسبة لاِبن خلدون ولاِبن عَرْفة ولأبي الحسن الشّاذلي ولعبد العزيز الثّعالبي ولغيرهم الذين هاجروا أو أبعِدوا بسبب المكائد والدسائس أو الجحود والمحاكمات.
– لقد صمد الشابي وتحدّى واِشتكى وبكى حنينا وثار وزمجر وتوعّد أحيانا وكان صادقا في كل الحالات!
– برغم مرور السنين يُحافظ الشعر البديع على توهّجه وتأثيره ولا يفقد رونقه وجماليته وكثير من قصائد أبي القاسم الشابي ما تزال فاعلية ومتألقة بل وقابلة لمزيد من القراءة والتحليل برغم تنوّع المداخل والمناهج والمدارس فقصيدة “صلوات في هيكل الحب” مثلا تعتبر من القصائد البديعة التي تبعث في النفس مشاعر الجمال والسمو حيث يصوّر المرأة كائنا ساميا يشع بهجة وحسنا وسلاما في سنفونية متناغمة المقامات واللوحات فإذا بقارئها يجد نفسه في مراقي الوجد يعرج إلى سماوات الفن بما ينداح عليه من اِنتشاء وصفاء:
عذبةٌ أنتِ كالطفولة كالأحلام*كاللحنِ كالصّباحِ الجــــديــدِ
كالسّماء الضّحوكِ كالليلةِ القمراءِ*كالوردِ كابتسامِ الوليدِ
يا لها من وداعـةٍ وجَمالٍ * وشبابٍ منعّمٍ أملــــــــــــــودِ!
فوجدان الشّابي ما يزال خِضِمًّا زاخرا بالعطاء رغم هذا القرن الذي اِنقلبت فيه القِيم والموازين والعلاقات أكثر من أي وقت مضى.
– بلى! ما أحوجنا في هذه الفترة الحالكة التي قَلَب فيها كثير من الشّعراء والأدباء والمثقّفين والمبدعين ظهْر المِجَنّ وتنّكروا لقِيمهم ومبادئهم التي كتبوا على نبراسها السّنين العديدة من أجل جائزة أو حَظوة أو كرسي! ما أحوجنا إلى قراءة أبيات الشابي:
لا أنظمُ الشّعرَ أرجُو به رضاء الأمير
بمَدحة أو رثاء تُهدَى لربّ السّرير
حسبي إذا قلتُ شِعرا
أن يرتضيهِ ضميري
– ولنقرأ قصيدة “إلى طغاة العالم” التي كتبها سنة 1934 فإذا هي ما تزال تعبّر عن لسان حال كل الذين تذوّقوا مرارة الاحتلال والقهر والعدوان:
ألاَ أيُّها الظّالم المستبدّ
حبيبُ الظلام عدوّ الحياه
سَخَرتَ بأنّات شَعب ضعيف
وكفّك مخضوبةٌ من دماه
– ولنقرأ قصيدة “للتاريخ” التي كتبها سنة 1933 حيث يعبّر فيها عن ضراوة معاناة الإنسان البسيط الذي يتعرض للاِستغلال والنهب بينما يتمتع الغرباء في الأوطان المقهورة بالثروات والامتيازات إذ يقول:
البؤس لاِبن الشّعب يأكل قلبه
والمجد والإثراء للأغراب
والشّعب معصوب الجفون مُقسَّم
كالشّاة بين الذئب والقصاب
والحقّ مقطوع اللسان مُكبَّل
والظلم يمرح مُذَهَّب الجِلباب
فكثير من قصائد الشابي ما تزال نابضة مُترجِمةً عن واقعنا الحالي وتلك لعمري من أسرار الأدب الإنساني بما يلوح فيه من صدق الإحساس وبراعة التعبير!
– لذلك يستحقّ الشّابي مزيدا من العناية خاصة وأنّ البعض من آثاره ما يزال متفرّقا مبثوثا هنا وهناك دون أن ينشر في عمل علمي محقق وكامل بما في ذلك ديوانه أغاني الحياة نفسه!
أما رسائله فهي ما تزال دون جمع شامل رغم محاولات الذين بذلوا جهودا جمّة ولكن جهودهم تلك كان ينبغي أن تكون في إطار العمل الجماعي وضمن المؤسسات العلمية حتى تضمن أكبر الحظوظ في التوفيق بعيدا عن الفردانية والتسرّع والمناسبتية.
– ومن بين نصوص الشابي التي تستحق النشر العلمي مع غيرها من القصائد والخواطر والمقالات رسالة منشورة في كتاب حول مدينة “مجاز الباب” حيث قضى فيها الشّابي بعضا من طفولته أثناء عمل والده بها والكتاب من تأليف الأديب التونسي الطيب الفقيه أحمد وقد مدّني بصورة منها مشكورا وهذا نص الرسالة:
الحمدلله وصلى الله على سيدنا محمد وسلم.
حامة الجريد: على طريق دقاش 2-7-34
حضرة الأخ الوطني الغيّور صديقي السيد إسماعيل العزابي.
حفظه الله.
تحية وسلاما،
وبعد فقد كان العزم أنه لا ينتصف الرّبيع الفارط حتى يكون ديواني “من أغاني الحياة” مطبوعا وموزّعا على قرائه. ولكنني أصبت في رمضان الفائت بمرض شديد الوطأة ألزمني الفراش ما يزيد على الأربعة أشهر وصيّرني عاجزا عن كل شيء فضلا عن طبع الديوان والقيام عليه.
والآن قد أخذت أشعر بشيء من الراحة فإنني سأقدّم الديوان إلى الطبع قريبا جدا وسيكون طبعه في مصر في مطبعة “أبولو” التي حدّثتكم عنها في العام الفارط. ولذلك فإني أرغب من فضلكم أن تعلموني بنتيجة عملكم في تواصيل الاِشتراكات التي تركتُ لك وللأخ سيدي الهادي اِبن الحاج عثمان أمْرَ توزيعها.
وبما أنّه قد مضى عليها وهي عندكما وقتٌ طويل. وقد حلّ الموسم الفلاحي الذي بلغني أنه طيّب في هذا العام. ولهاته الأسباب ولصداقتكما الخاصة فإنّني أعتقد أنّكما بذلتُما في ترويج التواصيل جُهدا مشكورا يحمده لكما الأدب والعلم والوطن.
وها أنا ذا أنتظر جوابك في هذا الشأن. وقد كاتبت الأخ الهادي بمثل هاته الرسالة وإنّني أنتظر جوابكما السّريع.
وبلغْ تحيّاتي إلى إخواننا أعضاء النادي وسائر مَن لاذَ بكم والسّلام.
حرّره
أبو القاسم الشابي
بحامة الجريد
على طريق دقاش