الصّديق ـ صفوان بن مراد ـ من أقدم الأصدقاء فقد تعارفنا على مقاعد معهد الصّادقية في النصف الأول من ستينيات القرن العشرين عندما كنا نتابع بشغف أستاذنا البشير العريبي وهو يحدثنا عن بخلاء الجاحظ وعن زيارة طه حسين إلى تونس وعن – حتّى – التي ظلت في صدر أحد اللغويين القدامى بعد أن مات وما زلتُ أذكر كيف خرجنا من الأقسام مع كوكبة من التلاميذ والطلبة صائحين ثائرين في أيام حرب جوان 1967 ومن وقتها اِشتعل فينا فتيل الحسّ الثوريّ على الأوضاع السائدة في الأوطان العربية فأقبلنا بحماس على قراءة الشعراء المجدّدين مثل عبد الوهاب البياتي ونزار قباني وبدر شاكر السياب وسليمان العيسى الذي عرّفني به صديقي صفوان بن مراد وقد كان يكتب قصائد فيها الكثير من وشائج الوجدان العارم بالشجون العربية وأتذكّر في ما أتذكّر أننا عندما كنا ندرس في شعبة الآداب بمعهد ابن شرف جاء معمر القذافي في زيارته الأولى إلى تونس في شتاء 1970 فخرجنا دون إذن من الإدارة وحرصنا أن نكون من بين الحشود في اِستقباله هو والزعيم بورقيبة فوقفنا عند مرور الموكب مرّتين الأولى عند مروره من باب الجزيرة ثم جرينا مسرعين في أسواق المدينة العتيقة المزدحمة وأنهجها الضيقة لنلتقيه مرة ثانية عند باب سويقة ورفعنا المطريّة السّوداء وقد كتب عليها صفوان بالطباشير الأبيض بخطه الجميل – تحيا الثورة العربية –
تلك الواقعة يا عزيزي صفوان ما تزال راسبة في ذكرياتي فكم من أحداث ووقائع أخرى مرّت عشناها متألّمين في هذا الوطن وفي بقية أوطان العالم تلك الأوطان التي كنا نحلم أنها ستتحرر قريبا من الظلم والقهر والجهل والفقر والاستغلال والتخلف والتعبية والاِستعمار وأن شمس الحرية ستشرق قريبا…يا صديقي تلك كانت أحلامنا في اليقظة عشناها ونحن نقف ذات يوم في صورة لنا جنبًا إلى جنب عند حديقة باب البحر بين الكنيسة وسفارة فرنسا حيث تمثال ابن خلدون الآن….الآن وهنا هل ترى دبّاباتنا التونسية جاثمة تحمي السفارة الفرنسية بعدما كانت تونس تحت الحماية الفرنسية…يا سبحان الله كيف تبدلت معاني الأسماء والحالة واحدة !..في تلك لحظات تلك الصورة وقفنا أمام العدسة كأننا جمال عبد الناصر ومعمر القذافي أو كأننا فيدال كاسترو وتشير غيفارا…آه يا زمن الأحلام الجميلة كيف أهوى عليها بالمطارق التاريخ الأليم الذي عشنا تفاصيله على مدى نصف قرن وها نحن نلتقي بعد خمسين عاما في رحاب نادي القراءة بجمعية ابن عرفة فما أروع القصيدة التي سمعتُها أخيرا منك يا صديقي صفوان بن مراد وأنت تُلقي شجونك فيها بنبرة صوتك المضمّخ بالمعاناة هي معاناة السنوات عبر رحلة العمر كأن القصيدة وقفةُ تامّل تستجلي فيها ما فات وما هو آت فإذا بنا معك نقف على الخيبة ونتبيّن ذلك من خلال
ـ معجم الكلمات
ـ ومن خلال الصّور
ـ والإيقاعات
فمعجم القصيدة اللغوي مُثقَل وثخين بمفردات مثل السّهاد والرّماد والقاتل والعوّاد والدّجى والدّمعة واِجترحتني والنّسيء حين حصاد
هذه كلمات تعبّر كلها عن المعاناة والمكابدة والألم والتفجع والخيبة والاستياء وفقدان الرجاء
أمّا الصوّر الشعرية فهي تعبّر عن حالة نفسية متجهّمة للشاعر الذي وجد نفسه وحيدا حتّى نديمه لم يؤنسه بل تخلّى عن صُحبته وتركه وحيدا وآثر على صُحبته الذي ناداه فلم يجد من أنس إلا قمرا في ليل سهاده
والصّورة الشعرية الثانية تبدو في إيقاد الشّموع رمزا لحالة البهجة والأمل لكن هذه الحالة سرعان ما تلتها صورة الخيبة المتمثلة في حفة من رماد وتتوضّح الخيبة أكثر في صورة القاتل الذي هو من عُوّاده وهذا لَعَمري تعبير عن الخيانة والغدر من طرف أقرب الأقرباء سواء من دائرة القربى أو الأصدقاء أو الرّفاق أو غيرهم وتتواضل صور الخيبة إلى آخر القصيدة عند التعبير بصورة ـ حصاد زرعه النّسيءِ ـ أي المؤجّل كدأب بعض العرب القدامي عندما يقدّمون أو يؤخرون مواعيد الشهور وفي هذا كناية وإشارة خفية عن حال العرب اليوم الذين تعوّدوا على تأجيل أحلامهم فكانت كمثل الذي حصد الهشيم .
إنّ مناخ القتامة وظلال الخيبة نلاحظه أيضا في الإيقاع الصّوتي وذلك من خلال القافية الدّالية ذات الجرس الشّديد الوقع منذ البيت الأوّل الذي جاء مُصرّعا وورد فيه حرف الدّال مكرّرا في أغلب كلمات العجُز ـ نتادى ـ نديمي ـ منادي
ونلاحظ الإيقاع في المعاني أيضا سواء في التّضاد أو في المقابلة والطّباق بما يوحي بحالة الرّفض والانقباض وعدم الألفة على المستوى النفسي من خلال الثنائيات الواردة في القصيدة وذلك :
قمر ـ ليلي
رماد ـ جمرة
النور ـ الدجى
همسا ـ نجوى
زرعي ـ حصادي
وما أضفى على القصيدة إيقاعًا غنائيا يلائم شجون النّفس وُرودها على البحر الخفيف ـ فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن ـ وهو بحر يلائم خواطر الحزن ضمن اِمتداد حركاته وتلاحقها على نسق بطيء وزاد القصيدة غنائيّة تواتر الجناس من المحسّنات البديعية في ترجيع الحروف وتصاديها مع بعضها مثل ـ تنادى ونديمي ومنادي ـ ومثل لاح وباح ـ ومثل دمعة ومداد ـ ومثل جراحها واجترحني ـ ومثل موعدي ومعادي .
ليت الصديق الشاعر صفوان بن مراد ـ وقد عاد إلى جدائقه الشعرية ومجالسه الأدبيّة بعد اِنقطاع سنوات عديدة ـ يَبري قلمه ويُعدّ أوراقه ليجمع شتات قصائده وينشرها في ديوان ليكون إضافة متميّزة في مدوّنة الشعر التونسي ولنا مآب عند ضدور الكتاب.
* القصيدة
قمرٌ رحلتي و ليلي سهادي
إذْ تَنادى إلى نديمي المنادي
أوقد الشمعَ من شهودي و أهْدى
لِحنايايَ قبضة من رمادِ
جمرهُ رُقْيتي فيا عجبًا من
قاتِلي عاد و هو من عُوّادي
يا لَطيف سراجه النارُ و النّور
وسحر الدُّجى و شهد الفؤاد
أي طيف كشهقة الحرف في الفجْر
وكالحرف دمعةً من مداد
كلما لاح باح همسا بنجْوى
أي طيف نسيجه من سهادي
كم ذنوبٍ جراحُها اجترحتني
فاقْتضتني مُنايَ عند السداد
لا تسلْني ما موعدي و مَعادي
ذاك زرعي النّسِيءُ حين حصاد