مداخل لقراءة سُوف عبـيــد
عبد المجيد يوسف
يسرّ صالون الزوراء الأدبيّ أن يستضيف اليوم علما من أعلام الشّعر التونسيّ الحديث اقترن اسمه بالمجهود الحداثي الذي عرفــه الشّعـر التونسيّ منذ تراجع الكلاسيكية الجديدة والرّومنسية المحتشمة ممّا عرفه الشّعـر التونسيّ حتى نهاية الستينات.
ويمكن للناظر في تاريخ الأدب التونسيّ الوقوف على أنّ شاعرنا المحتفى به قد شهد التأثيرات الآتية من المشرق العربيّ وخاصة من العراق ولبنان، وقد ظهرت تلك التأثيرات في نمط كتابة يمكن أن تجد فيه روح السيّاب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البيّاتي مع غلبة لتأثير البيّاتي لنزعته الاشتراكية، ممّا كان متلائما والنزعة السّائدة لدى الشباب المثقف طيلة عقديْ السّتينات والسّبعينات.
ولا يلبث أن يظهر تيّار شعر ثالث (الأول هو شعر الطليعة والثاني هو التيار الحداثيّ المعتمد على السّطر الشّعريّ الموزون) هذا التيّار الثالث هو قصيدة النثر الذي ظهر قبل ذلك في المشرق العربيّ وخاصّة في الشام، وأصبح له رُوّاد في تونس، هم في اعتباري الشخصيّ محمد أحمد القابسي وعزوز الجملي وفضيلة الشابي وصالح القرمادي وسوف عبيد وآخرون…
هذا النوع من الشّعر اشتغل في إطار نظريّ غير إطار شعر الطليعة الذي هو شعر نثريّ، لكنه محمّل بإيديولوجية اشتراكيّة وبنزعة قـُطرية تدعو لتوْنسة الثقافة والفكر وإيلاء الاهتمام للخصوصية الحضارية لتونس المختلفة عن المشرق (مثلما كان دعا إليه طه حسين في “مستقبل الثقافة في مصر” حين نادى بفرعونية الثقافة المصرية)، على نقيض قصيدة النثر ذات النزعة الكونية.
إذن فسوف عبيد هو من روّاد قصيدة النثر في تونس بل من المؤسّسين ، وإليه كما لرفاقه يرجع الفضل في هذا سواء بالتنظير أم بالمُمارسة والإنتاج وفرض هذا النمط من الكتابة على ذائقة تعوّدت الإيقاع الجرْسي، بل جعلته واحدا من مقوّمات الشّعر .
تخرّج شاعرنا المحتفى به من كلية اﻵداب بتونس بشهادة ـ أستاذية الآداب العربية ـ ثمّ في سنة 1976 بشهادة ـ الكفاءة للبحث ـ حول ـ تفسير الإمام اِبن عَرْفَة ـ سنة 1979 …ونشر إنتاجه شرقا وغربا في الصحف والملاحق الأدبية وشارك في النّوادي والنّدوات الثقافية بتونس وخارجها وهو من مؤسسي نادي الشّعر بدار الثقافة “اِبن خلدون” بتونس سنة 1974 واِنضمّ إلى اِتحاد الكتاب التونسيّين سنة 1980 واُنْتُخِبَ في هيئته المديرة في دورة سنة 1990 أمينا عاما ثم في دورة سنة 2000 نائب رئيس فساهم في تنظيم مؤتمر اتحاد الأدباء العرب ومهرجان الشّعر العربي بتونس سنة 1991 وفي إصدار مجلّته ـ المسار ـ وفي تأسيس فروعه وفي تنظيم الندوات والمهرجانات الأدبية وشارك في الهيئة الاِستشارية لمجلة الحياة الثقافية في فترات مختلفة وأسّس منتدى أدب التلاميذ سنة 1990 الذي تواصل سنويا في كامل أنحاء البلاد إلى سنة 2010 ونظّم الملتقى الأوّل ثم الثاني لأدباء الأنترنت بتونس سنتي 2009 و 2010 وترأس جمعية ـ اِبن عرفة الثقافية ـ سنة 2013
صدر له
1 ـ الأرض عطشى ـ 1980
2 ـ نوّارة الملح ـ 1984
3 ـ اِمرأة الفُسيفساء ـ 1985
4 ـ صديد الروح ـ 1989
5ـ جناح خارج السرب ـ 1991
6ـ نبعٌ واحد لضفاف شتّى ـ 1999
7ـ عُمر واحد لا يكفي ـ 2004
8ـ حارقُ البحر ـ نشر إلكتروني عن دار إنانا ـ 2008
ثم صدر عن دار الثقافية بتونس ـ 2013
9ـ الجازية ـ بترجمة حمادي بالحاج ـ 2008
10ـ ألوان على كلمات ـ بلوحات عثمان بَبّة وترجمته ـ طبعة خاصة ـ 2008
11ـ حركات الشّعر الجديد بتونس ـ 2008
12ـ صفحات من كتاب الوجود ـ القصائد النثرية للشّابي ـ2009
نظرة سريعة على بعض مجاميعه الشّعرية
الأرض عطشى
هي من المجاميع المبكرة التي صدرت في نظام القصيد النثري. مواضيعها تبدو متنافرة أشد التنافر فهي بين المضامين اللصيقة بالواقع ذات التوجه الاشتراكي كالحديث عن الطبقات الفقيرة (الجوع) والإشادة بالحرية مطلبا إنسانيا أو المواضيع الغنائية المتعلقة بالطبيعة والحنين إلى الوطن والحب والتصوف.
امرأة الفسيفساء
تتركز مضامين هذه المجموعة حول أحوال الكائن وتقلباته في المَوْجِدِ وعلاقاته بحيثيات الوجود وهي صنفان: اجتماعية كالمواقف إزاء المرافقين والمتقاسمين الفضاء كالزوجة والابن والجار ورفيق القطار والعمارة والمحطة … أو طبيعية كالصحراء والبحر والنخلة والغزالة…. ولم تخل هذه المجموعة من اهتمام بالسياسة خاصة وقد صدرت في فترة ساخنة من حيث التحرّكات الاجتماعية وضجر الشعب من نظام سياسي مهترئ.
نوّارة الملح
قد يمكن القول إن هذه المجموعة دلّت على منحى آخر غير ما اتبع في المجموعتين السابقتين حيث توجه الخطاب نحو رمزية أكثر إحكاما وانحرفت عن الخطاب المباشر الذي لمسناه في المجموعتين السابقتين، وإن لم يكن هناك اختلاف كبير في المضامين مما قد يفسر ببطء التحولات التاريخية في المسار السوسيو– ثقافي وبطء التحول الاجتماعي في ظل نظام سياسي بدأ يأخذ طريقه إلى الانحلال… خاصة وقد صدرت بعد المجموعة “امرأة الفسيفساء” بسنة واحدة. ومما ظل مشتركا طبيعةُ الجملة الشّعرية، فقد ظلت قصيرة بلا امتدادات ولا تفرعات، تختزل الحالة الشّعرية وتقتصر في التصوير على الملمح السريع البسيط الخالي من التركيب.
صديد الروح
لعلّ هذه المجموعة التي حَظِيتُ بترجمتها إلى الفرنسيّة هي التي صادفت هوى في نفسي أكثر من مثيلاتها لما مثّلته من نضج أدبيّ واستمالة للقارئ بمقروئيّتها العالية وما فيها من توجه فاق المجاميع السابقة نحو المضمون الأنطولوجي المُحمّل بتجربة إنسانيّة عميقة ولما فيها من حسن التّصوير واستقصاء للحالة البشريّة المتفرّدة التي تظهر مثل التماعة خاطفة ثم تختفي أبدا.
جناح خارج السرب
تتميز هذه المجموعة في نظري بثلاث ميزات إحداهما شكلية واثنتان متعلقتان بمضامين الكتابة. أما الأولى فهي التواتر النسبي للأشكال الوجيزة ذات الموضوع المفرد المختزل الكثيف والصورة المفردة البسيطة. والشكل الوجيز قول قريب من الصمت، كأنه قول مستعجل يلقى إلى قارئ مُتدبّر، شبيه بأقوال الحكماء والكهنة، وأما الخصيصتان الأخريان فهما حضور تيمة الحكمة والقول الرصبن متجانسا مع الشكل الوجيز، يصوغ حقيقة ما من رواسب التجربة الطويلة، والتيمة الثانية هي تيمة الموت تصريحا ورمزا ويمكن أن يحتوي هذا الملف تيمة جزئية أخرى هي اختزال الحياة وتلخيص التجربة ( الزيارة، السمكة، برقية، حصان الطين…)
نبع واحد لضفاف شتى
صدر هذا الديوان كما ذكرنا سنة 1999 وبه اثنتان وعشرون قصيدة صنفناها حسب المحاور الدلالية التالية :
–التذكر واستحضار الماضي والحنين إليه ونقده: (أربع قصائ)
–الخرافات المحولة من سياقها إلى سياق فكري حديث: (قصيدتان)
–الغنائية: وفيها التغني بالوطن والموطن والحبيبة… (سبع قصائد)
–اقتناص اللحظة المكتنزة ذات المشهد البليغ المتوتر مثل رؤية زهرة على سكة القطار حيث نجد ست قصائد في هذا الباب.
–التأمل في زمانية الكائن وعبوره الموجز بدرب الوجود (أربع قصائد)
ويجوز لنا الجمع تحت عنوان واحد بين محور اقتناص اللحظة المكتنزة الموتورة وبين التّأمّل في زمنيّة الكائن في علاقته بالموجودات وبأحوال الوجود، ثم إذا اضفنا إلى كل ذلك نصوص التذكار والحنين صار التأمّل في زمنيّة الكائن هو السّمة الدّلالية الغالبة على هذا الدّيوان.
ملاحظة خاتمة
لعلّ ما يميّز سوف عبيد في كتابته قصيدة النّثر هو البساطة في الخطاب وبساطة المعجم وقصر الجملة وقرب التخييل رغم أنّ نصوصه لا تخلو من تعميق للتّيمات المتناولة وتضمينات وإحالات ورموز وأقنعة يتوسّل بها في بلوغ مأرب الدّلالة. ولعلّ مجاميعه الأخيرة أصبحت أميل إلى مضمونيْ الحكمة النّاتجة عن تراكم التّجاريب الوجودية ووفرة حصاد السّنين والحنين إلى وقائع الماضي وأحواله وفضاءاته.