الشعر في نوارة الملح و امرأة الفسيفساء ـ محمد بن رجب

 محمد بن رجب 

كثيرا ما تقرأ ، أو تسمع رأيا يفيد بأن الشعراء التونسيين الشبان ، من جيل السبعينات، وبداية الثمانينات يتشابهون في كتاباتهم الشعرية إلى درجة يصعب معها التمييز بين شاعر وآخر إذا اتفق أن وجدنا بعض القصائد بدون توقيع.

في هذه الرأي بعض الصواب ، ولكننا لا نتفق معه تماما باعتبار أن المرحلة التي حددها تزخر بالاتجاهات الشعرية التي تصل حد الصراع بالإضافة إلى أن هناك بعض الشعراء الذين يتميزون عن غيرهم بأسلوبهم في الكتابة ولا يكمن أن نضعهم في جعبة واحدة واحدة ونطلق عليها رأيا نقديا واحدا .

ومن الشعراء المتميزين الذين طبعوا قصائدهم  ببصمات فريدة نذكر الشاعر سوف عبيد الذي يعيش هذه الأيام عرس الشعر ، فقد أصدر مجموعة شعرية ثانية بعنوان ” نوارة الملح” عن دار ديمتير، وهي المجموعة التي كثر حولها الحديث على إثر تعطيل خروجها إلى المكتبات لبعض الأيام ، ثم تم الإفراج عنها فأقبل عليها أصدقاء الشاعر بشغف كبير وحب أكبر.

ولم تمر أيام على ” نوارة الملح ” حتى توالت دار ” الرياح الأربعة للنشر ” إصدار المجموعة الثالثة لسوف عبيد عنوانها ـ امرأة الفسيفساء ـ .

وشخصيا لا أدري ما إذا قدم سوف عبيد مجموعته إلى دارـ ديميترـ ودار ـ الرياح الربعة ـ في أن واحد أم على فترتين متباعدتين ، ثم إني لا أدري تواريخ القصائد التي جاءت في ” امرأة الفسيفساء ”  وكان على الشاعر أو على دار ـ الرياح الأربعة ـ  أن يشير في آخر كل قصيدة إلى تاريخ كتابتها تماما كما فعل بالنسبة للقصائد التي جاءت في مجموعة  “نوارة الملح” وجلها مكتوبة في السنتين الأخيرتين ومهما يكن من أمر فإني قرأت لسوف عبيد قصائد لم يسبق أن  اطلعت عليها سواء على صفحات الجرائد، أو من خلال نشاط نادي الشعر، وهي قصائد تقطر شعرا لا يمكن أن تكون لسوف عبيد وهي لا تنتمي إلى تيار أو مدرسة إنها  “عبيدية” بدون منازع.

إن سوف عبيد يحب الأشياء الصغيرة في الحياة، وفي المجتمع وفي السياسة، وفي غير ذلك، فيرصدها، ويلتقطها ثم يصوغ منها كلاما يفوح الشعر الجميل منها، وأقول هذا رغم أني لا أميل إلى الشعر الذي لا يلتزم بالتفعيلة، ولكن ما حيلة القارئ إذا وجد أمامه شعرا كسر القيد الشعري ورفض أن يبقي في خانةة المكبلات، وسوف عبيد هو صاحب هذا الشعر الذي لا يلتزم بالتفعيلة ولا نقدر أن ننزع عنه صفة الشعرية لأنه يكتب شعرا .

في “نوارة الريح” تستوقفك قصائد قصيرة تحكي عن نملة تصعد الجدار ، أو عن عصفور يحلق في السماء ، أو عن كأس في مقهى ، أو عن زهرة تدوسها الأقدام، فتنبهر لا من  الحكاية، بل من صياغة الحكاية ومن توظيفها إلى المعني الذي يقصده الشاعر.

هذه الأشياء الصغيرة يمكن توظيفها في عوالم كبيرة بشكل رمزي غير ممجوج، وفي إيحاء غير تقليدي، هي ميزة سوف عبيد ولا نجد في تونس شاعرا أخر له هذه الخصوصية.

وسوف عبيد في “نوارة الريح ” لا يحب الأشياء الصغيرة، فقط بل قد يلتقط الأشياء الكبيرة البارزة للعيان، ولكنها لم تعد تجلب الاهتمام والاِنتباه، لاحظ كيف اِستغل أبواب تونس القديمة ليعطها معاني ” جميلة” ويحملها مقاصد مصيرية ويعطيها أبعاد سياسية واجتماعية فتجلب الانتباه من جديد .

ثم إن الشعر عند سوف عبيد ليس التقاط اللحظة ورصد اللمحة، إنه قصة أيضا، وما الفرق بين الشعر والقصة، إذا كان الكاتب شاعرا وعيونه مفتوحة، وأذانه مشرعة، وبديهية حاضرة، وفكره ناقد.

ففي ـ امرأة الفسيفساء ـ كل القصائد تحمل قصة، وكل قصة جاءت شعرا  “عذبا” و” لذيذا”

الناس الطيبون، طيبون

يدعونك إلى فنجان شاي

تحت شجرة

ويقطفون لك من ثمرها

ثمرة

فالناس في شعبي طيبون

ومازالت في شعبي البركة

يساعد الشيخ الضرير

ويناوله صدقة

وإن الميزة الأخرى التي تجلبك إلى شعر سوف عبيد هو أنه لا يكرر نفسه من قصيدة إلى أخري ، أنه في كل قصيدة يقدم ومضة شعرية، وفي كل قصيدة يرصد شيئا ، وفي كل يقصد معني، ثم هو لا ينزلق في تيار التهويم الكلامي أو قل التيار الهوائي  كما يفعل عدد من شعرائنا، بل أن الكلمة عنده عادية، وميزة سوف عبيد أنه يجعل هذه الكلمة شعرية خارجة عن العادة.

و في  ” امرأة الفسيفساء” يبدأ سوف عبيد الرحلة المتعبة نحو شعر حضاري تمتد جذوره في الأرض وتغوص في أعماق التاريخ ترتفع فروعه إلى سماء المقبل أنها المعانقة لأفق أرحب يمتد من الموج إلى الموج ، انه اقتحام للأنا الأصلية وعودة لثياب الذاتية العربية، ففي ـ اِمرأة الفسيفساء ـ يلج سوف عبيد بوابة الحقيقة التاريخية للشعر العربي في تونس .

فعلا أن هذه الفقرة التي أخذناها من تقديم ناشر ” الرياح الأربعة” معبرة وتلخص تجربة سوف عبيد الذي لم يكتب الشعر من أيام، بل هو من الذين واكبوا الحركة الشعرية منذ بداية السبعينات وساند الاتجاهات الأدبية الجديدة الباحثة عن الحرية، المناضلة من أجل العدالة والمساواة، ولكنه لم يغص في أعماق بعض الاتجاهات  التي تظاهرت بالثورية وهي تحمل بذور الإقليمية وتناصر فرنسا وروما وتنسي تاريخها العربي الأصيل، وتناصر الكلمة العامية على اللفظة التي تبعث من حضارة عربية عريقة .