من وصايا أبٍ إلى اِبنه العاشق

 من وصايا أبٍ إلى اِبنه العاشق
يَا أَبَتِ
أحببتُ عروسَ البحر
ــ كُنْ سفينةَ الصحراء
كيْ لا تغرقَ في مَوجها
*
إنّها تُشبهُ غزالة
ــ حسنًا
اِقتربْ منها
بخُطى السّلحفاة
لتلحق بها
*
يا أبتاهُ
اِقتربتُ
فطارت عاليا …وبعيدًا
ــ إذن
رفرفْ في سمائها
كالفراشة
النّسيمُ سيحملك إليْهَا
وسيلتقي جناحاك
!…بجناحيْهَا

نشيد الصباح في ـ كوثر الصباح ـ

 

 نشيد الصباح ـ في ديوان ـ  كوثر الصباح ـ
بقلم سُوف عبيد
ــ 1 ــ
تُنسب بعض المختارات الشعرية القديمة إلى أصحابها مثل المفضليات والأصمعيات وغيرهما وتنسب بعض القصائد والدواوين أيضا إلى شاعرها مثل العنتريات والشوقيات وعلى نمط هذا التقليد الأدبي لعل الشاعرة التونسية كوثر بلعابي اختارت عنوان _ كوثر الصباح  _ لمجموعتها الشعرية  الجديدة نسبة إلى اِسمها والكوثر لغة مشتق من الكثرة ومن معاني الكوثر  في قواميس اللغة الخير العميم والشراب العذب وقيل هو نهر في الجنّة ويعني أيضا جمّار النّخيل وفي بعض التفاسير أعطيناك الكوثر أي أعطيناك من المواهب كثيرا وفي اللغة السّريانية هو الثّبات  أصيلة والعزم وفي اللغة  اليونانية تعني كلمة الكوثر الصّفاء والطمأنينة 
إذا علمنا أن الشاعرة كوثر بلعابي أصيلة ربوع ـ تالة ـ المعروفة بكثرة عيونها  الجارية وإذا علمنا أيضا أن كلمة ـ تالة ـ تعني في اللغة التونسية   القديمة ـ العين الجارية ـ فإن  هذا العنوان جاء محملا بأبعاد ذاتية لمطابقته اسم الشاعرة في أبعاده الذاتية والتاريخية والبيئية أيضا 
لذلك فإن جميع هذه المعاني يمكن أن ترشح من هذا العنوان الدّال أيضا على الصباح بما يبعث من إشراق وجلاء  واِنشراح ووضوح ومحو لظلام الليل وكلمة الصباح نقرؤها مبثوثة في كثير من الصفحات والقصائد بل نجدها في عنوان أكثر من ثلاثين قصيدة مثل ـ ضوء الصباح ـ مطر الصباح ـ مرآة الصباح ـ نبض الصباح ـ إيقاع الصباحات ـ أحبّ الصباح ـ الكتابة للصباح ـ إيقاع الصباحات ـ شهد الصباحات ـ كتاب الصباح ـ صباح بلادي ـ صباح الكرامة ـ صباح تونس ـ….
فالصباح يذكرنا إذا استعرضنا العناوين بقصيدة ـ الصباح الجديد ـ لأبي القاسم الشابي 
والصباح يمثّل المحور الأهمّ كأنه قطب الرّحى أو العروة الوثقى التي تربط مختلف المعاني في القصائد أو كمثل القافية التي تعود إليها بقية الأبيات فالصباح هو الغرض الأصلي حسب القاموس النقدي القديم وهو التّيمة البارزة لدى النقاد المعاصرين
ــ 2 ــ
إن التكرار من سمات إيقاع الشّعر عامة وفي النثر أحيانا كالقرآن والمقامات وهو من خصائص  بعض  اللوحات في الفنّ التشكيلي والفسيفساء وفي المنمنمات النباتية والحروفية ونلاحظ ظاهرة التكرار كذلك في نقائش الجدران والخشب أما تكرار كلمة واحدة في عناوين القصائد وفي مختلف سياقاتها ومقاطعها فهذا لم أقرأه من قبل ولعل قصيدة الشاعر منوّر صمادح التي بعنوان ـ الكلمات ـ اِستثناء في هذا المجال فقد وردت جميعها على النحو التالي
عنــدما كنت صغيرا كنت أحبو الكلمات
كنت طفلا ألعب الحرف وألهو الكلمات
كنـــت أصـواتا بلا معنى وراء الكلمات
وتخطـــيت سنينــــا عثــرتهـــا الكلمات
أركض الأحلام والأوهـام خلـف الكلمات
ووراء الزمــن الهــارب أعــدو الكلمات
كـــل مــا أعرفــــه أني ظلمــت الكلمات
وسمعت الناس يصغون لصوت الكلمات
فتكلمـــت ولكـــن لـــم أفـــــدها الكلمات
إلخ….
هذا التكرار والترديد كأنه صدى إيقاعي لسورة الرحمان أو لقصيدة الحريّة لفدوى طوقان التي هي صدى لكلمة ـالحرية ـ التي تردّدت في قصيدة الشاعر الفرنسي ـ إلوار ـ ونجد هذا الترداد لعبارة ـ لم تأت ـ في قصيدة ـ المجزوم بلم ـ للشاعر محمد الحبيب  الزناد ولقد وضّح ابن بسّام الشّنتريني الأندلسي هذا التصادي والتأثر بين مختلف الشعراء عندما قال ـ قد يقع الحافر على الحافر إذ الشعر ميدان والشعراء فرسان ـ
ــ 3 ــ
إن كلمة ـ الصباح ـ تتردّد في سياقات مختلفة في قصائد كوثر بلعابي كأنها تعبيرة هندسية واحدة متكرّرة في ألوان مختلفة وفي أحجام متنوعة مثل نمط الفن التشكيلي أو مثل الرسومات الهندسية في الزرابي وغيرها فالصباح ليس واحدا ولا متشابها لدى الشاعرة حيث تقول في الصباح عند الشروق
للشروق رحم واحد
ولكن لكل صباح
مذاقه الخاص 
وحكايته الخاصة
 
وهي تقول في الصباح عند المطر
أعشق نقر المطر
حين يبهج صحوتي
عند الصباح بنبضه
ينعش سطح الرصيف والتّخوم
بنقاط وخطوط من رقوم
يوقظ سمعي بلحن
أحلى من عزف المطر
 
وقد تواتر ذكر المطر في عديد القصائد مثل قولها ـ عبق المطر ـ نقر المطر ـ  خفق المطر ـ لون المطرـ دمع المطر ـ مما يؤكد الأثر الواضح للمطر في وجدان الشاعرة فتبدو العلاقة بين الشاعرة والصباح  ذات وشائج جميمية ومذاقات مختلفة وكثيرة حيث تعبّر عن ذلك قائلة 
يدغدغ هجعتها
وينادم قهوتها
على ترانيم فيروز
وحروف نزار قبّاني
 
وحينا آخر تتحدث عن المطر وعن نفسها بصيغة الغائب قائلة
تنتظر من الصباح
أن تظفر بوردة تليق بشعرها
وهي تنادم قهوتها
فكل صباح هو ولادة جديدة
تشهدها أناملها المثقلة 
بالحبر
 إذن أضحى الصباح  يمثّل لدى الشاعرة ضربا من طقوس الكتابة مع القهوة التي اِحتفت بذكرها في عديد القصائد أيضا
ــ 4 ــ
واضح إذن أن الصباح هو أكثر الكلمات تردادا وتكرارا في سياقات متعددة ومتنوعة في قصائد الديوان فصار يمثّل سِمة أو ظاهرة إيقاعية واضحة بمختلف معانيها وأبعادها وثمة تكرار صيغة تركيبية أخرى ـ هي صيغة التمنّي ـ نلاحظها في بعض القصائد  مثل ما ورد في قصيدة ـ فرحة الصباح ـ ص90 حيث تقول
ما ضرّ لو
حملنا عبء الموت قسرا
لو مع كل صباح
أرسلنا بسرعة
لو تحت رماد الحزن
نبشنا عن فرحة
ما ضر لو
 
ومثلما تردّدت صيغة الأمر في قصيدة ثناء جميل ص87 التي تقول فيها
لنكنْ مثل الصباح
بياضه يطوي ظلاما
لنكتبْ على صفحة يومنا
معنى أثيلا ولفظا جميلا
لنرسمْ على نجمة الوطن
عشقا وشوقا
 
كذلك نلاحظ تكرار جملة _ رغم كل هذا _ في قصيدة سيرة الحب ص67 حيث تقول
رغم كل هذا الجدب
أكتب سيرة الحب
رغم كل هذا الجدب
أكتب خفقة من روحي
رغم كل هذا الجدب
أكتب ثورة نشوى
رغم كل هذا الجدب
أكتب سيرة الحب
 
يبدو التكرار أيضا في قصيدة همزة وصل ص 64 عندما تتردّد لازمة ـ بيني وبينك ـ قائلةً
بين وبينك
حيرة
بين وبينك
أرض
بين وبينك
فجر
بين وبينك 
حرف
ــ 5 ــ
إذا كان هذا الديوان قائما خاصة على تكرار وترداد بعض الكلمات والتعابير والصيغ بحيث أنها أضحت تمثل لازمة إيقاعية أو تقفية داخلية فإن بعض القصائد الأخرى كانت قائمة على تكثيف الصورة الشعرية التي تعتمد على العناصر الطبيعية مثل الصورة الشعرية الواردة في ص55
صباحاتك الشتاء الحالة
غلالة من سحر
يكتب ضبابها بلطف
أحلامنا
تلك الأماني الهائمة
 
وفي ص55 تواصل رسم هذه الصورة الشعرية قائلة
هذه الصباحات الغائمة
في قلبي ناصعة جميلة
أمشط غرتها بنغم فيروزي
أضفر حرير خصلها جديلة
 
والشاعرة عندما تفتح شجون الوطن تبدو يائسة محبطة منه لكنها سرعان ما تنعكس هذه الحالة في صورة ترمز إلى الأمل حيث تقول في قصيدة ضمادات ص38
لم يبق يا وطني
غير ميلاد الصباحات
عسى خيط من الشمس
يرتق شروخك
يسعفك بالضمادات
 
فتتحول الصورة الشعرية من اليأس إلى الأمل مع انبلاج الصباحات وهذا الأمل تراه الشاعرة كوثر بلعابي في سعي  الأطفال والشباب إلى المدارس حيث تقول في قصيدة صباح بلادي ص39
لأني أحب صباح المدارس
تحث الخطة
نحو آت جميل
ــ 6 ــ
الشاعرة كوثر بلعابي جعلت من سندرلا التي ورد ذكرها في تراث الفراعنة والإغريق وانتشرت قصة حذائها في مختلف آداب العالم لكنها في هذه القصيدة تحولت إلى رمز جديد ينوء بحمل قضايا الوطن وأوجاعه في صبر من دون أن تنحني أو تتراجع أو يصيبها الإعياء في الالتزام برسالتها حيث تقول في قصيدة سندرلا ص28
تغفو على وجع
ومع ذلك تصحو موشوشة عشقها
الورد والريحان
لا يحبها حمل قضايا الوطن
الثقيلة
وتجعل في هذا السياق من الإلتزام بقضايا الوطن  من _ جبل الشعانبي _ معلما تتغنى به في شموخ وطنها التونسي والقصيدة بعنوان  _ صباح الشعانبي _ ص100 ومن المعلوم أن الشعانبي هو أعلى قمة جبلية في تونس وقد صار رمزا للتضحية والفداء في سنوات الجمر التي عاشتها البلاد بعد سنة 2011
ــ 7 ــ
إن ديوان ـ كوثر الصباح ـ بقدر ما يعبّر عن وجدان ذاتي بمختلف الأحاسيس فإنه يعبّر أيضا عن شعور الانتماء للوطن بما في قصائد الديوان من اِعتزاز ومعاناة بعيدا عن نبرة الحماس وجلد الذات وإنما ضمن نظرة تفاؤلية ترنو إلى شروق الصباح الجديد .
 
* سُوف عبيد

متابعة قراءة نشيد الصباح في ـ كوثر الصباح ـ

عصفورة

 تحية شكر جزيل إلى الصديق محمد الدبابي الذي نشر هذه  القصيدة يوم الثلاثاء 12 سبتمبر 2023 في صفحنه ـ  zemni زمني ـ وقد قرأها في أحد الأعداد  من مجلة الحياة الثقافية ـ التونسية الصادرة سنة 1978
وتحية شكر إلى الصديق الشاعر طاهر البكري الذي ترجمها حينما اِطلع عليها في اليوم نفسه
Oiseau
Un oiseau n’a pas rejoint son nid
ce soir
Le cauchemar du monde couvant ses plumes
Il s’en est allé
Jusqu’à l’extinction des lampadaires de Tunis
A six heures
Sautant sur les fils électriques
Et quand passa le laitier
Puis le boulanger sur sa vieille bicyclette
Et se mit en marche la charrette du charbonnier
La voiture de la police roulant à toute allure
Il s’est envolé loin très loin
Par dessus tous les bâtiments
Hiver 1978
(trad. Tahar Bekri)

رحمة الوالدين

رَحْـــــمـَــــة اَلْـــوَالْــــدِيــــنْ
ـ بالعامية التونسية ـ
اَلشَّــمْسْ قُــدَّامْ عِـيـنِـي طَـالْـــعَـــهْ
بِالـــضَّوْ سَاطْـــعَـــــهْ
فِي لَحْظَةْ… غَابِــتْ… وَلِّــتْ ِغيمَــــهْ
تْــوَحَّشْـتِـكْ يَا أُمِّيمَــهْ
مَحْلَاهَا ِفي وَجْهِكْ تَبـْسِيمَهْ
آه… يا أُمِّيمَةْ
تْوَحَّشَّتْ رَنِّـــةْ كْلَامِــكْ
وَ نَغْمِـةْ سْلَامِــكْ
تْـوَحَّشْتْ حَـتَّى مْلَامِكْ
كِــــتْــقُولِـي : لَازِ مْ تْجِي حَـتَّى طَـــلَّــهْ
خَـلِّــيــتْــلِــكْ ِمنِ الْــفَالْ شْوَيـَّـة غَــلَّـــهْ
سَايِــسْ يَا وْلـِــيـدِي عْــلَى عْيـُونِـــكْ
اَلـلّهْ ِم اْلحُسّادْ رَبـّـي يْصُونِـــــكْ
وْيِــزِّيــكْ مِنِ اْلقَرَايـَــة دِيـــمَــهْسَـامْحِيـنِـي يَا أُمِّـيمَـهْ
يَـا أُمِّيمَـهْ سَامْحِـينِـي
لَاحَدْ بَعْدْ رْضَاكْ يِـسَلِّينِـي
ظَـنِّـيتْ اَلـزّْمَانْ بَاشْ يْطُولْ وِ وَاِتـينِـي
وِ نْـدَلَّـلِـكْ كِـيـمَا إِنْـتِ دَلِّـلْـتِـينِـى
يَـامَـا كُـنْتِ كْرِيـمَـــهْ
وْ عَارْفَهْ وْ فْهِـيمَهْ !كْلَامِـكْ يَا أُمِّيمَةْ بَـعْدْ ِالِّي رِيـتـُو
لْـقِـيـتُو كُـلُّـو صْحِيـحْ
إِلِّـى قْـرِيـتُـو ِانْسِـيتُـو
إِلِّـي اِكْـِتــبْـتُـو اِمْـحِيـتُو
وَ أَوْرَاقِـي هَزَّهَا الرّيح
يَا مَا نْــزَيَّــنْ وِنْـحَلِّي
وْ نِـكْسِبْ وِ نْخَـلِّي
وْنْسَافِـرْ وِ نْــوَلِّـي
وْ يَامَا ِنـبْـنِـي وِنْـعَـلِّي
وِ يـــــــــــطُــــــــولْ َالزَّمَانْ وِيطِـيحْ !تْـوَحِّشْتِكْ يَا أُمِّيمَةْ
توَحِّشْتْ َالتَّايْ بِاَلنَّعْنَاعْ فِـي بَرَّادِكْ
وْلَـمِّـتْـنَا فِـي دَارْنَـا
مْعَ بَاَبا وَعْمَامْنَا وَخْوَالـْنَا
وَ لَـوْلَادْ الْـكُلْ أَوْلَادِكْ
يَا حَسْرَةْ عَلَى مِيعَادِكْ
زِيـنَــةِ النِّسْوَانْ… إِنْـــتِ
بِـيـنْ أَنْـدَادِكْ !
تَـوَحَّشْتْ حتَّى خْـلَالِــك و حْرَامِكْ
كِــتـْجِـيـنِى فَـاوْحَاتْ اَنْـسَامِكْ
يَا ِلــيـتْــنِـي مازلتْ نِـجري قُدّامِكْ
مرّة ِنسبِــقِـكْ…. مرّة نْحَاذِيكْ
و مَرّة ِانْـتَبــَّعْ خْطَاوِيكْ
خْطَاوِيكْ بِـاْلِحنّة
وِ وَصّْلُو لِلْجَنّـة
فِي سَـفْسَاريك الأَبيـــضْ…أَبيــــضْ
أَبـيضْ مِنِ اْلفِــلَّة !
أُمّـيمة يا غـاليـهْ
أُمّ الْـقَـــدّْ طْـويــلْ يا عَـالـــيهْ
مَــثَّـلْـتِـكْ بالدّالِـــــــيهْ
وَعْـنَاقِــيدْها رَاوِيــهْ
مَـثّلــتِكْ بِالنّــخْلَــهْ
وََعْــرَاجِينْهـَا بِالْمَـخْلَــهْ
مَــثّـلتك يَـاسْمِينــهْ
زاِهـــيـَـه في جْــِنـينَــهْ
زَيْــــتــونــــــهْ
مْــظَـلَّـلَــةْ مَــصْـــــيـُــونــه
مثّــلتـك تُـــفّاحــــــهْ
مِـــتْــهِـنْيـَة مِــرْتـــاحه
تِــــدْعِــيلي فِـي صْلاتِـــكْ
إِنتِ و بـَـــابـَــــا… طُــــولْ حْــيـَــاتِــــك !الــلَّــهْ يَرْحَمِكْ واللَّهْ يَرْحَمْ بَــــابَـــا
طُولْ عُمْرَهْ قَايِمْ صَايِم
و كِـلْمْتَهْ مُهَابَــهْ
طُولْ عُمره يِخْدِمْ يِكْرِمْ
أهْـلَـهْ وَاصْحَابَــهْ
طُولْ عُمره نْـــظِـــيفْ عْـــــفِـــــيــفْ
مَـَـا ألْطَفْ جْـــوَابَــهْ
…وْ جَاهْ اْلمُنَادِي الضِّيفْ
فِي عِــزّْ الصِّيفْ
قالُّو: هـيـَّا…
واللَّــهْ يَرْحَمْ !
قالُّو: حَاضِرْ و تْـبَسِّمْ
وْطْـــوَى كْــتَابـَـــهْ
فِي نْهَارْ اَلجمْـعَـــهْ
و اْلمُؤَذّنْ طالِـــعْ للصُّمْعَـــهْ !

اللّـــــــهْ يـَــــــــرحَمكُمْ
وفي جَـــنّـــــــــــةِ الرّحمانْ ِايـقَابِــلْــكُمْ
اللّــــــــــــهْ يـــــــرحــــــمكُمْ
مْـعَ كُـلْ أَذانْ في ليلْ وَ إِلاَّ نهارْ
مع الصّلاةْ على النَّبِي المُخْتارْ
بِـجَاهْ اْلواحِدْ الغفّارْ
اللّـــــــــــــــهْ يَـــرحَمْكمْ
في كُلْ وَرْقـَـه مِنِ الأشْجارْ
في كُلْ قَطْره مِنِ اْلاَبـْــحـاْر
في كُلْ رِيــشَه مِنِ الاَطْـيــَارْ
الــلّـــــــــــــهْ يـَـــرحَمكمْ
على عَــــدّْ السُّــــــوراتْ رَحـْــــــــــــــمَـاتْ
على عَـــــــدّْ الآيــــــــــــاتْ حَـسـْــــــــنَـــــــاتْ
و على عَــــــدّْ الْـــــكِـــلْــــمَــــاتْ دَعْــــــــــوَاتْ

الـلّــــــــــــــهْ يـَــــــــــرحمكُمْ
ويـَـــــرْحـَــــــمْ كُـــــلْ الــــــنّــــاسْ
على مَـهْمَا أَجْنـــــــــاسْ
إِلّـــي صَافِــيـتْـهُمْ و صَافُــــونِــي
أنا فِـــي قَــلْبِـي حَـطِّـــيــــتْـهُمْ…
و هُمْ فِـي عُـــيُـــونُـهُمْ حَطُّونِـي
اللّـــــهْ يَــــرحــــمْ حـــتَّـــى اِلّي ظَـلْمُـــوني
أمَّا إِلّي ظْــلَمْــتْــهُمْ
إِنْ شَاءْ الـلَّـــهْ يـْـــسَـــامْــــحُـــونِــــي !

متابعة قراءة رحمة الوالدين

الشّعر والشّاعرية في تفسير ـ التّحرير والتنوير ـ

الشعر و الشاعرية

في تفسير ـ التحرير والتنوير ـ

سُوف عبيد

منذ الغزوة الأولى لإفريقية في عهد عمر بن الخطاب و التي كان من بين المشاركين فيها الشاعر أبو ذؤيب الهذلي ، اِقترن الشعر العربي في إفريقية بالوازع الديني باِعتبار أن اللغة العربية إنما منهلها و مصدرها النص القرآني لدى المتعلمين ممّا حدا بكثير من الفقهاء والأولياء والعبّاد أن يقولوا الشعر في مواضيع الزّهد ،و لم يخوضوا في الأغراض الأخرى إلا لِمامََا نذكر من بينهم عبد الرحمان بن زياد بن أنعم الذي نشأ بالمزاق بإفريقية فأخذ اللغة والقرآن والفقه عن الأفواج الأولى من التابعين الوافدين، وقد وُلد في نحو سنة 74 هـ و بعد التحصيل بالقيروان اِرتحل إلى المشرق حيث ملأ وطابه من ثقافة العصر المتمثلة في القرآن و السّنة فتتلمذ لشيوخ الحجاز والشام والعراق وقد وصلتنا أبيات شعريّة يشتاق فيها إلى أهله و بلده يقول فيها:

ذكرتُ القيروانَ فهاج شوقي

و أين القيروان من العراقِ

مسيرة أشهر للعِيس ِ نصًا

على الخيل المضَمّرَةِ العِتَاقِ

فَبَلِّغْ أنْعَمًا و بني أبيه

و مَنْ يُرجَى لَنَا وَلَهُ التّلاَقي

بأنَّ الله قد خلّى سبيلي

وَجَدَّ بِنا المسيرُ إلى مزاقِ

متابعة قراءة الشّعر والشّاعرية في تفسير ـ التّحرير والتنوير ـ

من ذكريات الزمن الجميل ـ العشاء الفاخر ـ

من ذكريات الزمن الجميل ـ العشاء الفاخر ـ 
ـ 1 ـ
من الطرائف التي عشتها مع أصدقائي الشعراء في أجواء حميمية وإنسانية ظلت راسبة تبعث البهجة والحنين في ذاكرتي رغم ما كان فيها من مواقف صعبة أو محرجة أحيانا  لا بأس أن  أحدثكم عن الأمسية الشعرية التي برمجها لنا سنة 1974 أحد أصدقائنا من الشعراء الأعضاء بنادي الشعر بدار الثقافة اِبن خلدون والذي كان يدرُس معنا بكلية الآداب بتونس فاِقترح علينا أن ينتقل نادي الشعر إلى دار الثقافة بنابل لنقيم بها أمسية شعرية بناء على دعوة اِتصل بها من مديرها فكان هذا الاقتراح من صديقنا تحوّلا تاريخيا في نشاطنا الأدبي الذي كنا نطمح أن يكون مشعا خارج العاصمة حتى نلتقي بجمهور الشباب وغيرهم من الذين لا تصل إليهم قصائدنا خاصة في المناطق النائية فكان تنظيم تلك الأمسية أوّل خروج لنا من العاصمة لنقرأ نصوصنا أبعد من أبواب مدينة تونس وقد تكفّل صديقنا الشاعر بتنظيم جميع التفاصيل كيف لا  ! وهو اِبن ولاية نابل وصاحب العلاقات الوثيقة بالصحف النّافذة وصاحب الكلمة المسموعة لدى الدوائر الإعلامية وقتذاك لذلك اِنفتحت لنا أبواب أمانينا على مصراعيها ورفرفت بنا أحلامنا الوردية خاصة وصديقنا أكّد أنّنا سنحظى باِستقبال بهيج من ممثلي السلطة الجهوية وقد طمأننا أنه إذا اِمتد الوقت المخصص للقراءات فلا بأس علينا ولا نحن نحزن لأنّ  العشاء سيكون بأحد الفنادق الفاخرة في الولاية بل حتى المبيت سيكون متوفّرا  لمن أراد ذلك..

متابعة قراءة من ذكريات الزمن الجميل ـ العشاء الفاخر ـ

الدنيا

ــــــ الدنيا ـــــــ

كانتِ السّماءُ

بِشَمسِها وقَمَرها

ليستْ أعلى مِنْ شَجرةِ تِينٍ أَوْ تُفّاح

أوْ داليةٍ

نقطفُ منها حتّى النّجوم

*

العُيونُ والسّواقي كانت رَقراقةً

زُلالاً

نَسقي في أكفّنا منها العصافير

تُرفرفُ حولنَا

ثمّ تَحُطّ قُربَنا في سُرور وحُبور

*

كان جميعُ النّاس أطفالا

يَعرف بعضُهم بعضًا

حتّى إذا ما تَشاجرُوا

تَشاجروا على كُرة قَشّ

أو دُميةِ خَشبٍ

*

عاش النّاسُ أطفالا

لا تَتجاوز أعمارُهم السّابعةَ أو العاشرة

مَن يَشيخُ منهُم

يُعمّر عاميْن أكثرَ… أو ثلاثةً

ثمّ يُرفرفُ مع الملائكةِ

نحو جنّة السّماء

*

سنةً بعد سنةٍ

جاء على الدّنيا زمنٌ

فطالتْ أعمارُ أولئكَ الأطفال

حتّى برزت لِحاهُم وأظافرُهُم

سنةً بعد سنةٍ

طالتْ تلك الأظافر

صارتْ مخالب

فما عادتِ الأرضُ أرضًا

ولا الدّنيا

دنيا

من القرط إلى النخلة…مقاربة في شاعرية الميداني بن صالح

https://alantologia.com/blogs/62971/

 من القُرط… إلى النّخلة.. مقاربة في شاعريّة الميداني بن صالح

إنّ المسيرة الطّويلة والمستمّرة للشّاعر التّونسي الميداني بن صالح بما تخلّلها من إصداره لأكثر من عشر مجموعات شعريّة على مدى النّصف الثّاني من القرن العشرين تُوجب على دارسي الأدب العربي المعاصر أن ينظروا في نصّه الشّعريّ كي يُوضع في المستوى الجدير به ضمن تطوّر الشّعر العربي عبر العصور.
ملاحظات حول التّرجمة الـذّاتيّةالمعلومات الواردة في ترجمة الشّاعر الميداني بن صالح لئن تُعطي الإطار الزّماني والمكاني لولادته ولدراسته ولنشاطه الثّقافي والاِجتماعي فإنّها غير كافية وتظلّ في حاجة إلى دعائم أخرى لتفسّر المؤشّرات الفاعلة في مسيرته الشّعريّة المتنوّعة والثريّة بأبعادها النّفسية والفكريّة من ناحية وبمدلولاتها الاِجتماعيّة وال حضاريّة والسياسيّة من ناحية أخرى.

تاريخ الولادة يُضبط بيوم 15 نوفمبر من سنة 1929 بواحة نفطة، فإذا كان الظّرف الزّماني تسهل الإحاطة به بالعودة إلى التّاريخ وإذا كانت الواحة هي الإطار الطّبيعي الذي أثّر في شاعريّته فإنّ الذي يمكن إضافته في هذا الشّأن أنّ الميداني بن صالح من أسرة عريقة في الفقه والأدب وتنتمي إلى الطّريقة القادريّة الصّوفية ذات التأثير الكبير في الوجدان والمخيال الشّعبي فلا عجب حينئذ أن يتأثّر بأذكار ودعوات والده وهو يردّدها على مسامعه في آناء اللّيل وعند أطراف النّهار ممّا جذّر فيه اللّغة العربيّة في مناخاتها الإسلاميّة قبل أن يرتاد الكُتّاب بجامع ـ ابن الوعايد ـ ليحفظ فيه القرآن وقبل أن يلتحق بجامع الزّيتونة بالعاصمة تونس بعد الحرب العالميّة الثّانية.

إنّ طفولة الميداني بن صالح لم تتأطّر بالواحة وبالتّربية التّقليديّة ذات الملامح الصّوفية فحسب وإنّما عَرف فيها مدينة تونس العاصمة مدّة ليست بالقصيرة حيث دخل فيها المدرسة ببطحاء (رحبة الغنم) (معقل الزّعيم) الآن في منتصف العشريّة الرابعة من القرن العشرين.

هذه معلومة ساقها الشّاعر في مناسبة من المناسبات الخاصّة التّي كانت تجمعنا في كثير من الأحيان على هامش أنشطة اتّحاد الكتّاب التّونسيين.
وهنا أقول إنّ سيرة الميداني بن صالح تمثّل شهادة حيّة حول الحياة الأدبيّة والاِجتماعيّة والسياسيّة في تونس والمشرق العربي منذ ثلاثينات القرن العشرين إلى مطلع القرن الواحد والعشرين ذلك أنّ الرّجل قد تقاطع مع كثير من أحداثها وكان مع عدد مهمّ من النّاس الذي شاركوا فيها من قريب ومن بعيد فَشِعْرُه ليس إلاّ أحد الأبعاد الظّاهرة في حياته.

إنّ دخول الميداني بن صالح إلى المدرسة الإبتدائيّة بالعاصمة ربّما يكون هو السّبب المباشر للإلتحاق بالنّظام المدرسي العصري في نفطة حين عاد إليها آنذاك والمهمّ من هذه الفترة الأولى من حياة الميداني بن صالح أنّه فتح عينيه على مشاهد الواحة واستمع إلى اللّغة العربيّة الأصيلة في البيت قبل أن يتلقّنها خارجه ثمّ انفتاحه مبكّرا على العوالم الصّوفية بالإضافة إلى اكتشافه مبكّرا للمدينة وعودته بعد ذلك إلى مرابع الطّفولة الأولى.

إنّ التّكوين العصري في دراسته الإبتدائيّة هو الذي سيجعله مُهَيّأً للكتابة ضمن المدرسة التّجديدية في الشّعر الحرّ هذا الشّعر الذي يُعتبر الميداني بن صالح أحد روّاده في المغرب العربي فهو الذي جايل الشّعراء الذي أحدثوه ورسّخوه في العراق ولا شكّ أنّه قد تأثّر بذلك المناخ الذي عايشه عن قرب عندما ارتحل إلى بغداد سنة 1956.

وعندما قدم تونس العاصمة مرّة ثانية سنة 1946 كان من المفروض أن يلتحق بالتّعليم الثّانوي العصري في المدرسة الصّادقية حسب ما كان متعارفا عليه في ذلك العهد بالنسبة لتلاميذ المدارس لكن الميداني بن صالح نجده ينخرط بالجامع الأعظم -جامع الزّيتونة- شأن الأغلبيّة السّاحقة من أبناء الشّعب بسبب الظّروف الماديّة الصّعبة وقد بيّنها الشّاعر في ديوانه الأوّل (قُرط أمّي).

إنّ ثنائيّة التّعليم التّقليدي والتّعليم العصري التّي عرفها في بدايات تكوينه العلمي ستظهر بعد ذلك عند تعليمه الجامعي عندما سافر إلى بغداد ثمّ رحل نحو باريس فيُيمِّمُ وجهه شطر جامعة السّربون لإكمال الحلقة الثّالثة ولكن يبدو أنّ مشاغله السياسيّة حالت دون ذلك بطريقة أو بأخرى ولسبب أو لآخر.
عندما اِستقرّ به المقام بتونس العاصمة كانت الحرب العالميّة الثّانية قد وضعت أوزارها وهي التّي كانت سببا في تأخّر الميداني بن صالح عن القدوم إليها بعض السّنوات عكف فيها على قراءة وحفظ المُتون القديمة ممّا جعله يتضلّع في أصول الثّقافة العربيّة الإسلاميّة.

تونس أواخر الأربعينات شهدت اِستئناف العمل الوطني من خلال الأحزاب والمنظّمات والجمعيّات العديدة، في هذا المناخ الذي كان يزخر ويَعُجّ بالطّاقات المنطلقة نحو التّحرّر والِانعتاق بدأ الميداني بن صالح ينخرط في الحياة العامّة وقد كان جامع الزّيتونة مركزا للثّقافة التّقليديّة لكنّه كان كذلك قلب الوطن النّابض والمعبّر من خلال حركات طلبته عن عزيمة أبناء تونس في الاِستقلال فنجد الميداني بن صالح ينخرط في الحركة الطّلابيّة سنة 1948.

قد كانت حرب فلسطين سنة 1948 المناسبة الكبرى التّي ربطت الوجدان التّونسي بالقضيّة العربيّة الكبرى التّي تحمّس لها الشّباب وحاول الكثير منهم الالتحاق بجبهة القتال ضمن المتطوّعين التّونسيين ولكنّ السّلطة الإستعماريّة وفقدان التّنظيم المُحكم منع أمثال الميداني بن صالح من تحقيق رغبتهم في التّصدّي لقوى الطّغيان والجبروت التّي اغتصبت فلسطين.

من هنا ربّما تَجَذَّرَ الوعي القومي لدى الميداني بن صالح فقد أثّرت تلك السّنوات -سنوات أواخر العقد الرّابع من القرن العشرين- في تكوينه الفكريّ حيث اِنخرط مبكّرًا في النّضال الوطني ضدّ الاستعمار وفي العمل النّقابي الذي تجذّر معه مع تأسيس الاتّحاد العام التّونسي للشّغل وعندما عمل مُعلّمًا بمنطقة المناجم في مطلع النّصف الثّاني من القرن العشرين.

فمناخ هذه الحقبة يمكن أن يكون المساعد الأساسي لنشأة عديد القصائد التّي تضمّنها الدّيوان الأوّل (قرط أمّي) وإليه تعود ايضا أغلب قصائده في دواوينه الأخرى تلك التّي تصوّر مسيرة الميداني بن صالح من القرية إلى المدينة ومن المدينة إلى الوطن في أبعاده العربيّة والعالميّة ضمن الاِنتماء الواضح إلى قيم التّحرّر والعدالة الاِجتماعيّة مع الاِعتزاز بالتّراث الإنساني الذّي يعبّر عن الصّراع من أجل تحقيق تلك القيم في التّاريخ البعيد والقريب.

المنطلق والأفق

أغلب نصوص الميداني الشّعريّة يمكن أن تندرج ضمن مبدإ الإلتزام هذا الشّعار الذي ظهر في الثّقافة العربيّة منذ منتصف القرن العشرين وهو يتضمّن اِنخراط المثقّف والمبدع في المشروع السّياسي لإيديولوجيا معيّنة وقد قابلتها مقولة أو شعار الفنّ للفنّ ونجد أنّ الشّاعر الميداني قد خصّص لهذه القضيّة قصيدة هي عبارة عن بيان شعري يوضّح فيه رؤيته للشّعر من هذا المنطلق.
شعري: لُهاث الكادحين على الدّروب
شعري: أهازيج الشّعوب
مَنْ صارعوا الأمواج، والبحر الغَضُوبْ
مَنْ غالبوا الأقدار واِقتحموا الخُطوبْ
مَنْ عبّدوا الطُّرق المديدة في الجبال
وفي الصّحاري والسُّهوب
الشّعبُ جبّار غلوب
الشّعبُ إلهامي
إلاه الشّعر في قلبي الرّحيبْ

إنّ هذا التّعريف الفصيح للشّعر يمثّل قطيعة واضحة وحادّة مع ما سبق من التّنظيرات التّي صاغها الشّعراء الذين اِنطلقوا من النظرة الرّومنطيقيّة أو الوجوديّة أو الإصلاحيّة ففي هذه القصيدة (شعري ودعاة الفنّ الواردة ضمن ديوان قرط أمّي) نلاحظ التّحدّي الواضح لنمط آخر من الشّعر كان سائدًا في النّصف الأوّل من ستينات القرن العشرين ويتمثّل في المواضيع الغزليّة والمدحيّة أو المواضيع ذات الصّبغة الوجدانيّة الشّخصيّة… على تلك المواضيع يثور الميداني بن صالح ثورة شعواء قائلا:

شعري لعينيْ ذلك الإنسان لحنٌ
ثائرٌ، أبدا حِداءٌ للشّعوب
لا وشوشاتٌ ماجنةٌ
في أذن فاتنة لعوب
من شاعر نزق العواطف
تافهِ الإحساس، نَظّامٍ، كذوب.

إنّ الميداني بن صالح بهذه القصيدة يُعلن بيان الشّعر الواقعي الملتزم بقضايا الإنسان ضمن المقولة الاِشتراكيّة في الفنّ تلك المقولة التّي سادت ردحًا لا بأس به بين كثير من الأدباء وخيّمت على كثير من النّصوص الشّعريّة وغيرها ولتفسير هذا المنحى لدى الميداني بن صالح لا بدّ من الرّجوع إلى مسيرته الفكريّة التّي نلاحظ أنّها مرّت بمراحل ضمن تطوّر تاريخي واضح المعالم لعلّه يبدأ من اِنتمائه إلى منظّمة صوت الطّالب الزّيتونيّ ذات التوجّه الوطني في النّضال ضدّ الاِستعمار الفرنسيّ ثمّ تأتي المرحلةُ المشرقية عندما التحق ببغداد واِنخرط في المشروع القومي الذي ينشد الوحدة العربيّة غير أنّه عندما رجع إلى تونس اِنخرط في المشروع الاِشتراكي الذي اِنتهجته الدّولة على مدى سنوات النصف الثاني من ستّينيات القرن العشرين…إنها مراحل ثريّة من حيث أثرها الواضح في مسيرة الأدب التونسي لكنها ظلت غير مدروسة بدرجة كافية ونذكر منها بهذه المناسبة رحلات الأدباء التونسيين إلى بلدان المشرق العربي واستقرارهم فيها كمصر والعراق وسوريا ولبنان وهي البلدان التي درس فيها كثير من الأدباء والشعراء التونسيين بل ونشروا فيها نصوصهم وتفاعلوا مع مختلف أحداثها
يمكن أن نذكر مثلا الأديب أبو القاسم محمد كرو الذي درس في بغداد بعد الحرب العالمية الثانية وكتب ونشر في صحفها ومجلاتها قصائده النثرية والشاعر مصطفى الحبيب بحري والشاعر الشاذلي زوكار ونور الدين صمود بعد الاستقلال ثم علي دَب وعلي شلفوح في بيروت ودمشق في الستينيات ثم الطيب الرياحي و بعده محمد الخالدي ولعل الشاعرين علي الحمروني والهاشمي بلوزة هما من آخر الأدباء التونسيين الذين اِستقروا سنوات بالعراق

إن مسيرة الميداني بن صالح ذاتُ مراحل متوالية جميعًا ممّا جعل موهبته الإبداعيّة مهيّأة لصياغة شعرٍ يُعبّر عن طموحات جيله في التّحرّر والعدالة الاِجتماعيّة وبناء الدّولة الوطنيّة من جهة، وفي تَوقه إلى جمع شمل الأمّة العربيّة ضمن القيم الإنسانيّة الخالدة تلك القيم التّي اِنخرط للنّضال في إطارها مدى سنوات السبعينيات تلك السنوات التي شهدت نشاطا حثيثا لإرساء فكرة حقوق الإنسان سواء في تونس أو في سائر البلاد العربيّة.

ثمّة مرحلة قصيرة طواها الميداني بن صالح طيًّا في أغلب سيرته الذّاتيّة التّي نشرها هنا وهناك ألا وهي المرحلة الباريسيّة تلك السّنوات القليلة التّي قضّاها في فرنسا بعد فشل المشروع الاِشتراكي في تونس والذي كان أحد رموزه على المستوى الثّقافي ذلك أنّ الميداني بن صالح من الأدباء العرب القلائل الذّين تفاعلوا مع التّطوّرات الوطنيّة والقوميّة والعالميّة وتأثّروا بأحداثها مدًّا وجزرًا. وقد تجلّى ذلك بوضوح عند حرب الخليج حيث تخلّى عن كثير من قناعاته والتزاماته التّي لازمته ولازمها سنينا طويلة فعاد إلى ذاته يكتشف خباياها وعاد من حيث اِنطلق إلى تونس يتغنّى بتاريخ نضالاتها وأمجادها من خلال نشاطه الأدبي والفكري في إطار اِتّحاد الكتّاب التّونسيّين خاصّة.

إنّ تناقضات العصر وبصمات العمر واضحة المعالم في أغلب نصوص الميدان من القُرط إلى القطار ومن حلقات الذّكر إلى الحمار ومن كهف الشّاذلي إلى لندن والبيت الأبيض مرورا بالقدس وتلّ أبيب ووصولا إلى قرطاج في آخر المطاف وليعرج إلى سماوات الوجد الصّوفي في الخنام

المفاتيح والخريطة

يمكن أن أقول بكلّ تأكيد إنّ صدور ديوان قرط أمّي قد جسّم علامة بارزة في تاريخ الشّعر التّونسي على مدى القرن العشرين وبذلك كان إضافة ثانية لديوان أغاني الحياة لأبي القاسم الشّابي الذي تمثّلت فيه الخصائص والأبعاد الرّومنطيقيّة على مستويات المعنى والمبنى، بينما مثّل ـ قرط أمّي ـ المدرسة الواقعيّة بما تقوم عليه من وصف للواقع ونقده وقد كان الشاعر منوّر صمادح قد ساهم بوضوح في ترسيخ هذا المذهب الشعريّ منذ منتصف الخمسينيات من خلال ديوانه ـ حرب على الجوع ـ

ديوان قرط أمّي يضمّ أبوابا متنوّعة بعضها يفضي إلى بعض وقد وردت تحت العناوين التّالية:

من مذّكرات تلميذ ريفي
أشباح
رؤى
أشواق
بطولة شعب

وقد كتب المقدّمة الأديب محمّد العروسي المطوي الذي وضع أشعار الميداني في سياقها الذّاتي والأدبي والتّاريخي مشيدًا خاصّة بالوهج الصّادق الذي فيها وبالمعنى المعبّر عن طموحات المرحلة.

أمّا أبواب الدّيوان الخمسة فقد اِشتملت على أغراض متفرّقة لكنّها جميعا ضمن مسار تعبيريّ واضح يتراوح بين همس الذّات في اِختلاجات الرّوح وبين الاِحتجاج الصّارخ في خضمّ الأوضاع المتردّية التّي لا تحتمل الصّمت.

الفصل الأوّل: من مذكّرات تلميذ ريفي

وقد ضمّ القصائد التّالية:

– قرط أمّي
– أنا وحماري والقمر
– معه في المحطّة
– معهنّ في القطار
– رسالة إلى أبي
– في كهف الشّاذلي

إنّ جميع هذه القصائد تمثّل سجلاّ خاصّا للرّحلة التّي انطلق فيها الشّاعر من الواحة إلى العاصمة بداية من وداع الأمّ إلى رفقة الحمار ووقوفًا عند وصف المحطّة والقطار إلى ذكر المغامرات الأولى في هتك الممنوع وانتهاء بحلقات الذّكر عند أبي الحسن الشّاذلي على أطراف العاصمة تونس.

إنّها قصائد مرحلة الرّحلة والإكتشاف التي ستنطلق منها أغلب الدّواوين التّي تلت هذا الدّيوان بما فيها قصائد التّعبير الصّوفي كما تجلّت في قصيدة: في رحاب المتولّي التّي مثّلت النّخلة فيها المنطلق والأفق في آن واحد.

الفصل الثّاني: أشباح

وهي القصائد التّي تُمثّل الصّدمة الحضاريّة تلك التّي فعلت فعلها الضّاري في نفسيّة ذلك الفتى الذي نشأ على البداوة بما فيها تعلّق بأصالة القيم وإنسانيّة العلاقات بين النّاس ولكنّه يكتشف بشاعة المدن وزيف المشاعر والخطر الذّي يهدّد الكون حيث دأب المختصّون في الحروب على أبحاث الدّمار والخراب (قصيدة الجرذ والأرض).

الفصل الثّالث: رؤى

قصائد هذا الفصل تدور حول الشّعر والفنّ عامّة ويرى الميداني بن صالح فيها أنّ الشّعر هو المعبّر عن طموحات الطّبقات الكادحة في بحثها عن العدالة والحريّة عبر التّاريخ وهو بذلك يناقض مقول الفنّ للفنّ وتبدو قصيدة (من وحي الصّومعة) الواردة في آخر الدّيوان أقرب إلى هذا الفصل من الفصل الواردة فيه لأنّها جاءت ضمن السّياق التّنظيري للشّعر، والقصيدة في الأصل كتبها الميداني ردًّا على أحد الشّعراء المعاصرين له.

الفصل الرّابع: أشواق

يمكن أن تندرج هذه القصائد ضمن الشّعر الذّاتي الذي يُقال في المناسبات الخاصّة لما فيها من وشائج القُربى والصّداقة والمحبّة والوفاء ولكنّها برغم المناسبتية التّي قيلت فيها فإنّها تُعبّر عن كثير من الأبعاد الذّاتية والفكريّة لدى الميداني بن صالح.

الفصل الخامس: بطولة شعب

هو الشّعب التّونسي طبعًا الذي خاض معارك الاِستقلال في مناسبات عديدة خلّدها الشّاعر في هذا الفصل مثل الجلاء عند بنزرت وشهداء 9 أفريل 1938 وقد تغنّى كذلك بعيد الشّغل وعيد الاِستقلال وعيد الأمّهات بالإضافة إلى قصيد نداء الذي يدعو فيه إلى المنهج الإشتراكي في الاِقتصاد ذلك المنهج الذي جرّبته البلاد في الستّينات من القرن العشرين.

إنّ ديوان (قرط أمّي) يعبّر عن مسيرة الشّاعر الميداني بن صالح اِنطلاقًا من طفولته وشبابه إلى اِنخراطه في الحياة بتشعّب ميادينها وأبعادها المتعدّدة لذلك جاء ممثّلا لمرحلة هي مرحلة الكشف والمدّ في مسيرة هذا الشّاعر الذي لوّن شعره بألوانه الخاصّة وطبعه ببصماته الذّاتية وتلك لَعمري أهمّ خصائص العمل الإبداعي بمَا فيه من صدق ومعاناة وتوهّج ليحط الركب به أخيرا في تخوم التجربة الصّوفيه مع قصيدته ـ أقباس في كهف الظلمة ـ التي أبحر فيها نحو إشراقات الروح متجاوزا حدود الزمان والمكان محتفلا بالوجد والتماهي مع الكون حيث يقول

هذه ليلة عرسي
وانطلاقي
وعبوري
واندماجي
يا ليلة عيدي الموعود
يا ليلة عرسي وسعودي
يا فجر حنيني المنشود
يا موكب بعثي وخلودي
أصبحت طليقا…أجنحتي
تتجاوز كل محدودي

أما في قصيدة ـ في رحاب المتولّي ـ فإنه يجعل من النخلة المنطلق والأفق لرحلته الصّوفية التي كانت خاتمة مسيرته الإبداعية

نخلة أنتَ
وهذا الظل ظلّي
أنت يا راكبا لترحالي وحلّي
في متاهات اغترابي
وابتعادي واقترابي
أنت يا سجادة الوجد
إذا قمتُ
من الشوق إصلي
في فضاءات التجلّي

أمّا بعد …

وحدها قراءة القصائد وشرحها والوقوف عند خصائصها في المعنى والمبنى، واحدة تلوَ واحدة في كلّ ديوان ثمّ إيجاد علاقات الوصل وحدود الفصل بين الدّواوين نفسِها ثمّ وضعها في سياقها الشّخصي والتّاريخي ودراستها من المداخل النّفسيّة والاِجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة والأسلوبيّة وغيرها، بجميع ذلك يتسنّى لمسيرة الميداني بن صالح أن تُوضع في المنزلة الجديرة بها فهو من الشّعراء العرب القلائل الذين حافظوا على خصائصهم الشّعريّة تلك التّي تُميّز نصوصهم بسهولة من بين ركام النّصوص الأخرى.

إنّ نصّ الميداني بن صالح قد حجبته شخصيّة الميداني بن صالح بما فيها من ثراء وتنوّع على مدى أكثر من نصف قرن وقد آن الأوان أن ننظر إلى هذا النّصّ بعيدًا عن كلّ الملابسات الأخرى الظّرفيّة لأنّ النّص الشعريّ هو الأبقى.

سُوف عبيد

متابعة قراءة من القرط إلى النخلة…مقاربة في شاعرية الميداني بن صالح

تحت الشّمس ـ قصيد سُوف عبيد ـ ترجمة طاهر البكري

تحت الشّمس

لا أحدَ يُلازمك
ويُشبهُك أكثرَ من الجميع
مثلُ ظلّك
ظِلّك أنتَ
تسيرُ يسيرُ
تقفُ يقفُ
تمُدُّ يدَك يمُدُّ يدَه
يُطيعُك يُطاوعُك
رفيقُك أنيسُك
أنتَ هُو…هو أنتَ
إذا غابت الشّمس
يتخلّى عنك
تجدُ نفسَك وحيدًا
وحيدًا
يُداهمُك الزِّحامْ
فتمضِي وحدَك
بدونه
…! إلى الأمام

Souf Abid

Sous le soleil

Personne n’est plus proche de toi

Et te ressemble plus que tous

Comme ton ombre

Ton ombre à toi

Tu marches elle marche

Tu t’arrêtes elle s’arrête

Tu tends ta main elle tend sa main

Elle t’obéit t’est fidèle

Ta compagne ta belle compagnie

Tu es elle elle est toi

Si le soleil s’en va

Elle te quitte

Tu te retrouves seul

Seul

Assailli par la foule

Tu poursuis seul

Sans elle

Vers l’avant

Trad. par Tahar Bekri