ذاتَ مكان… ذاتَ زمان
ــ مع الشّاعرحسين العُوري ــ
بقلم سُوف عبيد
كانت دار الثقافة اِبن خلدون بالعاصمة تونس في سنوات سبعينيات القرن العشرين فضاءً ثقافيا نشيطا يعجّ طيلة أيام الأسبوع بمختلف البرامج المفيدة والمممتعة في السينما والمسرح والأدب والشعر والمسرح والموسيقى وكان نادي الشّعر من بين أبرز علاماتها حيث كان يجتمع أعضاؤه مساء كل يوم جمعة فيلتقي فيه الشعراء التونسيون وغيرهم من الشعراء العرب أحيانا وكنّا وقتذاك نرنو إلى كتابة شعر جديد ولكن من منطلقات فكرية وفنّية متعدّدة ولا شكّ أنّ ذلك التنوّع والاِختلاف بيننا هو الذي قد أذكى فينا الطموح والسّعي إلى الإضافة والتنوّع وذلك ما جعل ـ تقريبا ـ كلّ شاعر من جيل السبعينيات يحاول أن ينحت أسلوبه وبصماته في نصوصه ,في هذا الفضاء الثقافي الزّاخر أُتيح لي أن أتعرّف على أغلب الشعراء والأدباء التونسيين وحتّى العرب الذين عاصرتهم من محمد المرزوقي ومنوّر صمادح وهشام بوقمرة إلى مختار اللغماني وعبد الحميد خريف وعبد الله مالك القاسمي وهناك عرفت عن قرب الصديق الشاعر حسين العوري وتوطّدت الصداقة بيننا أكثر عندما صرنا نلتقي أكثر في مدينة رادس حيث جمعتْنا سَكَنًا وتدريسًا والمناسيات الأدبية والثقافية التي اِنتظمت فيها .
الأول على اليمين الشاعر محمد العوني والصحفي محمد بن رجب
وفي الصف الثاني يبدو على اليمين الشاعر على دّب ـ حسين العوري ـ وسُوف عبيد
ذاتَ مكان ذاتَ زمان
ـ ظمأ الينابيع ـ هو عنوان المجموعة الشعرية لصديقي الشاعر حسين العوري وقد صدرت في نفس الفترة تقريبا مع مجموعتي ـ اِمراة الفسيفساء ـ وكذلك مع مجموعة صديقنا الشاعر علي دَبْ التي بعنوان ـ تعجّلت الفرح ـ وقد أصدرتْ هذه المجموعات جميعا ـ دار الرّياح الأربع ـ التي كان يديرها الصديقان عبد المجيد الجمني وبوجمعة الدنداني وبهذه المناسبة نظّمت الدار أمسية شعرية بهيجة بالطابق العلوي الشاهق لفندق ـ إفربقيا ـ الفخم وسط العاصمة تونس وكان الشاعر حسين العوري أحد الشعراء المشاركين في تلك المناسبة وقد لاحظ أحدُ الحاضرين من الأصدقاء أنّ الأمسية كانت كأنها مخصصة لشعراء مدينة رادس لأن ثلاثتنا من متساكنيها وكنا نلتقي في أغلب المناسبات الثقافية والأدبية التي تنتظم بمختلف الفضاءات فيها ولا شكّ أن صديقنا حسين العوري هو أحد العلامات الأدبية الفاعلة في مدينة رادس وغيرها بما لديه من أنشطة ومساهمات ثقافية متعدّدة بالإضافة إلى مسيرته الأدبية والعلمية وقد أكسبه كل ذلك المصداقية والتقدير .
لقاء شعريّ في مدينة بنزرت ـالأوّل على اليمين الشاعر حسين العوري ـ نوالدين صمود ـ سُوف عبيد ـ محجوب العياري ـ
الصف الثاني الأول على اليمين ـ محمد المَيْ ـ قاسم حداد من البحرين
ذات مكان ذات زمان
كانت ليلة شتاء باردة تلك التي قضيناها في مدينة بنزرت بمناسية مشاركتنا في مهرجان الشّعر الذي كان يشرف عليه صديقنا الشاعر البشير المشرقي وهو مهرجان اِستمرّ سنوات عديدة وكان منبرا لكثير من الشعراء التونسيين وفي دورته الأولى أو الثانية تعرفت على الأديب محمد المَيْ حينما كان تلميذا…على إثر تلك الأمسية اِستوقفني بأدب واِحترام وطلب مني نسخة من قصيدي ـ زمن الأزمنة ـ
في تلك الليلة كان رفيقي في غرفة الفندق الصديق حسين العوري وما أخذنا النّعاس إلا على هَدْهَدَةِ الشّعر وقد لسعنا البرد المتسرّب من الشّرفة البحرية…تلك الليلة ـ على كل حال ـ كان حالنا فيها أحسن من حال بيرم التونسي وقد أحرق ذات ليلة شتوية في باريس أوراق كتبه ورسائل أصدقائه ليتدفأ ويشوي بصلة !
ذات مكان ذات زمان
قطار بغداد البصرة اللّيلي وما أعجبه من قطار…!! اِنطلق بنا ذلك القطار الخاص بشعراء مهرجان المربد سنة 1986 بعدما تناولوا من العشاء ومن الشّراب أيضا ما لذّ وطاب وقد أخذوا مقاعدهم في العربات بعد شيء من الفوضى ولا عجب فقد يُباح للشعراء ما لا يباح لغيرهم عند الضرورات الشعرية ولكن صديقنا حسين العوري حريص دائما على اِحترام القواعد اللغوية ولا يستعمل في شعره الجوازات العروضية إلا نادرا لذلك فالسّفر برفقته ومع الصديق الشاعر يوسف رزوقة عبر بلاد بعيدة وفي حالكة اللّيالي أنس وأمان …
ما كادت الضياء تلوح من نافذة القطار وتُبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود حتى بدا النخيل باسقا على مدى البصر صفوفا صفوفا في اِتساق عجيب وبعد ما مضت برهة قصيرة ومع اِنتشار خيوط شمس الصباح لاحت العراجين متدلية من النخيل والقطار ما فتئ يمضي وسط الواحات وعلى جانبيه الجداول الصغيرة تنساب رقراقة وتَسيح نحو السواقي فما أبهجه من منظر تحت شمس الضحى وهي تعلو على مدينة البصرة …مدينة الجاحظ ومدينة بدر شاكر السياب وقد اِنتصب تمثالُه فيها حِذو شاطئها حيث يلتقي نهر دجلة بنهر الفرات لكن يا لهول ما رأينا إذ رأينا تمثاله وقد اِخترقه الرصاص والشظايا وحتى كتابه الذي في الجيب لم يسلم من قصف المدينة أثناء الحرب التي لم تضع أوزارها بين العراق وإيران وهي الحرب التي تستهدف البلدين معا والتي كنّا دعونا في مناسبات عديدة إلى وقفها ولكن ولا مَناص من أن نساند الشّعب العراقي في محنته وداعين إلى السّلام والمصالحة في نفس الوقت عند تمثال السيّاب اِلتقط لنا أحد الأصدقاء صورة لا شكّ أنها ما تزال لدى الصديق حسين العوري لأنها بمصورته الدقيقة والتي تصاحبه في حلّه وترحاله وفي البصرة أنشدنا قصائدنا على منبر بَهيّ وفي قاعة فسيحة الأرجاء حيث كان الحاضرون يُعَدّون بالمئات ويتابعون بإنصات واِهتمام فكانت أمسية شعرية من أجمل الأمسيات لولا تلك الشّجون الأليمة…كم أثخنتك الجراح يا عراق…!؟
عند تمثال السيّاب بالبصرة سنة 1986
من اليمين ـ حسين العوري ـ أبوبكر الصغيّر J يوسف رزوقة ـ سُوف عبيد
ذات مكان ذات زمان
مِنْ ألبُوم صُوَري صورةٌ حديثة مع صديقي الشاعر حسين العوري اِلْتقطتُها له أمام المنزل الذي أقام فيه أبو القاسم الشابي في طفولته مع عائلته بمدينة زغوان عندما تولّى والده فيها القضاء وقد دلّني إليه مرافقُنا وهو من تلك المدينة وقد سألته عنها بعدما عرفت وتأكدت من سعة اِطلاعه على تاريخ المدينة ودقائق بناياتها وهو رجل تعليم قديم على قدر كبير من الثقافة والدّراية
كان ذلك بمناسبة رحلة نطّمتها جمعية المتقاعدين برادس في ربيع 2017 إلى مدينة زغوان…نعم يا صديقي أمسينا ضمن المتقاعدين وقد دخلنا حينئذ مرحلة جديدة من العمر بعد عشرات السّنين من التدريس والعطاء واليوم حان الوقت لوداع المحفظة ولكننا سنواصل النشاط الأدبي والثقافي كلما أتيحت لنا الفرصة وسنخصّص جميع وقتنا لمزيد من القراءة والكتابة فهذه هي الأيام التي كنا نحلم بها حيث لا تعوقنا التزامات أو تصُدّ من مهجتنا ضرورات التدريس والاِمتحانات فالحمد لله أننا بلغنا هذه الأمنية فالأديب في بلادنا وفي عصرنا لا يستطيع أن يعيش كريما وحُرّا بقلمه إلا إذا جعله في خدمة السلطة وما لديها من أبواق ومنابر فهو يحصل حينئذ على المزايا والمكرمات ولكننا عشنا وأنوفنا شامخة فما حقّقناه وكسبناه ـ إن كان قليلا أو كثيرا ـ كان عن جدارة وبشرف ومعاناة ومكابدة وإن كان في مسيرتنا بعض العثرات فهي من الحُفر والتحديّات التي اِعترضت طربقنا ونحن نَكِدّ ونجتهد بلا مَلل ولا كلل ولم نجلس على الرّبوة أو نقفْ وراء الجدار أو ندسّ رؤوسنا في التراب ولم نسلك السّبل السّهلة وإنّما حاولنا فنجحنا حينا ولم نحقّق ما نصبُو إليه أحيانا… ولكن ورغم ذلك كان سعيُنا صادرًا عن سريرة خير ومحبة للبذل والعطاء وتوق إلى الجمال
وسنواصل… رغم الخيبات والتحديّات
قصائدُنا ونُصوصُنا وحتّى صُورنا وحدها هي الشّاهدة وبوصلة القلب هي الدّليل
أمام منزل أبي القاسم الشابي في زغوان
حسين العوري على اليسار برفقة السيد الذي أرشدنا إلى المنزل
صورة الاِحتفاء في القاعة الكبرى بدار الجمعيات بمدينة رادس بصدور ـ ديوان سُوف عبيد ـ بمبادرة من الصّديق حسين العوري وبحضور الأصدقاء