نحو مشروع ثقافيّ تونسيّ جديد

ــ 1 ــ

مع سنوات منتصف القرن التاسع عشر ظهر في تونس مشروع حضاري متكامل يتلخّص في مقولة ـ الإصلاح ـ يشمل النّواحي السياسية والاِجتماعية والدّينية والتعليمية وتجلّى ذلك المشروع الحضاري خاصة في قرار تحرير العبيد وفي تأسيس المدرسة الحربية وإعلان الدّستور وتأسيس المدرسة الصّادقية للمزاوجة بين الأصالة التونسية والمدنيّة الأوروبية فنشأ ضمن هذا المشروع الحضاري العام منهج ثقافي متكامل سار على دربه أعلام حملوا مقولاته منهم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه ـ أليس الصبح بقريب ـ وفي تفسيره ـ التحرير والتنوير ـ والشيخ عبد العزيز الثعالبي في كتابه ـ روح التحرّر في القرآن ـ وكتابه ـ تونس الشهيدة ـ وكذلك الطاهر الحداد في كتابيه ـ العمال التونسيون ـ و ـ اِمرأتنا في الشريعة والمجتمع ـ وفي الشعر أبو القاسم الشابي ومصطفى خربّف وفي الفنون التشكيلية حاتم المكّي وقد اِنطلقت الحركة الوطنية من أسس ذلك المشروع الثقافي وأدبيّاته وتخرّجت مختلف أجيالها من مؤسّساته
ــــ 2 ــــ


عندما حقّقت تلك الأجيال الاِستقلال في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين سارعت الدّولة الوطنية وفي فترة عشر سنوات فقط من إرساء منظومة ثقافية شاملة ومتكاملة تتكوّن أساسا من اللجنة الثقافية الوطنية التي تتفرّع عنها لجان ثقافية في كل ولاية ومعتمدية وأُحدثت عديد النوادي الثقافية مثل النادي الثقافي الطاهر الحداد والنادي الثقافي أبو القاسم الشابي بالوردية والنادي الثقافي علي البلهوان ونادي القصة وقد عمّت دُور الثقافة أغلب المدن فكانت تعجّ بالشباب من هواة فنون السينما والمسرح والأدب والرسم والموسيقى ونذكر منها مثلا دار الثقافة اِبن خلدون ودار الثقافة اِبن رشيق ودار الثقافة بصفاقس وقفصة وبنزرت والقيروان وغيرها ولا شك أن لوزارة الثقافة التي على رأسها الأستاذ الأديب الشاذلي القليبي الدّور الأساسي في تلك الاِستراتيجية الثقافية التي شملت تأسيس الفرق الجهوية للمسرح ومن بينها خاصة فرقتا الكاف وقفصة وتأسيس أيام قرطاج السينمائية والفرقة الوطنية للفنون الشعبية واِستقبال الأديبين الكبيرين طه حسين وميخائيل نعيمة لتونس إلخ….ناهيك عن إنشاء المكتبات العامّة والمكتبات المتجوّلة وحافلات السينما في الأرياف والبوادي وعاضد تلك الحركات الثقافية إنشاء الشركة التونسية للإنتاج السينمائي وشركة النّغم للإسطوانات ثمالدّار التونسية للنشر والشركة التونسية للتوزيع فصار الكتاب التونسي مرجعا وعنوانا للثقافة الوطنية ليتحرّر من دور النشر في الشرق والغرب واِنتشرت مجلات ثقافية رائدة مثل ـ الفكر ـ التجديد ـ قصص ـ وظهر ديوان أغاني الحياة للشابي والسّد للمسعدي وشوق وذوق لمصطفى خريّف وبقايا شباب لمحمد المرزوق وقلب على شفة لأحمد اللغماني وسلسلة البعث لمحمد أبي القاسم كرّو ودواوين منوّر صمادح وبرزت أسماء ثقافية جديدة مثل محجوب بن ميلاد وفريد غازي ومحمد الطالبي والطاهر قيقة ومحمد العروسي المطوي ومحمد مزالي وبدأ جيل ثقافي آخر يبشّر بحضوره المؤثر والمختلف والفاعل ثقافيا وسياسيا أيضا ألا وهو جيل الجامعة التونسية بمختلف كلياتها…ولاحت في الآفاق الفنيّة أسماء جديدة ففي المسرح نذكر مثلا علي بن عيّاد وعمر خَلفة وفي السّينما أحمد الخشين وعُمار الخليفي وفي الفنون التشكيلية الهادي التركيي ومحمود التونسي وفي الأغنية بدأت تعلو نجوم جديدة مثل نعمة وعليّة وأحمد حمزة وفي الموسيقى قدّور الصّرارفي ورضا القلعي والطاهر غرسة …وقِسْ على ذلك بقيّة الفنون والمعارف كلّ ذلك صار في ظرف عشر سنوات ـ فقط ـ من الاِستقلال
ــ 3 ــ
على مدى السّنوات الأولى من الدولة الوطنية كان حال البلاد الاِجتماعي والاِقتصادي والإداري وكفاءاتها العلمية ومواردها المالية وغيرها أقلّ بكثير من وضعها سنة 2011 تلك السنة الحاسمة التي عرفنا بعدها هدمًا مُمنهجا للصّروح الثقافية التي كانت قائمة فبَدَل أن تبدأ مراجعة أهداف تلك المنجزات الثقافية وبرامجها المختلفة مع إعادة النظر في المُشرفين عليها لتواكب التطلعات الجديدة لتونس ولتعبّر عن آفاقها القادمة رأينا تخفيض ميزانية وزارة الثقافة وحلّ اللّجان الثقافية مع التضييق على الجمعيات الثقافية العريقة ذات المصداقية والمستقلة باِشتراط قائمة من الأوراق الإدارية المُجحفة لكأنها شركات كبرى وهي التي تنشط بتطوّع أعضائها لا غير…نذكر مثلا جمعيات ـ نادي القصة ـ جمعية قدماء الصادقية ـ جمعية ابن عرفة الثقافية ـ نادي مصطفى الفارسي…فكادت هذه الجمعيات تقتصر على اِجتماعاتها الدّاخلية من حين لآخر محافظةً على وجودها واِندثرت ملتقياتها ونواديها ونشرياتها مثلما اِمّحت وغابت من صدى النشاط الثقافي عشرات الندوات والملتقيات الجادة التي كانت في كامل أنحاء البلاد من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها…أين مهرجانات المسرح والسينما والفنون التشكيلية والفن الشعبي والشعر الشعبي والقصة والرواية وأين ملتقى ابن منظور في اللغة وملتقى اِبن عرفة في التراث وملتقى القلصادي في الرّياضيات وملتقى الإبياني في العلوم وملتقى اِبن رشيق في النقد ؟…أين تلك المواعيد الثقافية الزاهرة في بنزرت وتطاوين وفي قرقنة وبوسالم وعين دراهم والمتلوي وقليبية وقُربة والمطوية وماجل بالعباس ومنزل عبد الرحمان وزغوان والقلعة الكبرى والمحرس وغيرها ؟
كان من المفيد بعد 2011 أن يتمّ تطوير هذه المنجزات الثقافية ومراجعة أهدافها وطرق تسييرها ودعم مواردها ولكن عوضا عنها لاحظنا اِنتشار ثقافة الاِستهلاك وتغييب الكفاءات العلمية والإبداعية وإبراز مظاهر الشعبوية واِحتفاء بأعمال مبتذلة لا تساهم إلا في تدنّي الذّوق وتفشّي الرّداءة وحتى حرية التعبير التي تحققت إلى حدّ بعيد تحوّلت إلى شتيمة وهتك أعراض وبذاءة قول وأخيرا انتهى حتى التعبير عن رأي أو نقل تدوينة على صفحة خاصة إلى أحكام بالسجن
ــ 4 ــ
كان من المفروض مثلا أن تُدعى هيأة ثقافية مشهود لها بالكفاءة والمصداقية من جميع المعارف والفنون وممثلة للأطياف الثقافية لتُشرف على برمجة ـ المدينة الثقافية ـ التي لاحظنا أن أنشطتها لا تختلف عن أيّ دار ثقافة أخرى في البلاد لو تمكّنت من ميزانيتها ؟
وخلاصة القول أنه يجب إرساء اِستراتيجية ثقافية واضحة وشاملة فتجعل المكتسبات الماضية رصيدا لها وتتجاوز ما لم يعُد يستجيب للطموحات الجديدة وتنبثق هذه الاِستراتيجية من ـ مشروع ثقافي وطنيّ ـ يكون نتيجة لحوار واسع تساهم في إرسائه الأطراف الفاعلة في المجتمع ويكون ذلك من خلال مجلس وطني للثقافة تنبثق منه مختلف الأهداف والوسائل …
نعم نحن في أشدّ الحاجة إلى مشروع ثقافي جديد يعتز بعبقرية شخصيتنا التونسية الضاربة في التاريخ والمتطلعة نحو المستقبل وكي لا يقال مرة أخرى في محفل رسميّ بقصر الإيليزي إن الاِستعمار الفرنسي لتونس كان فقط معاهدة حماية !!

حول سوف عبيد

* من مواليد موسم حصاد 1952 وسُجّل في دفتر شيخ المنطقة بتاريخ يوم 7 أوت 1952 ببئر الكرمة في بلد غُمراسن بالجنوب التونسي درس بالمدرسة الاِبتدائية بضاحية ـ مِقرين ـ تونس العاصمة سنة 1958 ـ بالمدرسة الابتدائية بغُمراسن سنة 1960 ـ بالمدرسة الابتدائية بنهج المغرب بتونس سنة1962 ـ بمعهد الصّادقية بتونس سنة 1964 ـ بمعهد اِبن شرف بتونس سنة 1969 * تخرّج من كلية اﻵداب بتونس بشهادة ـ أستاذية الآداب العربية ـ ثمّ في سنة 1976 بشهادة ـ الكفاءة في البحث ـ حول ـ تفسير الإمام اِبن عَرْفَة ـ سنة 1979 * باشر تدريس اللّغة العربية وآدابها بـ ـ معهد اِبن أبي الضّياف بمنّوبة ـ المعهد الثانوي ببوسالم ـ المعهد الثانوي بماطر ـ معهد فرحات حشاد برادس * بدأ النّشر منذ 1970 في الجرائد والمجلات : الصّباح ـ الملحق الثقافي لجريدة العمل ـ الصّدى ـ الفكر ـ ألِف ـ الحياة الثقافية ـ الموقف ـ الشّعب ـ الرأي ـ الأيام ـ الشّرق الأوسط ـ القدس,,,وبمواقع ـ دروب ـ إنانا ـ المثقّف ـ أنفاس ـ أوتار ـ ألف ـ قاب قوسين ـ … * شارك في النّوادي والنّدوات الثقافية بتونس وخارجها : ليبيا ـ الجزائر ـ المغرب ـ مصر ـ العربية السعودية ـ الأردن ـ سوريا ـ العراق ـ إسبانيا ـ فرنسا ـ إيطاليا ـ ألمانيا ـ بلجيكا ـ هولاندا ـ اليونان ـ * من مؤسسي نادي الشّعر بدار الثقافة ـ اِبن خلدون ـ بتونس سنة 1974 واِنضمّ إلى اِتّحاد الكتاب التونسيين سنة 1980 واُنْتُخِبَ في هيئته المديرة في دورة سنة 1990 أمينا عاما ثم في دورة سنة 2000 نائب رئيس فساهم في تنظيم مؤتمر اِتحاد الأدباء العرب ومهرجان الشعر العربي بتونس سنة 1991 وفي إصدار مجلة ـ المسار ـ وفي تأسيس فروعه وفي تنظيم الندوات والمهرجانات الأدبية وشارك في الهيئة الاِستشارية لمجلة الحياة الثقافية وأسّس منتدى أدب التلاميذ سنة 1990 الذي تواصل سنويا في كامل أنحاء البلاد إلى سنة 2010 ونظّم الملتقى الأوّل والثاني لأدباء الأنترنت بتونس سنتي 2009 و 2010 وأسس نادي الشعر ـ أبو القاسم الشابي ـ سنة 2012 وترأس جمعية ـ اِبن عرفة الثقافية ـ سنة 2013 و2014 وأسس جمعية مهرجان الياسمين برادس 2018 * صدر له 1 ـ الأرض عطشى ـ 1980 2 ـ نوّارة الملح ـ 1984 3 ـ اِمرأة الفُسيفساء ـ 1985 4 ـ صديد الرّوح ـ 1989 5 ـ جناح خارج السرب ـ 1991 6 ـ نبعٌُ واحد لضفاف شتّى ـ 1999 7 ـ عُمرٌ واحد لا يكفي ـ 2004 8 ـ حارقُ البحر ـ نشر إلكتروني عن دار إنانا ـ 2008 ثم صدر عن دار اليمامة بتونس ـ 2013 9 ـ AL JAZIA ـ الجازية ـ بترجمة حمادي بالحاج ـ 2008 10 ـ ألوان على كلمات ـ بلوحات عثمان بَبّة وترجمته ـ طبعة خاصة ـ 2008 11 ـ حركات الشّعر الجديد بتونس ـ 2008 12ـ صفحات من كتاب الوجود ـ القصائد النثرية للشّابي ـ2009 13 ـ oxyde L’âme قصائد مختارة ترجمها عبد المجيد يوسف ـ2015 14ـ ديوان سُوف عبيد ـ عن دار الاِتحاد للنشر والتوزيع تونس2017